Monday, January 17, 2011

حزن بين دمشق وبيروت


حزن بين دمشق وبيروت

شوقي نجم


لا ادري ما هي "الصدفة القدرية" التي جعلت المسرحي والمثقف عصام محفوظ، والشاعر والمسرحي محمد الماغوط يغيبان في السنة نفسها. محفوظ والماغوط من الجيل نفسه، ومن "نجوم" مجلة "شعر" في الستينات في القرن الماضي، ومن أصحاب الهواجس الكبرى في البحث عن تغيير الواقع، في عالم يرزح تحت ثقل الأعباء الاجتماعية والسياسية.
مات "المتمرد القلق" عصام محفوظ وحيدا وفقيرا، تاركا رصيدا هائلا من الكتب في المسرح خصوصا، والثقافة عموما. مات بعدما مكث في المستشفى لأشهر تحت وطأة الغيبوبة والبحث عن معين لتطبيبه. لا احد يحتاج الى التذكير بأحواله في سنواته الأخيرة، التي ربما لا تشبه الا أحوال الثقافة نفسها. اما "البدوي الأحمر" محمد الماغوط فمات وفي يده اليمنى عقب سيكارة وفي اليسرى سماعة الهاتف، في حين يدور صوت شريط المسجلة في تلاوة لسورة يوسف. لا تحتاج أحواله الى التذكير. لقد مات بعد أسابيع من تسلمه "جائزة سلطان العويس". هكذا كان قدره ان يعيش حياته فقيرا، ويموت "غنيا". وكان "الرعب المادي" جعله يكتب في الصحف البعثية، ويتغاضى عن توظيف مسرحية "قيام جلوس سكوت" في خدمة البعث الاشتراكي.
ليس قصدنا التنديد بالماغوط وأفعاله الأخيرة، اقل ما يقال إنه الألمع بين جيله. لقد مات الماغوط في دمشق، ومات محفوظ في بيروت. يذكر الجميع الجسر العريض الذي صنعته الثقافة بين المدينتين المختلفتين، قبل ان تأتي السياسة البعثية المخابراتية وتنسفه من اجل ان تبني جسور الحرب والأسلحة والاغتيالات والتصفيات، ثم لتكون النهاية صعود الغرائز البدائية بين الجماعات وضمور الشعر.
كثيرون حاولوا تقليده ووجدوا صعوبة في ذلك لأنه ينتمي الى خانة "السهل الممتنع". حماسة الشباب لشعره سببها انه كان يحمل عنصر المفاجأة والمفارقة، والنهايات غير السعيدة. قصيدته غنية بقدرتها على التدفق والبقاء والتأثير بما تحمله من حداثة، ولغة شخصية لا تشبه إلا صاحبها، في حزنه و"فرحه"، في بدويته وحداثته، في بريته ومدينيته. يربط بين قصائده خيط من الحزن الطويل، حزن في ضوء الشعر، وهو الذي آثر أن يبقي القصيدة بعيدا عن منابت الثقافة والتنظير الهلامي، ونجح في الانتماء الى الحداثة وفي الخروج عليها في آن واحد.
كان "ملك التمرد وصعلوكه"، عاشق المدينة والمتأزم منها. صرخ منذ البداية:
"الا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن". كان يحمل لواء الدفاع عن الأمة ومستقبلها، لكنه يعلن انه "سيخون وطنه". وتقول زوجته الراحلة سنية صالح إن مأساة الشاعر أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى وهو يحاول توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية، وذروة هذه المأساة إصراره على تغيير الواقع، وحيداً لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. كان الماغوط من ابرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. نزل الى الشارع اليومي، واستطاع ان يكون شعره قريبا من الناس. اللافت انه بقدر ما يشعر المرء بفرح عندما يقرأ شعر الماغوط، يستنبط الحزن من بين كلمات قصائده، الحزن جذري في عباراته، لأنه في قلب النص. انه "أميرال الفجائع". رأى في كتاباته كيف ينبت الجوع في الطرق وكيف يتفجر الرعب في العقول وكيف تغل العبودية أحرارها بالحديد وكيف يركض الضجر إلى المقاهي، باستثناء الأمل صديقه الودود. في "الفرح ليس مهنتي"، كان المطر حزيناً يغمر وجهه الحزين. يقول: "حبيبتي: هم يسافرون ونحن ننتظر، هم يملكون المشانق، ونحن نملك الأعناق، هم يملكون اللآلئ، ونحن نملك النمش والتواليل، هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار ونحن نملك الجلد والعظام".
لا نعلم ما سر الحزن الماغوطي. ربما كان في السلالة او الجينات. كان جهورا في الإعلان عن حزنه، يقول: "
ولدت مذعورا وسأموت مذعورا، انا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني". يعترف ان الحزن لا يفارقه منذ البداية، ربما لهذا السبب عنون مجموعته الشعرية الاولى به، حتى لقّب بشاعر الأحزان الدفينة وإنكسارات الأحلام المقموعة، ولقب بالشاعر الصعلوك والشاعر الضليل والشاعر الكوابيسي.
لم تكن الصعلكة بالنسبة اليه تنظيرا في الصحف او في الكتب. كانت نمط حياة وأسلوب عيش، وكانت لغته اليومية. كان يتحدث عن الشعر ببساطة عالية، وعفوية مطلقة، حتى ليكاد المرء يظن ان هذا الشاعر الكبير لا يفقه في الشعر شيئا، من ناحية التنظير. لقارئ كلماته عن الشعر ان يلاحظ ذلك في المقابلات التي أجرتها معه الدوريات الثقافية، فمن أطرف ما يرسمه لمجلة "شعر" التي لجأ اليها في شبابه، انه في اللقاءات التي كانت تتم في غالب الأحيان في بيت يوسف الخال، كان يسمع الأحاديث عن شعراء وأسماء لا يعرفهم مثل عزرا باوند واليوت وسوزان برنار. لم يكن يجيد لغة سوى العربية، لذا كان يصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام يأكل. في إحدى المرات قال: "
كانت مشكلة جماعة مجلة "شعر"، استغراقهم في تحطيم السفينة، دون ان يفكروا بالغرق المؤكد. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغميا عليه، بينما قل له وعلى مسافة كيلومترات: جاك بريفير، ينتصب ويقفز أمتارا عدة عن الأرض كأنه شرب حليب السباع".
لم يكن الماغوط إيديولوجيا، لكن شعره كان أشبه ببيان احتجاج ضد المحيط الذي يعيش فيه. بدايته الأدبية في السجن، وفي الحزب. والمعروف انه انتمى في شبابه الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. "
حصل الأمر دون قناعة تذكر، ربما كان الفقر سببا في ذلك. فالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي، كنت بحاجة الى انتماء ما. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية هما حزب البعث والحزب السوري القومي. وفي طريقي للانتساب الى احدهما، اتضح لي ان احدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة. ولأني متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة، وصراحة الى اليوم لم اقرأ صفحتين من مبادئه. ومنذ ان انتهت موجة البرد الاولى لم احضر له اجتماعا، ولم أقم بأي نشاط على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها جمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت اعمل في بساتينها. جمعت الاشتراكات والتبرعات واشتريت بنطلونا وذلك وجه الضيف" ("الحياة" 4 نيسان).
لكن الماغوط سجن بسبب هذا الحزب مرتين، "
صحيح اني لم اسجن طويلا، لكني حين سجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري. أحسست بشيء في داخلي ينكسر. ليس الضلوع، بل شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني وأقام معي صداقة لا تزال قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري". في زمن عيشه في دمشق كان يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات، ويعتبر انها لن تعود قطعاً، وأن دورها انتهى. ويحن الى الشام التي عرفها، لا الى شام السلطة. كتب مرة: "المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاماً، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة. حتى في السلمية أشعر بنفسي غريباً، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة. الشام مثل البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاماً. أصبحت مرعبة".

No comments:

Post a Comment