Monday, January 17, 2011

الشعر مستعصياً


الشعر مستعصياً

بلال خبيز


غياب محمد الماغوط قد يكون حجتنا، نحن الذين ما زلنا على علاقة ما بالشعر من قريب او بعيد. حجتنا لنفكر ملياً في المعنى الذي نريد ان يودي شعرنا إليه. محمد الماغوط كان الشاعر الوحيد الذي لم يهاجمه الشعراء. العلة كانت في انه يكتب القصيدة ويدير ظهره للجمهور. في آخر حديث له، بدا الرجل كما لو انه يستذكر إلى أي حد كيل له المديح. سأله الزميل عبده وازن إن كان يحب المديح، فأجاب من دون تردد: أكره المديح. والحق اننا كنا على الأرجح، ونحن نجمع على شاعريته، ولا نختلف عليها، نضيّق عليه الخناق. ذلك اننا نحن الشعراء إنما نقرأ بمزاجين على الأقل. لذا كان محمد الماغوط حجتنا القاطعة في ذم الشعراء الذين لا يشبهونه، ولذا كانت جملته سبيلنا الأول إلى الاعتراض، شعرياً على الأقل. لكن موضوع شبهنا به، يحتاج إلى تدقيق طويل وعسير. نجمع على الماغوط، لكننا نختلف في ما بيننا. نجمع على الماغوط ذلك انه الشاعر، وما ان نباشر قراءته حتى يحوّلنا قراءً. لا نعود لنقرأ بعين الكاتب ومزاجه، لأن كتابته أصعب من ان يجد فيها الناقد والشاعر صنعة ما. كان عباس بيضون يقول عنه: انه سليقة فوارة. كتابته حية ونضرة وتفسد مزاج السليقة عند الشاعر بمجرد ان يباشرها. لذا كنا نقرأه ونعجب به، لأنه شاعر يجدر بنا قراءته، لكن هذه القراءة نفسها تفسد حيويتنا ونضارتنا، فلا نعود نستطيع ان نقلده او نتتلمذ على يديه. كل تلمذة على يدي الماغوط تشبه خيانة لشعره. كما لو انه حين يكتب، يقطع العبارة من جذرها ويمنعها عن أي استعمال. سنقول ان الماغوط قال كذا، في مناسبة كذا، لكننا لن نستطيع ان نكتب سليقتنا وقد سبقنا الماغوط إليها. كل وجوه الشبه مع الماغوط هي محض صناعة. فالشعر يجود بشاعر واحد مثله، وكل ما عداه يبدو، في معنى ما، خروجاً على السليقة نحو الصناعة الباهتة.
كلنا قلّدنا الماغوط في لحظة او في أخرى، وكلنا أحببنا شعره. لكننا دائماً لا نتأثر بالماغوط بل نقلده.
نعرف منذ زمن اننا نستطيع ان نتأثر بالصناعة: بطريقة ليّ الجمل، وطريقة الإنشاء. لكننا لا نستطيع ان نقلّد الروح. والماغوط كان على الأرجح روح الشعر العربي الحديث.
نقرأ الماغوط قراءً، لكننا نقرأ الآخرين بحرفة الصاغة. نعرف كيف تتالت الجمل، واين يكمن سر الصناعة الماهرة، وكيف يمكن استحلاب الفكرة من اللغة، وكيف يمكننا ان نقول شيئاً لا يعني شيئاً في ذاته، لكنه يستطيع ان يوحي ويغمر ويطوف. لذا نبادر إلى تنحية الماغوط جانباً، فهو لغزنا الذي نتحدى به شعرية الشعراء. نحن لا نشبه الماغوط، لكننا نجزم ان الآخرين لا يشبهونه، وان في قلة شبههم به ما يجعلهم ناقصين واقل من ان يكونوا شعراء. نقرأ الماغوط ولا نجرؤ ان نكتب على منواله. ذلك اننا نحتاج ان نكون في حال من اثنتين لنكتب مثل الماغوط: إما اننا نجهل ما كتب، وإما اننا قررنا ان نلقي بكل ما قرأناه في سلة المهملات، لنباشر الشعر من حيث تقودنا أمزجتنا الحارة في تلك اللحظة. لذا كله تبدو معرفة الماغوط لعنة. قراءته تشبه لعنة نحيل آثارها المدمرة على غيرنا، على شعرائنا الكبار تحديدا. لكننا لا نحسن ان ننجو منها.
كتب الماغوط ما يكفي ليجعل الشعر مستعصياً. وليجعلنا ننصرف عنه إلى صناعة المعجبين والأفكار النقدية. لا نقول في شعر الماغوط الكثير، ذلك انه يشبه الأنصاب، نتفق على معناه ولا نجرؤ على مساءلة معانيه مرة أخرى. ففي مثل هذا التجرؤ ما يجعل كل ما حاولنا تحقيقه في مهبّ الريح.
الآن بعد الماغوط، أفكر ان من الأنسب لي ان أتجاهل وجوده كلياً. وان انسى انه وجد ذات يوم. ففي مثل هذا النسيان ما يجعلني قادراً على تصديق ما اكتب والدفاع عنه.

No comments:

Post a Comment