مات محمد الماغوط. من يصدّق! الآن عرفت لماذا كان إليوت يكره شهر نيسان. فالذي كان يغرد خارج حدود العرب وأوطانهم أجمعين مات. مات الذي بقي يحلم وهو على عكاز في بلاد تشبه الشعر إلى حد بعيد، تاركا وراءه شجرته العظيمة وأعمدة وقوارب منهكة وزرقة، وشحوبه الذي لطالما اتصف به. مات محمد الماغوط الذي لم ينتم إلا إلى نفسه ولغته وبرّيته، التي لم يستطع أحد منا اللحاق به إليها. في كل لحظة من كتابته، كان ثمة مجازفة ومرارة ضرورية في كل سطر، والخيط الممدود بين لغته وحياته اليومية أشبه ما كان بسرّ خاص به. لم يضع نفسه في مواجهة مقصودة مع البلاغة وحرّاسها، ولم يكن يستطيع أن يتخيل أن الشعر يمكن لجمه بين أسوار الأكاديميات والفلسفة التي لا طائل لها وهي تشرّحه في غرف العناية الفائقة. كان ناسخ نفسه، هذا البدوي الذي نزل من أصقاع الريف القاسي إلى المدن، وقلبه وحذاؤه تحت إبطيه. إن اختزال الماغوط في لحظة موته هذه قد تظلمه، هذا الذي سيبقى نحس الشعراء وهم يحرثون اللغة في أرضه الملغّمة. ستكون خسارة أكيدة ومزعجة لكثيرين، ولن تنفع كل أنواع الأسلحة المضادة لأنه كان يكتب أشياء يود نسيانها، وكان قدره أن يهبط من اللغة العربية حين أعاد إليها الحياة في ثقافة الموت. قصائد تركض عارية في المدن المحجّبة والمسكونة بالرعب، أشبه بنداء قصيّ في صحراء، وأوطان هي هذيانات مكانية لم يستطع أن يكون واحداً من حكمائها، هو المستوحش والغريب والمتجهم، وظمأه تحت لسانه، بالكتف المغبرّة والعاطفة الراسخة كجبال الأساطير القديمة. ها نحن نستعيده في الصحو، ومن دون حراك سنتلمس قلبه الذي يرفّ تحت التراب. نحسده ونحن نصدق أنّ في إمكان الشاعر أن يكون حارس الأبدية بساق جريحة، أو عرضة للفناء على هذا الشكل.
أزيحوا تماثيل الجنرالات ولو قليلا تحت شمس هذا الشهر. دعوه يمر، يا للحسرة. كل ما حفظناه من لمح عينيه القويتين سيذوي ونحن نتدرب على سرقة لمعانهما. لم يورثنا إلا الحواف المسننة وأجنحة من الشمع ومدنا ميؤوسا منها، مدنا لا تزال تنام على ألحان المارشات والشجر المحروق على مهل. كنت لا أصدق أن الشاعر يموت هكذا على حين غرة من لحم ودم، وبكل هذا النضج الهائل سيجفّ وسيُحشر لحمه نيئا بين صفائح الرخام، حيث هنا سيقوّي عزلته التي كان يستشرس في الدفاع عنها. كل ذلك الشعر، وكل هذا الخدر، وكل تلك التخوم التي تهافت عليها، وكل ذلك العوز الرومنسي إلى حرية متوهمة، لم ينقذ قلبه من أن لا يتوقف، وهو الشاعر الذي يكاد يكون الوحيد الذي لا أملّ من قراءته مرات ومرات وبشغف لا يضاهى، وحيدا معه في التيه وفي السجن العربي الشاسع المربوط بكسرة الخبز والصحون الطائرة في الخطابات. هل من تمثال له على أطراف البادية، حديقة وبضعة رفوف عليها كتبه. أو رسم صغير لرجل طاعن أحنته مفاتيح الأرض الخراب الثقيلة. ترى، لمن سأدين بهذه الصحبة، صحبة الأب في "الفرح ليس مهنتي" من مكتب البريد الى الجامعة، أيام دمشق، الى المقهى والحي الذي كنت أسكن فيه، ثم وسادة النوم إلى صوره أيام مجلة "شعر" مع أنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة ونازك الملائكة وأدونيس ولور غريب وليلى بعلبكي ، إلى كلامه الآسر عن بدر شاكر السياب. ترى من يستطيع نسيان تلك المقالات التي كتبت أيام مجلة "المستقبل" مع نبيل خوري ورياض نجيب الريس. مجرد رمية الحجر هذه على هامش صفحة مذهولة، ستذكّرني بسياف الزهور الذي كان يتمرن على النظر نحو الشمس من وراء شباك مكسور. سأتحلى برباطة جأش وأنا أتخيله عائدا إلى سفوح مدينتي وفي يده شمعة تضيء له القبر وربما تنطفئ، وليس لديَّ من تسميات لكل تلك الشاعرية التي كانت تأسرني في كتبه وطريقة مشيته محنياً وساخراً وصاحب نكتة مريرة، في الحلم وتجربة العيش، نقلها حتى إلى شعره الذي كسر ذلك التناظر والزخرفة اللفظية التي داخت بها مدوّنات كثيرين. بالحمية نفسها لن أتمكن من ضبط نفسي وأنا أدفع حصتي من وهمٍ دفع بي إلى بلاد لا تُرى بالعين المجردة، باحثاً عن والت ويتمان على ضفاف البحيرات وفي شوارع هارلم. وكم كان محمد الماغوط لصيقاً وقريباً، أنا المذهول لرفقته لي حين أستدعي النادل في البار لأدفع قيمة الزجاجات التي سفحناها معاً قرب الهدسون.
قلت لزوجتي: مات الماغوط. ردّت: من زمان كان مبيّن أنّو بدّو يموت.
No comments:
Post a Comment