Sunday, January 2, 2011

قصيدة واحدة تكفي


قصيدة واحدة تكفي


ديما الشكر


في إحدى جلسات مجلة "شعر" قرأ أدونيس قصيدة لمحمد الماغوط بحضوره وفي حضور شعراء "نجوم" مغفلاً عن قصد اسم الشاعر. وحين سأل أدونيس الحضور النجوم، إن كانوا يعرفون لمن القصيدة، احتاروا بين بودلير ورامبو، بيد أن أدونيس الذي كان قد التقط جمرة نص الماغوط وعمّدها شعراً، أشار بهدوء إلى الرجل وقال مفاجئاً الحضور: "هذا هو الشاعر".
روى محمد الماغوط هذه الحادثة لخليل صويلح الذي قيّدها كما قيّد غيرها في الكتاب - الحوار (اغتصاب كان وأخواتها) الصادر في دمشق لدى "دار البلد" عام 2002.
لعل في استعادة تلك الحادثة، ما ينفع الذكرى اليوم وقد أطفأ الماغوط عمره ورحل عنّا (1934 - 2006)، مخلِّفاً لنا قصائد ومسرحيات ونصوصاً وتصريحات كثيرة وعديدة، كرّسته شاعراً "كبيراً" لقصيدة النثر.
كأنما التنظير الفضفاض لقصيدة النثر - آنذاك والمستمر إلى اليوم - وجد في نصوص الماغوط شرعية لا بدّ منها، من أجل الانطلاق قدماً في طريق الحداثة الشعرية. لكنّ نص الماغوط الآتي من "خارج" التنظير، كما تُثبت ذلك جليّاً الحادثة أعلاه، يختلف عن قصيدة النثر التي بُشِّر بها، في نقاط أساسية ومفصلية: لم يكتب الماغوط قصائد غير موزونة عمداً ومن أجل التحرر من الوزن. ولم يتقصد خرق القواعد النحوية، ولا الجنوح نحو مبدأ الفوضى في التركيب. ولم يكتب قصيدة "مجانية". ولم يكتب مطلقاً قصيدة غامضة تعتمد التجريد أساساً في وصف عوالم داخلية لا طائل منها. إنما كتب على العكس من ذلك كلّه، وتكفي قراءة قصيدة واحدة للماغوط، للتعرّف دفعةً واحدة الى إنتاجه كلّه. فهو الذي كتب نصوصاً بلا وزن، لأنه لم يَنظر إلى نصوصه أصلاً في اعتبارها قصائد، قدر ما اعتبرها احتجاجاً صارخاً على واقعه البائس، فلم يتوقف يوماً ويدقق مطالباً بالانتماء إلى قصيدة النثر، بل هي التي أتت إليه. ولم يتعمد الماغوط خرق القواعد النحوية، كأن يقدّم الفاعل على الفعل، أو يضيف أداة التعريف إليه. بل أكثَرَ من اللجوء إلى أدواة النداء (أيها، أيتها، يا) في قصائده بصورة واضحة. وفي الأمر دلالةٌ على رغبة جامحة في استحضار مخاطَب حسيّ لا مجرد، ليس إلا الديكتاتور أو الطاغية، أو حذاء الضابط، أو الحزن:

 "أظنها من الوطن
 هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين
 أظنها من دمشق
 هذه الطفلة المقرونة الحواجب
 هذه العيون الأكثر صفاءً
 من نيران زرقاء بين السفن.
 أيها الحزن... يا سيفي الطويل المجعد
 الرصيف الحامل طفله الأشقر
 يسأل عن وردة أو أسير
 عن سفينة وغيمة من الوطن
(من "جنازة النسر").
لقد تحول هذا المخاطَب في نصوص الماغوط إلى موضوعات ثابتة في قصائده، على نحو كرر فيه دائماً تذمره منها وثورته عليها، بصورة أفضت في نهاية المطاف إلى إنشاء بصمة خاصة بالماغوط لا يمكن تقليدها أو استنساخها، لكثرة ورودها في قصائده. من هنا، لم يكن ممكناً أن ينجح "شاعر" جديد منتمٍ عن سابق قصد وإصرار إلى "قصيدة النثر" في إعادة تكرار ما هو مكرر أصلاً، وخصوصاً أن نجاح الماغوط في ذلك، يعود في الدرجة الأولى إلى عفوية بناء القصيدة وبساطتها من ناحية، وإلى أن الشاعر تكلّم فيها دائماً بصوت الفقراء والمهمشين بالطبع لا بالتطبع، وصوّر نفسه ضحيةً بامتياز لأنظمة القمع والاستبداد من ناحية أخرى. عند هذه النقطة بالذات استطاع الماغوط أن يكتب لا "قصيدة النثر" المترفة بتنظيرها، وإنما استطاع كتابة ذلك النص الذي يمس وجدان شريحة كبرى من الشعوب العربية، ليظهر كمعبّر حقيقي عن صوت الجماعة المقهورة وعمّا تختزنه من آلام ومآسٍ لمّا تنته بعدُ.
بيد أن تميّز الماغوط في إضفاء حسية واضحة على مخاطَبه، وتصويره بصورة مادية، من طريق أدوات النداء، لعب دوراً كبيراً في تحويل وجهة القصيدة نحو المسرح. ذلك أن النقاط المميِّزة أعلاه لنص الماغوط، أخذت أبعادها ومداها في نصوصه المسرحية الشهيرة التي نجحت في تربتها السورية، وبصورة أدق عند زواجها الأبدي بالممثل السوري القدير دريد لحام، قبل أن تعرف نجاحاً باهراً في المدن والعواصم العربية التي عُرضت فيها. وبعد، فإن النظر في نصوص الماغوط الشعرية منها أو النثرية أو المسرحية، يُبطن مفارقات تنبئنا ببؤس التنظير الذي استند إلى ألم السجين المعذب الفقير، ليجد "التوهج والكثافة والمجانية والإيقاع الداخلي"، ويدشّن أريستوقراطية "قصيدة النثر" بدلاً من أن ينتمي إلى النقد ويدقق في الألم الذي لا يطاق، الذي سمح للنص الشعري بالانطلاق بسلاسة نحو النص المسرحي، ليخاطب اثنين، طاغية لا يسمع، وجمهوراً يصغي إلى نفسه، إلى كلامه اليومي، ويرى قهره واغتصابه، فيبكي ويضحك من شدة البؤس.

No comments:

Post a Comment