Sunday, January 2, 2011

لهذه الأسباب لسنا أيتامه


لهذه الأسباب لسنا أيتامه


ماهر شرف الدين


فعلها الماغوط. أفرغُ من كتابة هذه الجملة، وأستمهل إشارتَي تعجب واستفهام. بالطبع، كان الماغوط ميتاً منذ زمن. لم ننتظر اتصالاً هاتفياً، أو خبراً عاجلاً من وكالات الأنباء، كي نتأكد من موته. لقد مات الماغوط قبل ذلك بكثير. مات لحظة لم يعد يرى دمشق امرأةً تضطجع في دفتره كفخذين عاريتين. لقد مات منذ أن طالب شامه الحديثة بأرصفتها القديمة. لم يخرج الماغوط في تظاهرات بلاده، بسبب ترتيبها، كما يقول: تظاهر على أوراقه. لكن علبة الثقاب لم تفارق جيبه، لإشعال السجائر، وإشعال ما كتب. صحيح، كان الماغوط مستعداً دائماً لاستعمال علبة ثقابه (استعملها؟). وكان على الدوام لا يجد ميزاناً أفضل من كفّ يده ليزين فيها قضاياه. حمل الماغوط قضيته كالكنغر في جيب أمامي. زانها في يده، وقذفها برجله، وبكاها. الصحيح، أن ما أخّر هذا الصعلوك الغابر عن قبيلته هو بالضبط ما جعله شاعراً كبيراً: فردة حذاء دائمة في يد الماغوط. حملها في شعره، وفي حياته. واصطحبها إلى بيروت ودمشق والسلميّة. فردة حذاء حسبها أحياناً للعسكر، فغنّى فلسطينه. وخالها أحياناً أخرى للشرطة، فغنى حرّيته... لكنها كانت فرده حذائه هو. كان الماغوط ساندريلا نفسه. حمل حذاءها بيده، وقطع البلاد بحثاً عنها. بالطبع، لم يجد الماغوط ساندريلاه. وفي اللحظة الأخيرة من حياة زوجته الشاعرة سنية صالح كان يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، ولا يجرؤ على تجريب الحذاء فيهما. كان الماغوط يخاف أن يجد ذاته، أن يعثر عليها، أن يلمسها بيده. كان يخاف إنهاء تسكّعه. ولأنه كذلك، دقّ الأبواب بقبضته المتعبة، والأشجار بمساميره الكبيرة. كان شحاذ أوطان من دون منازع. كان يقول: أبحث عن وطن، وكان يبحث عن نفسه. نتذكّر ما كتبه للسيّاب في موته. نتذكر تلك الجملة التي "تومض كالنسر": "تشبّث بموتك أيها المغفّل". لم يتشبّث محمد الماغوط بموته، كما طالب رفيقه بذلك. لكن الميتة نفسها انتظرته. طالب الآخرين بالتشبّث بموتهم، وتشبّث هو بالمرض والويسكي. "كنتُ أول من يبكي ويصرخ أثناء التحقيق"، قال. ولم نعتبر ذلك اعترافاً: جبناً يُحسب عليه، أو شجاعة تحسب له. كان الماغوط شاعر الرايات المنكسة، والجيوش الجالسة قرفصاء. وكان شاعر الرغبات بلا منازع، والهزائم بلا منازع. لم تهزمه القضايا الكبرى، كما هزمته فاتورة الكهرباء والهاتف. استعمل محمد الماغوط مكانس الزبّالين في تنظيف أحزانه وأشعاره، وفي ضرب أمّته على عجيزتها المضحكة. وكان الماغوط أبا الكثيرين منّا. كان أبانا. ولأنه تنصّل من أبوتنا، لم نصبح أيتامه حين مات. عقوقنا له كان أفضل طريقة للردّ على أبوته، لردّ جميله، والعرفان بفضله. ظلم الماغوط نفسه في أعمال كثيرة، صحيح. وكتابات كثيرة، وتنازلات كثيرة. الأرجح، لأن علاقة الكلمات بعضها بالبعض كعلاقة الأخ بأخته، وهما نائمان في فراش واحد، كما قال يوماً: كل حركة منهما تفسَّر. لذلك، ربما، أكثر الماغوط من "الحركة" في سرير كلماته. أكثر من الشعر الحرام، والحزن الحرام، والوطن الحرام. بذهنية البغيّ قبل المداهمة، كتب أشعاره ومسرحياته، "كلما تحرّكت ستارة أو قُرع الباب سترتُ أوراقي بيدي". لقد كتب الماغوط عن وطنه، كما كان سيكتب الجائع، لو أتيح له، عن رغيفه، وكما سيكتب المحروم عن فخذ بيضاء لامرأة ترقص على الطاولة. كتب برغبة من يريد، ومن لا يملك. رغبة بأسنان طويلة، وأظافر طويلة، وحاجبين طويلين. ولطالما اعتقدتُ أن الماغوط لا يكتب إلا والدموع تملأ جرّتَي عينيه. عاش الماغوط أيامه الأخيرة مع كؤوس الويسكي وأعقاب السجائر. عاش مع أشياء لا تحمل هوية في سحنتها، أو بطاقة شخصية في جيب قميصها. مع ذلك، لم يُنزل سبّابته التي رفعها كتلميذ في وجه وطنه. بقي الماغوط رافعاً سبّابته حتى اللحظة الأخيرة، حتى تحقيق مطلبه. لا يكون المرء حيادياً حين يرثي محمد الماغوط. أقول، لا يكون حيادياً، ولا يكون مرتاحاً. يرعبني أن يموت محمد الماغوط، ولا يتغير شيء في العالم. يرعبني أن يموت الذي أصاب وطنه بالدوار، من دون أن نشقّ ثوباً عليه. كتب الماغوط أجمل قصائده، وإصبعه على الزناد. وارتجل وطنه، على مثال ما ارتجل قصائده، قبل أن يوصي به لأول قاطع طريق. هكذا لن يغرب عن بالي قوله في لقاء تلفزيوني إنه لا يكتب الشعر إلا على ركبته: لم يكن التسكع والسفر الدائمان، وما ينطويان عليهما من معاني العجلة وسباق الزمن، هما وحدهما يجعلان شعر الماغوط غير مرتاح إلى طاولة الكتابة، أو إلى ما يشبهها من وسائل الاستقرار والطمأنينة، لكنها أخلاق الخبز: حينما تكون الركبة طاولة الرغيف وطاولة الكتابة. لم يأكل الماغوط، وأبناء جيله من الفقراء، الخبز على الطاولات. هكذا تناول الماغوط الشعر والخبز من القمة نفسها، ركبته، قمته الواطئة والعالية، والتي ليس لعلم أو راية غزوها. ركبته - قمّته: مسقط شعره. لا بدّ لمن قرّر قراءة شعر الماغوط من آخر دواوينه، "البدوي الأحمر" (دار المدى)، أن يظلمه، على مثال ما ظلم الماغوط مسرحه حين جعل من مسرحية "قيام جلوس سكوت" آخر مسرحياته. لكنا، إذ نقرأ كتابه هذا، ونعيد قراءته، فإنما ليقيننا أننا لن نعدم تلك الأنا المتسكعة، التي أبى الماغوط أن تكون ربطة العنق في شعره. أصرّ الماغوط في آخر أشعاره على سؤال أمّهات الكتب عن مصير مؤلفاته "المتواضعة"، كما سمّاها. أراد أن يعرف على أي الرفوف سترقد، وأي الأضواء ستُسخَّر لها. ولأنه تخلّى عن حلمه القديم (وطن محتلّ يحرّره، أو ضائع يعثر عليه)، أجاز لنفسه السؤال عن كَنَبَته في صالة التاريخ. هل أراد الماغوط فعلاً إنهاء تسكعه في مكان وثير؟ أسئلة لا نملك جرأة الادعاء على امتلاك أجوبتها. أسئلة لن تصبح في رسم المستقبل، أو في رسم البيع. لم يقلع الماغوط عن التدخين، بالرغم من معرفته أنه قاتل لمن يعاني ضعف تروية في القلب. لم يقلع الماغوط عن التدخين، ولم يقلع عن مرضه أيضاً، وعن قلمه. لا يشبه إصرار الماغوط على الكتابة إصرار صباح على الغناء. قطعاً لا. وقطعاً لا يشبه إصرار المنتحرين. شعر الماغوط كان صنو سعاله: مظهر من مظاهر شيخوخته، كما كان في الماضي وجهاً من وجوه شبابه. أتذكر، قبل عام ونيّف، أننا استعرنا، في رثاء ممدوح عدوان، الكلمة التي قدّمه بها محمد الماغوط. استعرنا تلك المقايضة التي عقدها الماغوط بينه وبين صديقه: سعاله، مقابل الشَعر المتساقط من رأس صديقه المصاب بالسرطان. اليوم أفتّش في تلك المقدمة - القصيدة، علّني أقع على ما ينقذ مقالتي هذه، على جملة تتنبّأ بموت يأتي، أو رحلة أبدية. على الدوام نحن نبحث، بعد رحيل كل شاعر، عن تلك الجملة، أو الجمل، التي سنلقيها في وجه القارئ، ونقول: إقرأ (تباً لمالك بن الريب). تلك الجمل التي تجعل راحلنا رائياً كبيراً، يرى موته قبل الآخرين. "وإذا خطرت لك زيارتي، يقول الماغوط مخاطباً عدوان، حيث أقيم/ فعلى الرحب والسعة/ فإذا لم أكن موجوداً/ فسعالي يقوم بالواجب وأكثر (...) لأنني قد لا أعود أبداً/ فمدينة لا يوجد فيها مريض نفسي أو عقلي حتى الآن/ لن أبقى فيها دقيقة واحدة". صحيح أني وجدتُ الذي يخوّلني الصراخ في وجه قارئي: إقرأ. وصحيح أني أستطيع أن أشفع هذه الجمل بما قاله سابقون، ولاحقون، عن أن الماغوط هو قرين الشاعر الرائي رامبو، لكن ما الفائدة، أقول، وأعفّ عن فعل ذلك، ما دام صاحب الرؤيا يجزم بأن كل فلاح عجوز يستطيع، وهو يدرّج لفافة التبغ بين يديه، أن يروي كل تاريخ الشرق في بيتين من العتابا. غالباً ما أشعر أني أمام منجم حين يقع بين يديّ كتاب للماغوط. نعم. هو منجم شعريّ من أمنيات كثيرة وخائبة: تمنى الماغوط أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة في الزقاق. وتمنى أكل النساء بالملاعق. تمنى الماغوط، وما أكثر ما تمناه. لكن هذه الأمنيات لم تأخذ استحقاقها الشعري بغير خيبتها. الخيبة مطهر الأمنية لتكون شعراً؟ العكس ليس صحيحاً بالتأكيد. كتب الماغوط خيبته حتى لم يعد يميّز قلمه من أصابعه. لكن الذي أنقذ شعره "المباشر" من نفسه هو أنه مكتوب بدموع فوسفورية. شعر فوسفوري، هو أكثر ما أستطيع الوصول إليه في وصف شعر الماغوط. وذلك ما يصدّق القول إننا أمام منجم: كلمات تلمع وتومض وتبرق. لقد خرج محمد الماغوط على آداب الشعر العربي، في كل شيء. لم "يحترمها"، وخصوصاً في تحويله الهزائم انتصارات شعرية. هزائم ظافرة، هي هزائم الماغوط. في الشعر، فقط، يغدو للهزيمة تاجها وإكليلها. كثرٌ هم الذين كتبوا عن كاف التشبيه في شعر الماغوط، وقالوا إنها السرّ. وكثرٌ قالوا الواو الثالثة. وآخرون قالوا صوره الموحلة. وغيرهم قال. لكن... لا يعطي الماغوط مفاتيح شعره لأحد، لأن الهزيمة لديه أمر شخصي، وسرّ شخصي، وامتياز شخصي. ميدالية مفاتيح شعر الماغوط بقيت معه. لذلك لا توجد كلمة في اللغة العربية غير صالحة للاستعمال لديه: "الكل مطلوب الى الخدمة".
فعلها الماغوط. نعم. فعلها: زان فردة الحذاء بيده. رمقها بطرف عينه. حرّك أصابع قدمه اليسرى المتورّمة، والنافرة من جورب عتيق.
- لبسها؟
- لا.
- قذف بها إلى النهر؟
- لا.
أهداها لأول إسكافي صادفه في الطريق.
فعلها الماغوط: مات، ولم يجد ساندريلاه .


No comments:

Post a Comment