Sunday, January 2, 2011

بين الثورة المغدورة والشعر المنثور


بين الثورة المغدورة والشعر المنثور


سلام عبود


لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
أنا أعرف أن قولي هذا سيصيب كثيرين بالدهشة، إن لم يكن بالبَهت.
ماذا عن أمه؟
ماذا عن رفاق طفولته الحزينة؟
ماذا عن زوجته، وهي شاعرة مثله؟
ماذا يقول زكريا تامر الذي كان يزوده بعض معارفه في سجنه؟
ماذا يقول الذين نشروا أول قصيدة له، والذين تبنّوه شاعرا قبل أن يفطن هو الى معاصي الشعر الخفيّة؟
ماذا سيقول زملاء مجلة "شعر"؟
ماذا عن دارسي حياته وأدبه؟ وماذا عن الأصدقاء والأعداء والأعدقاء؟
كثيرون سيصابون برعدة وهم يجدون أنفسهم قد سُلبوا حق معرفة الماغوط، أو، لنقل، حق مجهولين في معرفة بعض أسراره الصغيرة والكبيرة؟
وكيف يحق لمن لم يقتربوا منه أن يجدوا في أنفسهم الجرأة على احتكار حقائق الشاعر الخفية؟
على الرغم من هذا كله، أعود فأقول جازما، مكابرا: لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
حينما تعرفت الى الماغوط في أواخر النصف الثاني للستينات، كنت طالبا في كلية الآداب. كان عمري ثمانية عشر عاما. لم أعرف حينذاك عن سجنه، ولا عن طفولته، ولا عن قصيدته الأولى. لكني كنت أحمل في روحي "
ملفا ضخما عن العذاب البشري". ولسبب ما، كنت أنوي رفعه الى الله حالما أنهي كتابته. لا أدري إن كنت فعلت ذلك أم لا، ولا أدري إن كان الله استقبله مني أم لا، والأكثر أهمية أني لا أعرف حتى هذه اللحظة بأي اللغات كان يتوجب عليَّ كتابته، لكي يستطيع ذلك الذي في الأعالي أن يتواصل معي في متعة قراءته.
ملاحظة عابرة: كان الماغوط شكاكا في ما يتعلق بألغاز اللغة الوحيدة التي يجيدها. ولفرط هوسه بها، كان يظن أنه أقدر حتى من الخالق عزّ وجلّ، على فك أسرارها.
من هنا بدأت معرفتي بالماغوط. صديق ما، أرجّح أن يكون الصديق الشاعر عبد الحسين الهندواي، هو الذي وضع في يدي ديوانا هزيلا، منسوخا بخط اليد، ملفوفا بجريدة رياضية، وقال لي هامسا:
- كن حذرا كما اتفقنا! ولا تخبر أحدا أني من زوّدك هذا!
لم أخبر أحدا. لكني حفظت الأحزان التي كُتبت في ضوء القمر عن ظهر قلب، ورحت أرددها على كل من أختلي به، حتى بتّ أظن، لسبب خفي، أني منشور سري حي، منشور محظور، جريمته الكبرى أنه يقطر شعرا خالصا.
ذلك كل ما أذكره عن الماغوط وبداية صلتي به، التي تجعلني الآن أشك في وجود كائنات أخرى غيرنا، نحن معشر العراقيين، يعرفه أكثر منا، وعلى أقل تقدير يعرف ملفات عذابه، عذابنا، السرية الضخمة.
لسبب خفي أيضا، لم أكتف بحفظ قصائد الماغوط. كنت أضع الديوان الصغير المنسوخ تحت ملابسي وأمشي بمعيته في الشوارع. وفي شارع الرشيد، شارع التبّضع البغدادي، كنت أسير وأراقب بحذر تام شبح صورتي المرسوم على الواجهات الزجاجية للمخازن التجارية، لأعرف إن كانت هيئتي تشي بأني أحمل ملفا ضخما عن العذاب البشري بين طيات ملابسي وفي ثنايا روحي.
كنت أسير بين أعمدة البنايات ولا أرى الناس. لأني كنت مشغولا بأمرين: ملف الماغوط الضخم، ومصير بطل مالرو في "الوضع (أو المصير) البشري"، الذي كان يمشي معي بحزم وثقة، يبادلني، رغم لغته الصينية، قراءة كلمات الماغوط، ويعدّ معي، سرا، عملية تفجير هائلة، هدفها قلب موازين العالم رأسا على عقب.
ففي اليوم نفسه، الذي تسلمت فيه ديوان الماغوط، سلّمني التنظيم المسلح مجموعة وثائق نظرية عن طرق إعداد قنابل محلية الصنع. بعدما ألححت كثيرا على رفاق التنظيم وأقنعتهم بأني مسكون بعمليات التفجير.
كانت مشكلتي الكبرى أني لا أملك مسدسا، والأهم أني لم أر في حياتي مسدسا حقيقيا، عدا تلك التي رأيتها في الأفلام، وتلك التي يملكها جهاز القمع المتوارث في بلادي.
بيد أن مشكلتي الأضخم كانت أني كنت مقسّما، كرغيف الفقراء، بين الثورة المغدورة والشعر المنثور. فخسرتهما معا، بالضبط كما ربحهما الماغوط معا.
فمن يعرف الماغوط أكثر منّي، ومنّا؟
ومن يعرف أرباحنا وخسائرنا، الظاهرة والمستترة؟
لا أحد يعرف ذلك غير ذلك الذي أعددنا له، يوما ما، ملفنا الضخم عن العذاب البشري، وكنّا نأمل بصدق فطري أن لا يكون أميّاَ.

No comments:

Post a Comment