Saturday, April 2, 2011

رثاء مؤجل

 رثاء مؤجل


- 1 - 

بعد احتلال الكويت عام 1990 أصيب رفيقي و صديقي الياس مسوح بالجلطة الأولى 
و عند تحريرها على أيدي القوات الأمريكية أصيب بجلطة ثانية 
و في « أم المعارك » أصيب « بأم دم »
و رغم أنني انتهيت بعكاز واحد و هو باثنين و بأنابيب الأوكسجين في فمه و أنفه و بنطلون من الأوردة و الشرايين الصناعية 
ظلّ مرشدي الطبي و العاطفي و اللغوي و الاستراتيجي ثم انصرف إلى قريته مرمريتا للإشراف على المرضى و المعوزين من أبناء جلدته 


و انصرفت أنا إلى حالي بعد أن فقدت القدرة و المزاج لمتابعة أية أخبار 
و ما من صديق موثوق بجانبي 
و لا أعصاب تحتمل واقعاً جديداً و خريطة جديدة و أحلاماً جديدة 

حتى مجريات الحرب الراهنة تتناهى إلى مسامعي صدفة من الجيران أو مندوبي المبيعات المنزلية من مكانس و منظفات و غيرها 
و بما يمضي من الوقت أقضيه متثائباً في فراشي على مدار الساعة 
و كنا نتبادل : 
السلامات 
و التحيات 
و القبعات 
و القمصان 
و أسماء الأدوية 
و عندما احتفل كل منّا بعيد ميلاده السبعين 
تبادلنا الأنخاب 
و لم يبق ما نفعله بعد ذلك 
سوى تبادل القبور و المقابر 

و فجأة صرخت :
أي فجر عظيم اختفى ؟


- 2 - 

لم أكن مستعداً لكل هذا الظلام 
كنت أعتقد أن كل شيء مؤجل 
حتى يصفو الجو و تندثر الفلول 
بعد أن طاردناها و طاردتنا طويلاً 
و يقتنع التاجر أن هناك حساباً آخر 
غير المدوّن في دفاتره
و أنه سيتم ترسيم الحدود بين الجنة و النار 
و الحزن و الفرح 
كما ترسم حدود الممالك و الإمارات 
بعد أن تضع الحرب أوزارها 
و يستقر طوفان الدماء على رأي !

و مع ذلك 
كل هذه الدموع التي كنت سأذرفها 
في المآسي المقبلة 
رهن إشارتك .

و لكنّي مضطر لتقنينها لأننا في زمن حرب !
و أنت تعرف قبل سواك 
كم يلزمنا من دموع و مناديل و دق صدور و لطم خدود !

هل نستوردها من المسلسلات المصرية و الهندية ؟

على كل حال 
بأجمل الأقلام و الألوان 
سأرسم الهلال الخصيب على قبرك
و أجمل الزهور و الفراشات 
و الطيور التي كنت بارعاً في اصطيادها 

و لكن المشكلة كما يقول أحد اليتامى : 
« ما من قبر جميل في العالم » !!

و مع ذلك سأرسم عليه نجمة داوود 
لتكون كلمتك مسموعة في الدنيا و ربما في الآخرة .

Monday, January 17, 2011


عالم لبراءة الولادة وقذارتها

محمد أبي سمرا


العالم الذي ترسم صوره لغة محمد الماغوط الشعرية، هو عالم حسي ومادي وفوضوي ومرتجل. أشياؤه وكائناته تولد مفاجئة وبنت لحظتها، ومن دون إنذار مسبق تولد ملطخة بقذارة الولادة وبراءتها وطزاجتها وآلامها وصرختها الاولى، التي لن تشفى منها الى الأبد، ولن تنمو أو تتحول لتتخلص من تلك البراءة القذرة، المادية والطازجة. والعالم هذا، في أشيائه وكائناته، أي في صوره، مثل شاعره ومنشئه، غير قابل للانفصال عن مادته وعناصره الاولى، ولا للإنبناء والتركيب والتحول. فهو صنيع الهنيهة القدرية الحاسمة والمفاجئة، بلا سبب ولا سؤال ولا منطق سوى منطقه الذي يولد معه ومنه مكتملاً ومجبولاً بمادته الفوضوية المرتجلة، كأنها تخرج من فوهة بركان لتتدحرج حارة على هواها في الاتجاهات كلها، من دون أن تكون معنيّة بالوصول أو عدم الوصول الى مكان تستقر فيه، لتبدأ حياتها ووجودها من جديد.
غرفة سنيّة صالح
عالم شعري، مثل شاعره ومنشئه الذي ولد وعاش ومات بقلب جمل مسنّ وجناحي فراشة، أعزل، وحيداً، مستوحشاً، حتى آخر العزلة والوحدة والوحشة في "غرفة بملايين الجدران" المقبضة. "غرفة مسدلة الستائر (...) سقف (ها) واطئ، حُشرت حشراً في خاصرة أحد المباني: (...) سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة (...) هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم"، على ما كتبت قرينته في المرارات والآلام، سنية صالح التي كان من الأفضل ألاّ تضيف، في تقديمها لأعماله الشعرية الكاملة، أن هذه الغرفة "إسمها الشرق الأوسط"، قبل أن تكتب أنها "راكضة" و"خفية" كانت تنقل اليه في تلك الغرفة "الطعام والصحف والزهور (...) في البرد القارس والشمس المحرقة"، لتجد "الكتب (...) ممزقة أو مبعثرة (على) الأرض، (و) مبقّعة بالقهوة (... فـ) ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف"، فيما "كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعالٍ على ما يحط بنا".
لهاث في البرد والعتمة
لا، ليس شعر محمد الماغوط عالماً بديلاً متعالياً، بل عالم مادي سفلي تنبعث منه رغبات مستحيلة في هواء نقي، ويدين حرّتين، وسماء زرقاء بلا دموع، وشفتين لا تنبت فيهما الأشواك، ولا يلطخهما قطران التبغ المحروق الذي لو جُمعت لفافاته "لبلغت فم الله".
لا، ليس محمد الماغوط حالماً في شعره، بل إن شعره طالع من حطام الأحلام، كأنما الشاعر يقلب الكلمات على قفاها لتنزّ شعراً، كما لو أن الوردة تنزّ قيحاً، أو ليصنع من القيح وردة يعلّقها وساماً على صدر جندي قتيل، أو عائد من الحرب مهزوماً الى قريته البدوية الضائعة في الغبار والوحشة على طرف صحراء.
في شعر محمد الماغوط عطش أبدي فيما صاحبه يبتلع نهراً، إذ "
ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري؟". عطش صحراوي الى مدينة مستحيلة، يصل اليها كتائه ضلّ الطريق، فتغويه أضواؤها الملونة "كبغي في لحظة المداهمة"، ليسيل من فمه لعاب الشهوة ممتزجاً بمسحوق الخوف واللهاث الحار في البرد والعتمة.
إنه عالم شعري يختلط فيه الحنين الى عزف الربابة بالرغبة المستحيلة الى رنين كؤوس الشمبانيا، فيما الدم ينزّ من خطافات أوسمة الضباط الذين يشاركون في حفلة تنكرية للإعدام، حيث ترفرف أعلام عتيقة، بالية وملطخة، كأسمال الفقراء الراكضين في أزقة مدن داخلية تطاردهم طلقات رجال الشرطة والعسس الليلي.
شعر طالع من عالم بدوي رعوي، وفيه شيء من وحشة شخصيات أفلام رعاة البقر، لكن الممتطين صهوات جياد هرمة هربت من سباق الخيل الى قرية فلاحية يستعبد بكواتُها القساة الفلاحين ويغتصبون نساءهم وبناتهم، قبل فرارهن للعمل خادمات في مدن عسكرية أو شبه عسكرية، وقبل سَوق الرجال الى التجنيد الإجباري، أو الى أعمال السخرة في بناء السكك الحديد ومحطات القطارات في السهول الجرداء.

مدن الصعلكة والسعال
شعر نثري حديث عابق بذكريات الزمن العثماني، حينما كان البدو يغيرون على المدن الموكلين حماية طرق قوافلها التجارية، فيتواطأون مع الجنود الفارين من الحرب قبيل هزيمة منتظرة، حيث تبدو "التلال" في البعيد "مقلوبة كالمناضد".
وللصعلكة المدينية الآتية من عذابات الأرياف وقسوتها، حضورها القوي والأكيد في هذا الشعر المسكون بخوف لا موضوع له ولا سبب. خوف قديم موروث يقيم في اللاوعي الفردي والجمعي منذ الطفولة المنذورة لليتم والانقطاع والتشرد والعنف، بل للعسف الاجتماعي القديم والمتجدد في مدن متروكة للإهمال والفوضى والنهب المسلح الذي يشبه الأعراس البدوية والابتهاج بالنصر، فيما "
ذباب المطاعم المقفرة يحوم فوق المنعطفات وعورات التماثيل".
شعر الصعلكة التي هي الشكل الوحيد للفردية والحرية الجريحتين في بلاد الأهل والوجوه "
المختنقة بالسعال" و"الصفراء كالسل". وجوه الأطفال المليئة بالندوب والمسلوبي الطفولة منذ الولادة من أمهات يضربهن رجالهن قبل المضاجعات السريعة الصامتة وبعدها، فتدمع أعينهن في صمت انتظارات عودة أبنائهن من المنافي البعيدة، والمختنقين بفحيح شهواتهم البدائية الجامحة الى ثدي ساخن كرغيف الحنطة تخبزه الأمهات المسنات في القرى النائية المنسية.
أطفال سُلبت طفولتهم، ويشبّون جارحين ومحطمين ليكتهلوا، فجأة، في رجولة يملأونها بعويل كعويل الأطفال ونواحهم، بحثاً عن "
ركبة امرأة شهيّة" أبصروها في مناماتهم المترمدة التي تردّد أصداء "وجيب اللحم العاري" في مدينة "السبايا الوردية"، حيث: "
ملايين السنين الدموية
 تقف ذليلة أمام الحانات
 كجيوش حزينة تجلس القرفصاء
 ثمانية شهور
 وأنا ألمس تجاعيد الأرض والليل (...)
 والثلج يتراكم على معطفي وحواجبي".
مأساة الحداثة والمدينة
أفتح مجموعات محمد الماغوط الثلاث الاولى، "حزن في ضوء القمر"، "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي"، يطالعك دائماً هذا الشعر الداهم والمفاجئ في وحشته القاسية وحنانه الأصم والأخرس، المنبثق متدفقاً في حرارته المسكونة ببرد داخلي لا ينضب، بجوع الى الماء والمطر وطيف نساء جديدات غير مسكونان بالخوف والخطايا والقسوة الجارحة: "نحن الشبيبة الساقطة
 (...) من يعطينا امرأة بثياب قطنية حمراء؟ (...) حيث مئة عام تربض على شواربنا المدمّاة". لكن "ليس لنا الاّ الخبز والأشعار والليل
وأنت يا آسيا الجريحة
 أيتها الوردة اليابسة في قلبي (...)
 القمح الذهبي التائه يملأ ثدييك رصاصاً وخمرا".
نعم، إن في شعر محمد الماغوط، سيرة مروّعة للهروب من أطراف المدن الداخلية على تخوم بادية الشام، الى بيروت الرافلة بالأضواء والأمواج البحرية في مطالع ستينات القرن الماضي، قبل أن تسقط بدورها تحت سنابك الغزو المنفجر من داخلها والآتي اليها من خارجها.
شعر هو سيرة للهرب من سوريا البعث والزمن العثماني، ومن: 

"أمواج البدو والعسكريين الزرق
 ينحدرون كالعاصفة
 بين الأنهار والملاءات السود
 حيث الغربان تبكي
 والفضاء مظلم كفوهة المدفع
 (و) كنت وحدي... أعود الى القرية المهجورة
 والتراب الساخن يسلق قدمي".
إنه الشعر الذي يصح فيه قول سنية صالح في انبثاقه من "
سكب الأحماض المأسوية على الفوضى البشرية". ويمكن أن نضيف كذلك إنه الشعر الذي، اذا جمعنا اليه شعر بدر شاكر السياب والبدايات الشعرية لسليم بركات، نقرأ سيرة مأساة الحياة العربية والثقافة العربية مع الحداثة والمدينة والفردية المحطمة.

نعم تقريباً هذا هو


نعم تقريباً هذا هو

محمد علي شمس الدين


أخيراً، مات الماغوط.
وأحسب أنه سيحلّ في جسد طائر.
وبدأتُ أفكّر: ما هو؟ وأين؟
* الحمامة؟
- كلا. الماغوط ليس في بياض الحمامة ووداعتها.
* الغراب؟
- ومن أين له ريشٌ أسود كريش الغراب، ونعيب لا ينقطع على الأموات؟
* النسر؟
- كلا. الماغوط وإن كان له عين النسر ومنقاره، إلاّ انه لا يحطّ على الجيف.
* العصفور؟... الأحدب؟
- كلا. الماغوط ليس عصفوراً يصطاده الصيادون المتجولون، ولا هو بأحدب فيكون فرجة.
* الهدهد؟
- كلا. فالماغوط ما كان رسولاً ينتقل من بلاط لآخر.
* الطاووس؟
- آه ما كان أبعده عن ريش الطواويس الملوّن.
* الكنار؟
- وما كان صوته يغرّد ويثرثر ويكرّ كالكنار ألف كرّة في اللحظة.
* ببغاء؟
- كلا فهو يستعصي على التلقين.
* حجلاً؟
- ويستعصي على الصياد.
* أهو طائر حبّ ملوّن؟
- أيضاً كلا. هو أشدّ قسوة من هذا اللطيف العاطفي.
* سنونوة سوداء، إذن...
- لقد كان أضخم من ألف سنونوة سوداء متراكمة بعضها فوق بعض.
* رخّ... عنقاء... سيمرغ؟
- آه... إنها طيور الخرافة. كلا. الماغوط ليس من طيور الخرافة.
* أهو طائر الهامة؟
- كلا، وإن رأيته مرةً يقف على جدار المقبرة ويصرخ اسقوني.
* هل سقيتَه؟
- نعم
لكنه رفض الماء.
* إذن
لا هو الرخ ولا العنقاء
لا السيمرغ ولا الهامة
لا النسر ولا الحمامة ولا الطاووس ولا الكنار
فمن هو إذن؟
- حسناً...
سأروي لكم حكاية رواها رسول عن طاغور قال:
"رأيتُ في كلكوتا في بيت رامبرانت طاغور العظيم، طائراً مرسوماً. هذا الطائر ليس موجوداً على الأرض، ولم يوجد عليها إطلاقاً. إنه ولد وعاش في نفس طاغور. إنه ثمرة خياله. لكنْ، طبعاً، لو لم يرَ طاغور أبداً طيوراً حقيقية، طيوراً على هذه الأرض، لما استطاع أن يخلق صورة طائره البديع".
* إذن: الماغوط طائر نفسه.
- نعم. تقريباً. هذا هو.

الشعر مستعصياً


الشعر مستعصياً

بلال خبيز


غياب محمد الماغوط قد يكون حجتنا، نحن الذين ما زلنا على علاقة ما بالشعر من قريب او بعيد. حجتنا لنفكر ملياً في المعنى الذي نريد ان يودي شعرنا إليه. محمد الماغوط كان الشاعر الوحيد الذي لم يهاجمه الشعراء. العلة كانت في انه يكتب القصيدة ويدير ظهره للجمهور. في آخر حديث له، بدا الرجل كما لو انه يستذكر إلى أي حد كيل له المديح. سأله الزميل عبده وازن إن كان يحب المديح، فأجاب من دون تردد: أكره المديح. والحق اننا كنا على الأرجح، ونحن نجمع على شاعريته، ولا نختلف عليها، نضيّق عليه الخناق. ذلك اننا نحن الشعراء إنما نقرأ بمزاجين على الأقل. لذا كان محمد الماغوط حجتنا القاطعة في ذم الشعراء الذين لا يشبهونه، ولذا كانت جملته سبيلنا الأول إلى الاعتراض، شعرياً على الأقل. لكن موضوع شبهنا به، يحتاج إلى تدقيق طويل وعسير. نجمع على الماغوط، لكننا نختلف في ما بيننا. نجمع على الماغوط ذلك انه الشاعر، وما ان نباشر قراءته حتى يحوّلنا قراءً. لا نعود لنقرأ بعين الكاتب ومزاجه، لأن كتابته أصعب من ان يجد فيها الناقد والشاعر صنعة ما. كان عباس بيضون يقول عنه: انه سليقة فوارة. كتابته حية ونضرة وتفسد مزاج السليقة عند الشاعر بمجرد ان يباشرها. لذا كنا نقرأه ونعجب به، لأنه شاعر يجدر بنا قراءته، لكن هذه القراءة نفسها تفسد حيويتنا ونضارتنا، فلا نعود نستطيع ان نقلده او نتتلمذ على يديه. كل تلمذة على يدي الماغوط تشبه خيانة لشعره. كما لو انه حين يكتب، يقطع العبارة من جذرها ويمنعها عن أي استعمال. سنقول ان الماغوط قال كذا، في مناسبة كذا، لكننا لن نستطيع ان نكتب سليقتنا وقد سبقنا الماغوط إليها. كل وجوه الشبه مع الماغوط هي محض صناعة. فالشعر يجود بشاعر واحد مثله، وكل ما عداه يبدو، في معنى ما، خروجاً على السليقة نحو الصناعة الباهتة.
كلنا قلّدنا الماغوط في لحظة او في أخرى، وكلنا أحببنا شعره. لكننا دائماً لا نتأثر بالماغوط بل نقلده.
نعرف منذ زمن اننا نستطيع ان نتأثر بالصناعة: بطريقة ليّ الجمل، وطريقة الإنشاء. لكننا لا نستطيع ان نقلّد الروح. والماغوط كان على الأرجح روح الشعر العربي الحديث.
نقرأ الماغوط قراءً، لكننا نقرأ الآخرين بحرفة الصاغة. نعرف كيف تتالت الجمل، واين يكمن سر الصناعة الماهرة، وكيف يمكن استحلاب الفكرة من اللغة، وكيف يمكننا ان نقول شيئاً لا يعني شيئاً في ذاته، لكنه يستطيع ان يوحي ويغمر ويطوف. لذا نبادر إلى تنحية الماغوط جانباً، فهو لغزنا الذي نتحدى به شعرية الشعراء. نحن لا نشبه الماغوط، لكننا نجزم ان الآخرين لا يشبهونه، وان في قلة شبههم به ما يجعلهم ناقصين واقل من ان يكونوا شعراء. نقرأ الماغوط ولا نجرؤ ان نكتب على منواله. ذلك اننا نحتاج ان نكون في حال من اثنتين لنكتب مثل الماغوط: إما اننا نجهل ما كتب، وإما اننا قررنا ان نلقي بكل ما قرأناه في سلة المهملات، لنباشر الشعر من حيث تقودنا أمزجتنا الحارة في تلك اللحظة. لذا كله تبدو معرفة الماغوط لعنة. قراءته تشبه لعنة نحيل آثارها المدمرة على غيرنا، على شعرائنا الكبار تحديدا. لكننا لا نحسن ان ننجو منها.
كتب الماغوط ما يكفي ليجعل الشعر مستعصياً. وليجعلنا ننصرف عنه إلى صناعة المعجبين والأفكار النقدية. لا نقول في شعر الماغوط الكثير، ذلك انه يشبه الأنصاب، نتفق على معناه ولا نجرؤ على مساءلة معانيه مرة أخرى. ففي مثل هذا التجرؤ ما يجعل كل ما حاولنا تحقيقه في مهبّ الريح.
الآن بعد الماغوط، أفكر ان من الأنسب لي ان أتجاهل وجوده كلياً. وان انسى انه وجد ذات يوم. ففي مثل هذا النسيان ما يجعلني قادراً على تصديق ما اكتب والدفاع عنه.

شخّوا على قبري


شخّوا على قبري

محمد علي الأتاسي


في مطلع العام 2001 أراد "الملحق" تكريم الشاعر محمد الماغوط بتخصيص ملف له يكون تحية حب وتقدير. اقترحت إجراء مقابلة صحافية معه تتصدر هذا الملف، وكان ذلك تحدياً كبيراً، فالشاعر المعتكف في بيته يرفض إجراء المقابلات وهو يكاد يخرج على طوره من السين والجيم ويكره بشدة آلة التسجيل.
مع ذلك، قررتُ المحاولة، فأتيت إليه من بيروت برفقة صديقتي، زوجتي لاحقاً، وتواعدنا في مقهى فندق "الشام" في صباح أحد الأيام الباردة. وما كدنا نجلس معه حتى كان واضحاً وصارماً وجازماً في رفضه إجراء المقابلة. قبلنا مكرهين برغبته وجلسنا مع ذلك الى طاولته نتقاسم قهوة الحياة والحزن والحب والفرح. كان لديه شوق جارف لبيروت ومقاهيها وأرصفتها وللأصدقاء الذين تركهم فيها. وبدلاً من أن نسأله نحن، راح هو يسألنا عن شارعي الحمرا وبلس، عن أطلال النغرسكو والهورس شو، عن الصحف والمجلات، عن أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. كان يتحدث بقنوط فاجع ويردد أن فجره كان في بيروت وغروبه في دمشق، قبل أن يسرّ أن بيروت لم تنتزع الشام من قلبه.
أمام هذا الحنين المثقل بالأحزان والبعاد، لم أجد بداً من أن أقترح عليه بكل جدّية وإصرار أن آخذه حالاً الى بيروت: السيارة جاهزة والطريق لن تستغرق منا أكثر من ساعتين وسنكون هناك في الساعة الحادية عشرة، وما علينا بعدها سوى أن نكمل قهوتنا في احد مقاهي الحمرا ثم نمشي قليلا في اتجاه مكاتب "النهار" لرؤية صديقك أنسي الحاج، وبعدها تذهب للغداء مع شوقي أبي شقرا، وفي المساء سنكون حتماً في الشام. ارتبك الماغوط بشدة وأحمرن وجنتاه كطفل كبير وأشاح عينيه عن الإصرار البادي على ملامحي، وراح يردد متهرباً أنه يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات وأن بيروت الحالية ليست بيروت التي يعرفها وأن لا طاقة له على رؤية صور المعممين في كل مكان. قلت له إن شارع الحمرا الذي طالما اعتبره أجمل من الشانزليزيه، لم يعد فيه صور للمعممين على أعمدته وإنه بدأ يستعيد شيئاً من رونقه. أجابني ساخراً أن "
شارع الحمرا صار مثل شارع الشانزليزيه كله عرب!".
وقفت حائراً أمام عناد هذا الطفل الكبير وإصراره أن يعيش متوحداً في ذكرياته، وكان لا بد أن أحترم رغبته في مداواة وحدته وجروحه بالشكل الذي يرتئيه. بعد ما انتهى طقس القهوة الصباحية دعانا الماغوط لإكمال الدردشة في بيته. في الطريق استوقفنا لشراء زجاجة ويسكي حملها بفرح قائلاً: "
زجاجة الويسكي حبيبتي. الويسكي كالشاعر لا هوية له ولا وطن". وصلنا إلى المنزل في العاشرة والنصف صباحاً. ارتدى الماغوط بيجامته وأدار المسجلة على صوت فيروز وتمدد على الأريكة بعدما وضع على الطاولة كأساً من "الجين تونيك" وطقم أسنانه. وراح يشكو من خيانة جسده له، في وقت لا يزال عقله صافيا، وكيف أن يده التي يكتب بها القصائد، قد يمر شهران من دون أن يتنبه إلى استطالة أظافرها. نهار الماغوط وليله كان يمضيهما ممدداً على هذه الأريكة في غرفة الجلوس، ورغم حبه لليل كان يصاب بالنعاس بدءاً من ا الخامسة مساء فيصرف بقية الليل بين النوم واليقظة. حدثنا الماغوط عن حلم كان يراوده كثيراً في الآونة الأخيرة: "أحلم أني دائماً بعيد عن مكان إقامتي. لكني لا أعرف ما هو مكان إقامتي، بيروت أم الشام. أرى أحياء وأرى نفسي بعيداً عن بيتي وضائعأً، أحاول أن أصل إليه ولا أستطيع. بعيد. ضواح ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائماً حفيان".
كان الماغوط في ذلك اليوم منفرج الأسارير وكنت أنتهز الفرصة بين الفينة والأخرى للذهاب مسرعاً إلى المرحاض لتسجيل بعض الفقرات التي أعجبتني والتي كان لتوه قد نطق بها. فهو ما كان ليرضى ولا ليشعر أنه مرتاح إذا رحت أسجل الملاحظات على مرأى منه، لكنه كان مع ذلك متواطئاً في اللعبة ولم يبد استغرابه من كثرة ذهابي لقضاء الحاجة. حتى أني أمضيت الجلسة معه متنقلاً بين غرفة الجلوس والمرحاض!
كان ذلك الزمن زمن "ربيع دمشق" وبيانات المثقفين والكلام العلني والمنتديات السياسية، لكن الماغوط كان يعيش زمناً آخر، حيث الرعب والسجون والكتابة بالتورية. ورغم كره الماغوط الشديد للسجون وتعاطفه الصادق مع السجناء السياسيين وخصوصاً المثقفين، إلا أنه كان من الاستحالة انتزاع موقف منه، واضح وصريح، لما يجري في سوريا. كان يردد الآتي: "
أنا لم أوقّع في عمري ولن أوقّع أي بيان أو عريضة. عندي رأي، أكتبه باسمي الصريح".
ولكن ماذا لو كان هذا الرأي ليس صريحاً بالشكل الكافي؟ يجيبك الماغوط محتجاً: "
مستحيل أن أكتب زاوية دون ذكر الحرية أو السجون. أما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء، فلأنه ممنوع أن تذكر. يجب أن تعمم، هذه خبرة. أنا أحياناً لا أجرؤ على ذكر اسم الشام". ومع ذلك فالماغوط كان يتهكم على الزمن العربي الراهن ويقول بسخرية لاذعة: "أين طغاة ذلك الزمن وأين ستالين من طغاة اليوم وبهدلتهم".
في رحلة الذهاب والإياب من المرحاض إلى غرفة الجلوس وبالعكس، قادنا الحديث إلى الشعر وقصيدة النثر وعاد الماغوط ليردد طموحه في إلغاء المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عنده نصوص. في حين كان همي أنا إلغاء المسافة بين المرحاض وغرفة الجلوس علني أستطيع أن أسجل كمية أكبر من الحديث. عندما رحت أسأله في بنية قصيدة النثر التي كتبها وفي موسيقاها الداخلية تبرم من السؤال وأجابني جازماً: "
علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته وهما نائمان في فراش واحد. أي حركة منه أو منها يمكن أن تفسَّر". وعندما طلبت منه أن يشرح أكثر أجاب: "علاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، وفي القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة من هذا النوع. وهذه هي الموسيقى". طبعاً لم أفهم ما يقصده بالضبط من هذا التشبيه، ولا أعتقد أنه هو الآخر فهم.
حديث محمد الماغوط عن زوجته الشاعرة سنية الصالح التي قضت مبكراً بمرض عضال، فيه الكثير من الحب والألم والندم والشوق. هي في نظره وحدها السماء وكل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفئ. وإذا كان الماغوط يشعر بتأنيب الضمير كونه أذاها واسمه طغى عليها، فإنه يروي بحزن كيف جلس يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الأبر وهي على فراش الموت فقالت له عبارة لن ينساها: أنت أنبل إنسان في العالم. وإذا كان الماغوط قال لي إن مكان الدفن وشكليات الموت لا تعني شيئاً له، فإنه مع ذلك كتب على قبر زوجته في مقبرة الست زينب قرب دمشق، وذلك من أجل أن يميزه عن بقية القبور، كما يقول: "
هنا ترقد الشاعرة سنية الصالح آخر طفلة في العالم". وعندما سألته في ختام تلك الجلسة كيف سنميز قبره؟ ضحك بخبث العارف واستوقفني قبل أن أعود مجدداً إلى الحمام وأجابني قائلاً بتهكم: "شخّوا عليه".
رويداً رويداً انتهت زجاجة الجين التي ألحقها بزجاجة الويسكي. قل الكلام وتعبت بدوري من كثرة الذهاب إلى المرحاض، فاستأذنت الشاعر الكبير بالمغادرة وطلبت منه أن يسمح لي بكتابة خلاصة لحديثنا، على أن أطلعه عليها قبل النشر. وبعد أيام عدت إليه مع النص الذي نال موافقته وتم نشره لاحقاً في "الملحق"، وفي ختامه عبارة "شخوا عليه"، عدا أني في لقائنا الثاني جلست معه مرتاحاً ومستمتعاً، بعيداً عن المرحاض وهمومه.


حزن بين دمشق وبيروت


حزن بين دمشق وبيروت

شوقي نجم


لا ادري ما هي "الصدفة القدرية" التي جعلت المسرحي والمثقف عصام محفوظ، والشاعر والمسرحي محمد الماغوط يغيبان في السنة نفسها. محفوظ والماغوط من الجيل نفسه، ومن "نجوم" مجلة "شعر" في الستينات في القرن الماضي، ومن أصحاب الهواجس الكبرى في البحث عن تغيير الواقع، في عالم يرزح تحت ثقل الأعباء الاجتماعية والسياسية.
مات "المتمرد القلق" عصام محفوظ وحيدا وفقيرا، تاركا رصيدا هائلا من الكتب في المسرح خصوصا، والثقافة عموما. مات بعدما مكث في المستشفى لأشهر تحت وطأة الغيبوبة والبحث عن معين لتطبيبه. لا احد يحتاج الى التذكير بأحواله في سنواته الأخيرة، التي ربما لا تشبه الا أحوال الثقافة نفسها. اما "البدوي الأحمر" محمد الماغوط فمات وفي يده اليمنى عقب سيكارة وفي اليسرى سماعة الهاتف، في حين يدور صوت شريط المسجلة في تلاوة لسورة يوسف. لا تحتاج أحواله الى التذكير. لقد مات بعد أسابيع من تسلمه "جائزة سلطان العويس". هكذا كان قدره ان يعيش حياته فقيرا، ويموت "غنيا". وكان "الرعب المادي" جعله يكتب في الصحف البعثية، ويتغاضى عن توظيف مسرحية "قيام جلوس سكوت" في خدمة البعث الاشتراكي.
ليس قصدنا التنديد بالماغوط وأفعاله الأخيرة، اقل ما يقال إنه الألمع بين جيله. لقد مات الماغوط في دمشق، ومات محفوظ في بيروت. يذكر الجميع الجسر العريض الذي صنعته الثقافة بين المدينتين المختلفتين، قبل ان تأتي السياسة البعثية المخابراتية وتنسفه من اجل ان تبني جسور الحرب والأسلحة والاغتيالات والتصفيات، ثم لتكون النهاية صعود الغرائز البدائية بين الجماعات وضمور الشعر.
كثيرون حاولوا تقليده ووجدوا صعوبة في ذلك لأنه ينتمي الى خانة "السهل الممتنع". حماسة الشباب لشعره سببها انه كان يحمل عنصر المفاجأة والمفارقة، والنهايات غير السعيدة. قصيدته غنية بقدرتها على التدفق والبقاء والتأثير بما تحمله من حداثة، ولغة شخصية لا تشبه إلا صاحبها، في حزنه و"فرحه"، في بدويته وحداثته، في بريته ومدينيته. يربط بين قصائده خيط من الحزن الطويل، حزن في ضوء الشعر، وهو الذي آثر أن يبقي القصيدة بعيدا عن منابت الثقافة والتنظير الهلامي، ونجح في الانتماء الى الحداثة وفي الخروج عليها في آن واحد.
كان "ملك التمرد وصعلوكه"، عاشق المدينة والمتأزم منها. صرخ منذ البداية:
"الا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن". كان يحمل لواء الدفاع عن الأمة ومستقبلها، لكنه يعلن انه "سيخون وطنه". وتقول زوجته الراحلة سنية صالح إن مأساة الشاعر أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى وهو يحاول توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية، وذروة هذه المأساة إصراره على تغيير الواقع، وحيداً لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. كان الماغوط من ابرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. نزل الى الشارع اليومي، واستطاع ان يكون شعره قريبا من الناس. اللافت انه بقدر ما يشعر المرء بفرح عندما يقرأ شعر الماغوط، يستنبط الحزن من بين كلمات قصائده، الحزن جذري في عباراته، لأنه في قلب النص. انه "أميرال الفجائع". رأى في كتاباته كيف ينبت الجوع في الطرق وكيف يتفجر الرعب في العقول وكيف تغل العبودية أحرارها بالحديد وكيف يركض الضجر إلى المقاهي، باستثناء الأمل صديقه الودود. في "الفرح ليس مهنتي"، كان المطر حزيناً يغمر وجهه الحزين. يقول: "حبيبتي: هم يسافرون ونحن ننتظر، هم يملكون المشانق، ونحن نملك الأعناق، هم يملكون اللآلئ، ونحن نملك النمش والتواليل، هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار ونحن نملك الجلد والعظام".
لا نعلم ما سر الحزن الماغوطي. ربما كان في السلالة او الجينات. كان جهورا في الإعلان عن حزنه، يقول: "
ولدت مذعورا وسأموت مذعورا، انا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني". يعترف ان الحزن لا يفارقه منذ البداية، ربما لهذا السبب عنون مجموعته الشعرية الاولى به، حتى لقّب بشاعر الأحزان الدفينة وإنكسارات الأحلام المقموعة، ولقب بالشاعر الصعلوك والشاعر الضليل والشاعر الكوابيسي.
لم تكن الصعلكة بالنسبة اليه تنظيرا في الصحف او في الكتب. كانت نمط حياة وأسلوب عيش، وكانت لغته اليومية. كان يتحدث عن الشعر ببساطة عالية، وعفوية مطلقة، حتى ليكاد المرء يظن ان هذا الشاعر الكبير لا يفقه في الشعر شيئا، من ناحية التنظير. لقارئ كلماته عن الشعر ان يلاحظ ذلك في المقابلات التي أجرتها معه الدوريات الثقافية، فمن أطرف ما يرسمه لمجلة "شعر" التي لجأ اليها في شبابه، انه في اللقاءات التي كانت تتم في غالب الأحيان في بيت يوسف الخال، كان يسمع الأحاديث عن شعراء وأسماء لا يعرفهم مثل عزرا باوند واليوت وسوزان برنار. لم يكن يجيد لغة سوى العربية، لذا كان يصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام يأكل. في إحدى المرات قال: "
كانت مشكلة جماعة مجلة "شعر"، استغراقهم في تحطيم السفينة، دون ان يفكروا بالغرق المؤكد. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغميا عليه، بينما قل له وعلى مسافة كيلومترات: جاك بريفير، ينتصب ويقفز أمتارا عدة عن الأرض كأنه شرب حليب السباع".
لم يكن الماغوط إيديولوجيا، لكن شعره كان أشبه ببيان احتجاج ضد المحيط الذي يعيش فيه. بدايته الأدبية في السجن، وفي الحزب. والمعروف انه انتمى في شبابه الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. "
حصل الأمر دون قناعة تذكر، ربما كان الفقر سببا في ذلك. فالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي، كنت بحاجة الى انتماء ما. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية هما حزب البعث والحزب السوري القومي. وفي طريقي للانتساب الى احدهما، اتضح لي ان احدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة. ولأني متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة، وصراحة الى اليوم لم اقرأ صفحتين من مبادئه. ومنذ ان انتهت موجة البرد الاولى لم احضر له اجتماعا، ولم أقم بأي نشاط على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها جمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت اعمل في بساتينها. جمعت الاشتراكات والتبرعات واشتريت بنطلونا وذلك وجه الضيف" ("الحياة" 4 نيسان).
لكن الماغوط سجن بسبب هذا الحزب مرتين، "
صحيح اني لم اسجن طويلا، لكني حين سجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري. أحسست بشيء في داخلي ينكسر. ليس الضلوع، بل شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني وأقام معي صداقة لا تزال قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري". في زمن عيشه في دمشق كان يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات، ويعتبر انها لن تعود قطعاً، وأن دورها انتهى. ويحن الى الشام التي عرفها، لا الى شام السلطة. كتب مرة: "المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاماً، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة. حتى في السلمية أشعر بنفسي غريباً، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة. الشام مثل البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاماً. أصبحت مرعبة".

Sunday, January 2, 2011

صحبة الأب


صحبة الأب


أكرم قطريب


1
مات محمد الماغوط. من يصدّق! الآن عرفت لماذا كان إليوت يكره شهر نيسان. فالذي كان يغرد خارج حدود العرب وأوطانهم أجمعين مات. مات الذي بقي يحلم وهو على عكاز في بلاد تشبه الشعر إلى حد بعيد، تاركا وراءه شجرته العظيمة وأعمدة وقوارب منهكة وزرقة، وشحوبه الذي لطالما اتصف به. مات محمد الماغوط الذي لم ينتم إلا إلى نفسه ولغته وبرّيته، التي لم يستطع أحد منا اللحاق به إليها. في كل لحظة من كتابته، كان ثمة مجازفة ومرارة ضرورية في كل سطر، والخيط الممدود بين لغته وحياته اليومية أشبه ما كان بسرّ خاص به. لم يضع نفسه في مواجهة مقصودة مع البلاغة وحرّاسها، ولم يكن يستطيع أن يتخيل أن الشعر يمكن لجمه بين أسوار الأكاديميات والفلسفة التي لا طائل لها وهي تشرّحه في غرف العناية الفائقة. كان ناسخ نفسه، هذا البدوي الذي نزل من أصقاع الريف القاسي إلى المدن، وقلبه وحذاؤه تحت إبطيه. إن اختزال الماغوط في لحظة موته هذه قد تظلمه، هذا الذي سيبقى نحس الشعراء وهم يحرثون اللغة في أرضه الملغّمة. ستكون خسارة أكيدة ومزعجة لكثيرين، ولن تنفع كل أنواع الأسلحة المضادة لأنه كان يكتب أشياء يود نسيانها، وكان قدره أن يهبط من اللغة العربية حين أعاد إليها الحياة في ثقافة الموت. قصائد تركض عارية في المدن المحجّبة والمسكونة بالرعب، أشبه بنداء قصيّ في صحراء، وأوطان هي هذيانات مكانية لم يستطع أن يكون واحداً من حكمائها، هو المستوحش والغريب والمتجهم، وظمأه تحت لسانه، بالكتف المغبرّة والعاطفة الراسخة كجبال الأساطير القديمة. ها نحن نستعيده في الصحو، ومن دون حراك سنتلمس قلبه الذي يرفّ تحت التراب. نحسده ونحن نصدق أنّ في إمكان الشاعر أن يكون حارس الأبدية بساق جريحة، أو عرضة للفناء على هذا الشكل.



2

أزيحوا تماثيل الجنرالات ولو قليلا تحت شمس هذا الشهر. دعوه يمر، يا للحسرة. كل ما حفظناه من لمح عينيه القويتين سيذوي ونحن نتدرب على سرقة لمعانهما. لم يورثنا إلا الحواف المسننة وأجنحة من الشمع ومدنا ميؤوسا منها، مدنا لا تزال تنام على ألحان المارشات والشجر المحروق على مهل. كنت لا أصدق أن الشاعر يموت هكذا على حين غرة من لحم ودم، وبكل هذا النضج الهائل سيجفّ وسيُحشر لحمه نيئا بين صفائح الرخام، حيث هنا سيقوّي عزلته التي كان يستشرس في الدفاع عنها. كل ذلك الشعر، وكل هذا الخدر، وكل تلك التخوم التي تهافت عليها، وكل ذلك العوز الرومنسي إلى حرية متوهمة، لم ينقذ قلبه من أن لا يتوقف، وهو الشاعر الذي يكاد يكون الوحيد الذي لا أملّ من قراءته مرات ومرات وبشغف لا يضاهى، وحيدا معه في التيه وفي السجن العربي الشاسع المربوط بكسرة الخبز والصحون الطائرة في الخطابات. هل من تمثال له على أطراف البادية، حديقة وبضعة رفوف عليها كتبه. أو رسم صغير لرجل طاعن أحنته مفاتيح الأرض الخراب الثقيلة. ترى، لمن سأدين بهذه الصحبة، صحبة الأب في "الفرح ليس مهنتي" من مكتب البريد الى الجامعة، أيام دمشق، الى المقهى والحي الذي كنت أسكن فيه، ثم وسادة النوم إلى صوره أيام مجلة "شعر" مع أنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة ونازك الملائكة وأدونيس ولور غريب وليلى بعلبكي ، إلى كلامه الآسر عن بدر شاكر السياب. ترى من يستطيع نسيان تلك المقالات التي كتبت أيام مجلة "المستقبل" مع نبيل خوري ورياض نجيب الريس. مجرد رمية الحجر هذه على هامش صفحة مذهولة، ستذكّرني بسياف الزهور الذي كان يتمرن على النظر نحو الشمس من وراء شباك مكسور. سأتحلى برباطة جأش وأنا أتخيله عائدا إلى سفوح مدينتي وفي يده شمعة تضيء له القبر وربما تنطفئ، وليس لديَّ من تسميات لكل تلك الشاعرية التي كانت تأسرني في كتبه وطريقة مشيته محنياً وساخراً وصاحب نكتة مريرة، في الحلم وتجربة العيش، نقلها حتى إلى شعره الذي كسر ذلك التناظر والزخرفة اللفظية التي داخت بها مدوّنات كثيرين. بالحمية نفسها لن أتمكن من ضبط نفسي وأنا أدفع حصتي من وهمٍ دفع بي إلى بلاد لا تُرى بالعين المجردة، باحثاً عن والت ويتمان على ضفاف البحيرات وفي شوارع هارلم. وكم كان محمد الماغوط لصيقاً وقريباً، أنا المذهول لرفقته لي حين أستدعي النادل في البار لأدفع قيمة الزجاجات التي سفحناها معاً قرب الهدسون.


3

قلت لزوجتي: مات الماغوط. ردّت: من زمان كان مبيّن أنّو بدّو يموت.

قصيدة واحدة تكفي


قصيدة واحدة تكفي


ديما الشكر


في إحدى جلسات مجلة "شعر" قرأ أدونيس قصيدة لمحمد الماغوط بحضوره وفي حضور شعراء "نجوم" مغفلاً عن قصد اسم الشاعر. وحين سأل أدونيس الحضور النجوم، إن كانوا يعرفون لمن القصيدة، احتاروا بين بودلير ورامبو، بيد أن أدونيس الذي كان قد التقط جمرة نص الماغوط وعمّدها شعراً، أشار بهدوء إلى الرجل وقال مفاجئاً الحضور: "هذا هو الشاعر".
روى محمد الماغوط هذه الحادثة لخليل صويلح الذي قيّدها كما قيّد غيرها في الكتاب - الحوار (اغتصاب كان وأخواتها) الصادر في دمشق لدى "دار البلد" عام 2002.
لعل في استعادة تلك الحادثة، ما ينفع الذكرى اليوم وقد أطفأ الماغوط عمره ورحل عنّا (1934 - 2006)، مخلِّفاً لنا قصائد ومسرحيات ونصوصاً وتصريحات كثيرة وعديدة، كرّسته شاعراً "كبيراً" لقصيدة النثر.
كأنما التنظير الفضفاض لقصيدة النثر - آنذاك والمستمر إلى اليوم - وجد في نصوص الماغوط شرعية لا بدّ منها، من أجل الانطلاق قدماً في طريق الحداثة الشعرية. لكنّ نص الماغوط الآتي من "خارج" التنظير، كما تُثبت ذلك جليّاً الحادثة أعلاه، يختلف عن قصيدة النثر التي بُشِّر بها، في نقاط أساسية ومفصلية: لم يكتب الماغوط قصائد غير موزونة عمداً ومن أجل التحرر من الوزن. ولم يتقصد خرق القواعد النحوية، ولا الجنوح نحو مبدأ الفوضى في التركيب. ولم يكتب قصيدة "مجانية". ولم يكتب مطلقاً قصيدة غامضة تعتمد التجريد أساساً في وصف عوالم داخلية لا طائل منها. إنما كتب على العكس من ذلك كلّه، وتكفي قراءة قصيدة واحدة للماغوط، للتعرّف دفعةً واحدة الى إنتاجه كلّه. فهو الذي كتب نصوصاً بلا وزن، لأنه لم يَنظر إلى نصوصه أصلاً في اعتبارها قصائد، قدر ما اعتبرها احتجاجاً صارخاً على واقعه البائس، فلم يتوقف يوماً ويدقق مطالباً بالانتماء إلى قصيدة النثر، بل هي التي أتت إليه. ولم يتعمد الماغوط خرق القواعد النحوية، كأن يقدّم الفاعل على الفعل، أو يضيف أداة التعريف إليه. بل أكثَرَ من اللجوء إلى أدواة النداء (أيها، أيتها، يا) في قصائده بصورة واضحة. وفي الأمر دلالةٌ على رغبة جامحة في استحضار مخاطَب حسيّ لا مجرد، ليس إلا الديكتاتور أو الطاغية، أو حذاء الضابط، أو الحزن:

 "أظنها من الوطن
 هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين
 أظنها من دمشق
 هذه الطفلة المقرونة الحواجب
 هذه العيون الأكثر صفاءً
 من نيران زرقاء بين السفن.
 أيها الحزن... يا سيفي الطويل المجعد
 الرصيف الحامل طفله الأشقر
 يسأل عن وردة أو أسير
 عن سفينة وغيمة من الوطن
(من "جنازة النسر").
لقد تحول هذا المخاطَب في نصوص الماغوط إلى موضوعات ثابتة في قصائده، على نحو كرر فيه دائماً تذمره منها وثورته عليها، بصورة أفضت في نهاية المطاف إلى إنشاء بصمة خاصة بالماغوط لا يمكن تقليدها أو استنساخها، لكثرة ورودها في قصائده. من هنا، لم يكن ممكناً أن ينجح "شاعر" جديد منتمٍ عن سابق قصد وإصرار إلى "قصيدة النثر" في إعادة تكرار ما هو مكرر أصلاً، وخصوصاً أن نجاح الماغوط في ذلك، يعود في الدرجة الأولى إلى عفوية بناء القصيدة وبساطتها من ناحية، وإلى أن الشاعر تكلّم فيها دائماً بصوت الفقراء والمهمشين بالطبع لا بالتطبع، وصوّر نفسه ضحيةً بامتياز لأنظمة القمع والاستبداد من ناحية أخرى. عند هذه النقطة بالذات استطاع الماغوط أن يكتب لا "قصيدة النثر" المترفة بتنظيرها، وإنما استطاع كتابة ذلك النص الذي يمس وجدان شريحة كبرى من الشعوب العربية، ليظهر كمعبّر حقيقي عن صوت الجماعة المقهورة وعمّا تختزنه من آلام ومآسٍ لمّا تنته بعدُ.
بيد أن تميّز الماغوط في إضفاء حسية واضحة على مخاطَبه، وتصويره بصورة مادية، من طريق أدوات النداء، لعب دوراً كبيراً في تحويل وجهة القصيدة نحو المسرح. ذلك أن النقاط المميِّزة أعلاه لنص الماغوط، أخذت أبعادها ومداها في نصوصه المسرحية الشهيرة التي نجحت في تربتها السورية، وبصورة أدق عند زواجها الأبدي بالممثل السوري القدير دريد لحام، قبل أن تعرف نجاحاً باهراً في المدن والعواصم العربية التي عُرضت فيها. وبعد، فإن النظر في نصوص الماغوط الشعرية منها أو النثرية أو المسرحية، يُبطن مفارقات تنبئنا ببؤس التنظير الذي استند إلى ألم السجين المعذب الفقير، ليجد "التوهج والكثافة والمجانية والإيقاع الداخلي"، ويدشّن أريستوقراطية "قصيدة النثر" بدلاً من أن ينتمي إلى النقد ويدقق في الألم الذي لا يطاق، الذي سمح للنص الشعري بالانطلاق بسلاسة نحو النص المسرحي، ليخاطب اثنين، طاغية لا يسمع، وجمهوراً يصغي إلى نفسه، إلى كلامه اليومي، ويرى قهره واغتصابه، فيبكي ويضحك من شدة البؤس.

بين الثورة المغدورة والشعر المنثور


بين الثورة المغدورة والشعر المنثور


سلام عبود


لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
أنا أعرف أن قولي هذا سيصيب كثيرين بالدهشة، إن لم يكن بالبَهت.
ماذا عن أمه؟
ماذا عن رفاق طفولته الحزينة؟
ماذا عن زوجته، وهي شاعرة مثله؟
ماذا يقول زكريا تامر الذي كان يزوده بعض معارفه في سجنه؟
ماذا يقول الذين نشروا أول قصيدة له، والذين تبنّوه شاعرا قبل أن يفطن هو الى معاصي الشعر الخفيّة؟
ماذا سيقول زملاء مجلة "شعر"؟
ماذا عن دارسي حياته وأدبه؟ وماذا عن الأصدقاء والأعداء والأعدقاء؟
كثيرون سيصابون برعدة وهم يجدون أنفسهم قد سُلبوا حق معرفة الماغوط، أو، لنقل، حق مجهولين في معرفة بعض أسراره الصغيرة والكبيرة؟
وكيف يحق لمن لم يقتربوا منه أن يجدوا في أنفسهم الجرأة على احتكار حقائق الشاعر الخفية؟
على الرغم من هذا كله، أعود فأقول جازما، مكابرا: لا أحد في هذه البريّة الشاسعة يعرف الماغوط أكثر منا نحن معشر العراقيين.
حينما تعرفت الى الماغوط في أواخر النصف الثاني للستينات، كنت طالبا في كلية الآداب. كان عمري ثمانية عشر عاما. لم أعرف حينذاك عن سجنه، ولا عن طفولته، ولا عن قصيدته الأولى. لكني كنت أحمل في روحي "
ملفا ضخما عن العذاب البشري". ولسبب ما، كنت أنوي رفعه الى الله حالما أنهي كتابته. لا أدري إن كنت فعلت ذلك أم لا، ولا أدري إن كان الله استقبله مني أم لا، والأكثر أهمية أني لا أعرف حتى هذه اللحظة بأي اللغات كان يتوجب عليَّ كتابته، لكي يستطيع ذلك الذي في الأعالي أن يتواصل معي في متعة قراءته.
ملاحظة عابرة: كان الماغوط شكاكا في ما يتعلق بألغاز اللغة الوحيدة التي يجيدها. ولفرط هوسه بها، كان يظن أنه أقدر حتى من الخالق عزّ وجلّ، على فك أسرارها.
من هنا بدأت معرفتي بالماغوط. صديق ما، أرجّح أن يكون الصديق الشاعر عبد الحسين الهندواي، هو الذي وضع في يدي ديوانا هزيلا، منسوخا بخط اليد، ملفوفا بجريدة رياضية، وقال لي هامسا:
- كن حذرا كما اتفقنا! ولا تخبر أحدا أني من زوّدك هذا!
لم أخبر أحدا. لكني حفظت الأحزان التي كُتبت في ضوء القمر عن ظهر قلب، ورحت أرددها على كل من أختلي به، حتى بتّ أظن، لسبب خفي، أني منشور سري حي، منشور محظور، جريمته الكبرى أنه يقطر شعرا خالصا.
ذلك كل ما أذكره عن الماغوط وبداية صلتي به، التي تجعلني الآن أشك في وجود كائنات أخرى غيرنا، نحن معشر العراقيين، يعرفه أكثر منا، وعلى أقل تقدير يعرف ملفات عذابه، عذابنا، السرية الضخمة.
لسبب خفي أيضا، لم أكتف بحفظ قصائد الماغوط. كنت أضع الديوان الصغير المنسوخ تحت ملابسي وأمشي بمعيته في الشوارع. وفي شارع الرشيد، شارع التبّضع البغدادي، كنت أسير وأراقب بحذر تام شبح صورتي المرسوم على الواجهات الزجاجية للمخازن التجارية، لأعرف إن كانت هيئتي تشي بأني أحمل ملفا ضخما عن العذاب البشري بين طيات ملابسي وفي ثنايا روحي.
كنت أسير بين أعمدة البنايات ولا أرى الناس. لأني كنت مشغولا بأمرين: ملف الماغوط الضخم، ومصير بطل مالرو في "الوضع (أو المصير) البشري"، الذي كان يمشي معي بحزم وثقة، يبادلني، رغم لغته الصينية، قراءة كلمات الماغوط، ويعدّ معي، سرا، عملية تفجير هائلة، هدفها قلب موازين العالم رأسا على عقب.
ففي اليوم نفسه، الذي تسلمت فيه ديوان الماغوط، سلّمني التنظيم المسلح مجموعة وثائق نظرية عن طرق إعداد قنابل محلية الصنع. بعدما ألححت كثيرا على رفاق التنظيم وأقنعتهم بأني مسكون بعمليات التفجير.
كانت مشكلتي الكبرى أني لا أملك مسدسا، والأهم أني لم أر في حياتي مسدسا حقيقيا، عدا تلك التي رأيتها في الأفلام، وتلك التي يملكها جهاز القمع المتوارث في بلادي.
بيد أن مشكلتي الأضخم كانت أني كنت مقسّما، كرغيف الفقراء، بين الثورة المغدورة والشعر المنثور. فخسرتهما معا، بالضبط كما ربحهما الماغوط معا.
فمن يعرف الماغوط أكثر منّي، ومنّا؟
ومن يعرف أرباحنا وخسائرنا، الظاهرة والمستترة؟
لا أحد يعرف ذلك غير ذلك الذي أعددنا له، يوما ما، ملفنا الضخم عن العذاب البشري، وكنّا نأمل بصدق فطري أن لا يكون أميّاَ.

لهذه الأسباب لسنا أيتامه


لهذه الأسباب لسنا أيتامه


ماهر شرف الدين


فعلها الماغوط. أفرغُ من كتابة هذه الجملة، وأستمهل إشارتَي تعجب واستفهام. بالطبع، كان الماغوط ميتاً منذ زمن. لم ننتظر اتصالاً هاتفياً، أو خبراً عاجلاً من وكالات الأنباء، كي نتأكد من موته. لقد مات الماغوط قبل ذلك بكثير. مات لحظة لم يعد يرى دمشق امرأةً تضطجع في دفتره كفخذين عاريتين. لقد مات منذ أن طالب شامه الحديثة بأرصفتها القديمة. لم يخرج الماغوط في تظاهرات بلاده، بسبب ترتيبها، كما يقول: تظاهر على أوراقه. لكن علبة الثقاب لم تفارق جيبه، لإشعال السجائر، وإشعال ما كتب. صحيح، كان الماغوط مستعداً دائماً لاستعمال علبة ثقابه (استعملها؟). وكان على الدوام لا يجد ميزاناً أفضل من كفّ يده ليزين فيها قضاياه. حمل الماغوط قضيته كالكنغر في جيب أمامي. زانها في يده، وقذفها برجله، وبكاها. الصحيح، أن ما أخّر هذا الصعلوك الغابر عن قبيلته هو بالضبط ما جعله شاعراً كبيراً: فردة حذاء دائمة في يد الماغوط. حملها في شعره، وفي حياته. واصطحبها إلى بيروت ودمشق والسلميّة. فردة حذاء حسبها أحياناً للعسكر، فغنّى فلسطينه. وخالها أحياناً أخرى للشرطة، فغنى حرّيته... لكنها كانت فرده حذائه هو. كان الماغوط ساندريلا نفسه. حمل حذاءها بيده، وقطع البلاد بحثاً عنها. بالطبع، لم يجد الماغوط ساندريلاه. وفي اللحظة الأخيرة من حياة زوجته الشاعرة سنية صالح كان يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، ولا يجرؤ على تجريب الحذاء فيهما. كان الماغوط يخاف أن يجد ذاته، أن يعثر عليها، أن يلمسها بيده. كان يخاف إنهاء تسكّعه. ولأنه كذلك، دقّ الأبواب بقبضته المتعبة، والأشجار بمساميره الكبيرة. كان شحاذ أوطان من دون منازع. كان يقول: أبحث عن وطن، وكان يبحث عن نفسه. نتذكّر ما كتبه للسيّاب في موته. نتذكر تلك الجملة التي "تومض كالنسر": "تشبّث بموتك أيها المغفّل". لم يتشبّث محمد الماغوط بموته، كما طالب رفيقه بذلك. لكن الميتة نفسها انتظرته. طالب الآخرين بالتشبّث بموتهم، وتشبّث هو بالمرض والويسكي. "كنتُ أول من يبكي ويصرخ أثناء التحقيق"، قال. ولم نعتبر ذلك اعترافاً: جبناً يُحسب عليه، أو شجاعة تحسب له. كان الماغوط شاعر الرايات المنكسة، والجيوش الجالسة قرفصاء. وكان شاعر الرغبات بلا منازع، والهزائم بلا منازع. لم تهزمه القضايا الكبرى، كما هزمته فاتورة الكهرباء والهاتف. استعمل محمد الماغوط مكانس الزبّالين في تنظيف أحزانه وأشعاره، وفي ضرب أمّته على عجيزتها المضحكة. وكان الماغوط أبا الكثيرين منّا. كان أبانا. ولأنه تنصّل من أبوتنا، لم نصبح أيتامه حين مات. عقوقنا له كان أفضل طريقة للردّ على أبوته، لردّ جميله، والعرفان بفضله. ظلم الماغوط نفسه في أعمال كثيرة، صحيح. وكتابات كثيرة، وتنازلات كثيرة. الأرجح، لأن علاقة الكلمات بعضها بالبعض كعلاقة الأخ بأخته، وهما نائمان في فراش واحد، كما قال يوماً: كل حركة منهما تفسَّر. لذلك، ربما، أكثر الماغوط من "الحركة" في سرير كلماته. أكثر من الشعر الحرام، والحزن الحرام، والوطن الحرام. بذهنية البغيّ قبل المداهمة، كتب أشعاره ومسرحياته، "كلما تحرّكت ستارة أو قُرع الباب سترتُ أوراقي بيدي". لقد كتب الماغوط عن وطنه، كما كان سيكتب الجائع، لو أتيح له، عن رغيفه، وكما سيكتب المحروم عن فخذ بيضاء لامرأة ترقص على الطاولة. كتب برغبة من يريد، ومن لا يملك. رغبة بأسنان طويلة، وأظافر طويلة، وحاجبين طويلين. ولطالما اعتقدتُ أن الماغوط لا يكتب إلا والدموع تملأ جرّتَي عينيه. عاش الماغوط أيامه الأخيرة مع كؤوس الويسكي وأعقاب السجائر. عاش مع أشياء لا تحمل هوية في سحنتها، أو بطاقة شخصية في جيب قميصها. مع ذلك، لم يُنزل سبّابته التي رفعها كتلميذ في وجه وطنه. بقي الماغوط رافعاً سبّابته حتى اللحظة الأخيرة، حتى تحقيق مطلبه. لا يكون المرء حيادياً حين يرثي محمد الماغوط. أقول، لا يكون حيادياً، ولا يكون مرتاحاً. يرعبني أن يموت محمد الماغوط، ولا يتغير شيء في العالم. يرعبني أن يموت الذي أصاب وطنه بالدوار، من دون أن نشقّ ثوباً عليه. كتب الماغوط أجمل قصائده، وإصبعه على الزناد. وارتجل وطنه، على مثال ما ارتجل قصائده، قبل أن يوصي به لأول قاطع طريق. هكذا لن يغرب عن بالي قوله في لقاء تلفزيوني إنه لا يكتب الشعر إلا على ركبته: لم يكن التسكع والسفر الدائمان، وما ينطويان عليهما من معاني العجلة وسباق الزمن، هما وحدهما يجعلان شعر الماغوط غير مرتاح إلى طاولة الكتابة، أو إلى ما يشبهها من وسائل الاستقرار والطمأنينة، لكنها أخلاق الخبز: حينما تكون الركبة طاولة الرغيف وطاولة الكتابة. لم يأكل الماغوط، وأبناء جيله من الفقراء، الخبز على الطاولات. هكذا تناول الماغوط الشعر والخبز من القمة نفسها، ركبته، قمته الواطئة والعالية، والتي ليس لعلم أو راية غزوها. ركبته - قمّته: مسقط شعره. لا بدّ لمن قرّر قراءة شعر الماغوط من آخر دواوينه، "البدوي الأحمر" (دار المدى)، أن يظلمه، على مثال ما ظلم الماغوط مسرحه حين جعل من مسرحية "قيام جلوس سكوت" آخر مسرحياته. لكنا، إذ نقرأ كتابه هذا، ونعيد قراءته، فإنما ليقيننا أننا لن نعدم تلك الأنا المتسكعة، التي أبى الماغوط أن تكون ربطة العنق في شعره. أصرّ الماغوط في آخر أشعاره على سؤال أمّهات الكتب عن مصير مؤلفاته "المتواضعة"، كما سمّاها. أراد أن يعرف على أي الرفوف سترقد، وأي الأضواء ستُسخَّر لها. ولأنه تخلّى عن حلمه القديم (وطن محتلّ يحرّره، أو ضائع يعثر عليه)، أجاز لنفسه السؤال عن كَنَبَته في صالة التاريخ. هل أراد الماغوط فعلاً إنهاء تسكعه في مكان وثير؟ أسئلة لا نملك جرأة الادعاء على امتلاك أجوبتها. أسئلة لن تصبح في رسم المستقبل، أو في رسم البيع. لم يقلع الماغوط عن التدخين، بالرغم من معرفته أنه قاتل لمن يعاني ضعف تروية في القلب. لم يقلع الماغوط عن التدخين، ولم يقلع عن مرضه أيضاً، وعن قلمه. لا يشبه إصرار الماغوط على الكتابة إصرار صباح على الغناء. قطعاً لا. وقطعاً لا يشبه إصرار المنتحرين. شعر الماغوط كان صنو سعاله: مظهر من مظاهر شيخوخته، كما كان في الماضي وجهاً من وجوه شبابه. أتذكر، قبل عام ونيّف، أننا استعرنا، في رثاء ممدوح عدوان، الكلمة التي قدّمه بها محمد الماغوط. استعرنا تلك المقايضة التي عقدها الماغوط بينه وبين صديقه: سعاله، مقابل الشَعر المتساقط من رأس صديقه المصاب بالسرطان. اليوم أفتّش في تلك المقدمة - القصيدة، علّني أقع على ما ينقذ مقالتي هذه، على جملة تتنبّأ بموت يأتي، أو رحلة أبدية. على الدوام نحن نبحث، بعد رحيل كل شاعر، عن تلك الجملة، أو الجمل، التي سنلقيها في وجه القارئ، ونقول: إقرأ (تباً لمالك بن الريب). تلك الجمل التي تجعل راحلنا رائياً كبيراً، يرى موته قبل الآخرين. "وإذا خطرت لك زيارتي، يقول الماغوط مخاطباً عدوان، حيث أقيم/ فعلى الرحب والسعة/ فإذا لم أكن موجوداً/ فسعالي يقوم بالواجب وأكثر (...) لأنني قد لا أعود أبداً/ فمدينة لا يوجد فيها مريض نفسي أو عقلي حتى الآن/ لن أبقى فيها دقيقة واحدة". صحيح أني وجدتُ الذي يخوّلني الصراخ في وجه قارئي: إقرأ. وصحيح أني أستطيع أن أشفع هذه الجمل بما قاله سابقون، ولاحقون، عن أن الماغوط هو قرين الشاعر الرائي رامبو، لكن ما الفائدة، أقول، وأعفّ عن فعل ذلك، ما دام صاحب الرؤيا يجزم بأن كل فلاح عجوز يستطيع، وهو يدرّج لفافة التبغ بين يديه، أن يروي كل تاريخ الشرق في بيتين من العتابا. غالباً ما أشعر أني أمام منجم حين يقع بين يديّ كتاب للماغوط. نعم. هو منجم شعريّ من أمنيات كثيرة وخائبة: تمنى الماغوط أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة في الزقاق. وتمنى أكل النساء بالملاعق. تمنى الماغوط، وما أكثر ما تمناه. لكن هذه الأمنيات لم تأخذ استحقاقها الشعري بغير خيبتها. الخيبة مطهر الأمنية لتكون شعراً؟ العكس ليس صحيحاً بالتأكيد. كتب الماغوط خيبته حتى لم يعد يميّز قلمه من أصابعه. لكن الذي أنقذ شعره "المباشر" من نفسه هو أنه مكتوب بدموع فوسفورية. شعر فوسفوري، هو أكثر ما أستطيع الوصول إليه في وصف شعر الماغوط. وذلك ما يصدّق القول إننا أمام منجم: كلمات تلمع وتومض وتبرق. لقد خرج محمد الماغوط على آداب الشعر العربي، في كل شيء. لم "يحترمها"، وخصوصاً في تحويله الهزائم انتصارات شعرية. هزائم ظافرة، هي هزائم الماغوط. في الشعر، فقط، يغدو للهزيمة تاجها وإكليلها. كثرٌ هم الذين كتبوا عن كاف التشبيه في شعر الماغوط، وقالوا إنها السرّ. وكثرٌ قالوا الواو الثالثة. وآخرون قالوا صوره الموحلة. وغيرهم قال. لكن... لا يعطي الماغوط مفاتيح شعره لأحد، لأن الهزيمة لديه أمر شخصي، وسرّ شخصي، وامتياز شخصي. ميدالية مفاتيح شعر الماغوط بقيت معه. لذلك لا توجد كلمة في اللغة العربية غير صالحة للاستعمال لديه: "الكل مطلوب الى الخدمة".
فعلها الماغوط. نعم. فعلها: زان فردة الحذاء بيده. رمقها بطرف عينه. حرّك أصابع قدمه اليسرى المتورّمة، والنافرة من جورب عتيق.
- لبسها؟
- لا.
- قذف بها إلى النهر؟
- لا.
أهداها لأول إسكافي صادفه في الطريق.
فعلها الماغوط: مات، ولم يجد ساندريلاه .


الشعرية المتوحشة


الشعرية المتوحشة


عقل العويط


ليس من سبب يدعو شاعراً من طراز محمد الماغوط الى أن يتعمشق بالحياة ويحافظ عليها. كل الأسباب تدعوه الى العكس: أي الى استفزاز الحياة والمناداة بقتلها. ليس من سبب البتة، ومطلقاً، ينبغي له أن يحمل شاعراً كهذا، يولد عارياً ويغادر عارياً، على حماية "الحياة الكلبة" (التعبير لأنسي الحاج) من الموت، بهدف أن يحيا أكبر قدْر ممكن من الأيام، ويحظى بأكبر قدْر ممكن من هول العيش المفجع. الأحرى أن الأسباب كلها كانت قد توافرت له ليكون في الموقع الضد وليفعل العكس، وبوحشية استعراضية تضاهي وحشيتيه، الإنسانية والشعرية. هو، في كل الأحوال، لم يقصّر في ذلك، البتة، وربما وفّى قسطه الانتقامي حين نذر يومه، وكل يوم، وشعره، وكل شعر متواطئ معه، وفي آن واحد، للثأر من هذه الحياة، بالحياة نفسها. وبالكلمات.
هو منذ أعوام كثيرة، ربما منذ ولادته "الملعونة"، عام 1934، قرر أن يشنّ الحرب على هذه الحياة، وأن يصليها النيران الحامية، وأن يقذفها بالحمم والشظايا، وأن يخربط لها البوصلة لتصاب بالجنون، ولتهستر الجبال والأنهر والمنبسطات من الأراضي، والبحر والقفر. ومنذ ذلك الزمن، بل منذ أول الدهر، قرر، ولربما قبل تلك الولادة، أن يمزق للحياة الدساتير والأعراف، وأن يبصق لها على القوانين، وأن يجعلها تحت قدميه العاريتين والموحلتين، وأن يمشيها مثلما تمشي العاصفة تحت العاصفة.
لم يترك محمد الماغوط سلاحاً "معنوياً" إلاّ استخدمه في حربه تلك. كان مؤمناً بالنظرية الآتية: قاتلاً أو مقتولاً. بل بالنظرية هذه لا بسواها: قاتلاً الحياة لينقتل بها لأنه قتلته بالولادة.
بالأسنان حارب الحياة، وبعينيه. وأكثر أكثر: بجسده العاري، وبقلبه العاري، وبروحه العارية. بل أكثر أكثر وبدون هوادة: بالكلمات العارية. بالنثر الذي يجعل النثر شبيهاً لا بذهب السهول في الصيف لكن باللعنة. وبالشعر الذي يهزأ بالشعر ويعطيه موهبة أن يصير شعراً. وبدون انتباه. بفطرة الزهرة التي تنبت في البراري، وتعيش. بقوة الموت الذي فيها. وبسلطة الغريزة الحياتية. وبكبرياء الجهل. وبالأمية التي تجعل الحياة تحيا وحدها، وبقوة نفسها. ولا تحتاج الى حماية.
تماماً، على طريقة الحب الذي يولد بدون جهد. وبدون ملاحقة وتعقّب ومطاردة. أي فقط بـ"الصدفة الموضوعية"... السوريالية. كما التقاء الصدمات الهائلة التي تصنع لغةً في العيون، أو أثلاماً باكية في الصحراء، صحراء الوجدان، وفي كل صحراء. أو تلك التي تصنع شيئاً يشبه الكهرباء والنار والعاصفة. او التي توقف القلب عن الخفق. أو تلك التي تجعله، يا للهول!، تجعله يعود عودته المفاجئة من موت لم يكن مقدَّراً له فيه أن يموت.
محمد الماغوط هذا، شاعر وُلد شاعراً وعاش شاعراً ومات شاعراً. هو شاعر الوديعة. وهذا يكفي.
لم يقرأ. حتى ليبدو لي أنه لم يكن في حاجة الى أن يقرأ ليعرف. فقد قُرئ له قبل أن يولد، وحين ولد، ولد قارئاً وعارفاً ما يعرف، وشاعراً ما يشعر به، ورائياً ما يراه، وقد كتب ما أعطي إياه فقط. وعندما طال به المقام والمقال، وقع في "نثر" النثر الذي كان كتبه. وهنا، بالذات، وتحديداً، يحمل هذا الشعر أسباب حياته، متوأمةً مع أسباب الأخطار المحدقة فيه. وهو، في عتمة اللغة وتجاريبها، قد لا يستطيع أن يظل يقاوم طويلاً أهوال التحديات الليلية والباطنية، التي تمثل أمام اللغة بعد استتباب قمر "القول الأول".
لم يذهب محمد الماغوط الى العمل ولا الى الأشغال الأدبية الشاقة ليصنع لنفسه أدباً ويبني لغة ويرفع مقاماً شعرياً. أنصنع أدبه معه كأنه مصنوع سلفاً، وانبنت لغته به كأنها مبنية سلفاً، وارتفع مقامه الشعري من تلقائه كأن الشاعر يرتفع من تلقاء الغريزة الفطرية ليس إلاّ. كاجتماع هذا الجسد بهذه الحياة، وكاجتماع هاتين العينين بهذه النظرات، وكاجتماع هذه اللغة بهذه الكلمات.
هذا شاعر ولد شعره معه وعاش معه، وأكاد أتجرأ فأقول إنه سيعيش وحده كنيزك أفلت من الجاذبية، وإنه لن يستطيع أن ينجب، لأن الإرث المتوارث لن يستطيع الأصل، ولن يطوّره، أو يتخطاه. فمثل هذا الشعر لا يتطور، لأنه يولد بهذه الطريقة، ولا يذهب بعد الآن الى قعر لأنه في القعر. فليس فيه بعد الآن من البواطن غير المكتشفة، لأنه خرج من المنجم حاملاً معه الذهب والغبار، والكثير الكثير من الأسمال والوحول. وهذا ليس مذمة. إنه موهبة. ويقع في باب الوصف والتقريظ، وحسب.
وعندما تكون أمام شاعر، كهذا الشاعر، وحيال أمية كهذه الأمية، من الجهل أن يطالب المرء شاعراً أكان أم ناقداً أم قارئاً بغيرهما. بل من العته مناهضة هذا النوع من الشعر والشعراء لأن في النوع شيئاً يشبه الصدفة النادرة. او الكنز.
وفي كل الأحوال، هو، أي محمد الماغوط، ليس صالحاً للعلم والتعلم، لأنه صالح فحسب لهذه الأمية الشاعرة. ولو تعلّم، بمعنى أنه لو اشتغل شعرَه، بالثقافة، وصرف عليه ما يصرفه الشعراء على أشعارهم من غرائز وحدوس لتصير قصائد، لكان فقد سرّ هذه الموهبة الكبيرة، المنذورة للفطرة الحياتية واليومية فحسب. والشاعر حين يكون هكذا فإن الشعر لا يسمح له بالتعلم لأنه يُعطى له مرةً واحدة. ينزل فيه هذا الشعر نزول اللعنة في الضحية، أو نزول الربيع في الزهرة. وهذا، أيضاً، يشبه نزول اللون الأزرق في العينين. وكله ليس مدعاة للأسى أو للتألم إنما للدهشة المزهوة أو المنصعقة. حتى ليجب على المرء أن يقول حيال مثل هذه الصدفة: يا للقدر الجميل. أو يا للهدية التي تشبه الجوائز الكبرى!
وأمام موهبة مفطورة على الشعر كهذه، يكاد يقول المرء، أحياناً، ليت البعض لا يتعلمون تهذيب الشعر لأنهم يقتلون موهبته. وليته، الشعر، لا يسمح لهم بذلك. وليتهم يكونون أميين، على طريقة الأمية الموهوبة، وإن بلغات وأساليب مختلفة، أو مناقضة، أو ضدية.
كنت أتحدث قبل قليل عن قتل الحياة، أو حتى عن الحياة القاتلة. وفي الحالين، عن محمد الماغوط الذي قتلته الحياة حين أنجبته، فصرعها بشعره، وبحياته الشاعرة، وهذه هي أيضاً فجيعته. نعلم أن هذا المتوحش الغاباتي إنما هو صالحٌ للغابات وللعيش فيها. أقول الغابات، وأعني الأرض البدائية، وكل أرض بدائية. فهناك تحيا الفطرة الكاملة، وهناك ترسل شموسها وأقمارها لتعيث الفساد الجميل في تلك الأرض. وهو، أي البدائي، يكون "مصنوعاً"، بل منذوراً للعيش فيها. وعندما يقيّض له - أو يُجبر على ذلك - أن يخرج من تلك الأرض البدائية، الغاباتية، يكون كمن يُزاح قلبه من قفصه الصدري فيعيش بلا قلب أو بلا صدر. هذا تماماً، ما أحاول ان أقوله عن شعرية الماغوط وعن حياته الشعرية، وهذا ما أحاول أن أتوصل الى استنتاجاته اللاحقة. هو خرج من الأرض البدائية، حاملاً جسمه البدائي، وقلبه البدائي، وروحه البدائية، ولغته البدائية، ومفاهيم الغابة حصراً، ليعيش في المدن ولغات المدن وأرواحها وأجسامها وقلوبها، وفي مفاهيمها المضادة. هناك، إذاً، ستقع الواقعة التي ما كان لها أن تقع لو أن هذا العصفور المتوحش بقي متوحشاً في غابة متوحشة. وفي الخروج من الفردوس، كيف يؤتى للفردوسي أن يحيا في الجهنمي؟ وكيف يستطيع، وهو الخارج من هوائه الطبيعي، أن يتنفس هواء اصطناعياً؟ وكيف يستطيع، وهو المصنَّع في الأصل ليعيش في الغابة المتوحشة، الحنونة، المخلصة، الطيبة، الرؤومة، الغنية، اللذيذة، والكاملة، أن يُحرَم العيش في الرحم ويُنقَل للعيش في الغابة المضادة، الغابة المدجنة، القاسية، الخائنة، الكاذبة، الفقيرة، النتنة والناقصة؟
كيف يستطيع امرؤ كهذا، وهو منتزَعٌ انتزاعاً من مكان إقامته، أن "يتعايش" مع شعوب وبلدان هم غرباؤه ونقائضه؟ وكيف تستطيع الغابة الأولى أن تحيا في الغابة الثانية، التي هي في الواقع الفعلي للأمور، متوحشة لكنها تزعم "مدينيتها المدجنة"؟! وكيف يستطيع هذا الشخص الشاعر أن يوائم بين الأصل الذي كان عليه، وحيث كان، وبين هذا اللاحق الذي صار اليه، ويعيش فيه؟
في قلب هذه المعمعة الهلاكية، في خضمّ هذا النزوح القدري، تحيا الواقعة الشعرية الماغوطية. وعلى وقع هذه السنابك، ذهب الشاعر بعيداً في التدمير الذاتي، وفي التدمير الشعري، الى حدّ أن الحياة نفسها، الحياة المدينية خصوصاً، صارت تناديه وتستغيث به كي يفرج عنها ويحرّر لحمها من براثنه، بعدما أثخنه تنكيلاً وجروحاً.
وهذه أيضاً كانت حال الشعر معه.
كالوحش، أنشب مخالبه فيها، هذه الحياة، وكالإنسان البدائي. وإذا كنا نراها قوية، فليس ذلك سوى على سبيل وهم الرؤية أو غبش القلب والعقل. لا، لم تكن الحياة قوية لتصرعه. كان هو متوحشاً فالتهمها. وكان هذا المتوحش هو الأقوى. لأنه كان ضحية. وهل من قوة أشرس وأوحش وأدهى من قوة الضحية التي تفترس نفسها وحياتها وكلماتها؟
توافرت لمحمد الماغوط الأسباب الجوهرية والأساسية كلها ليكون ما كأنه، وليكون: لعنة الولادة تحت سماء ملعونة وزرقاء، لعنة العيش، ولعنة الشعر. ثم الأسباب الثانوية الأخرى: الفقر، الجوع، التشرد، الوطن، الأهل، المدن، الديكتاتورية، السجن، المخابرات، التخلف، الهزيمة، اليأس. فضلاً عن "الديكتاتوريات" المضادة: الحلم، الخيال، الثورة، الرفض، الشتيمة، السخرية، الحب، الجنس، الكحول، التدخين. ونهم العيش. والعيش النهم. وبكامل الجسد البدائي. وبكامل وجدانه. وبروحه. وكل الشعارات "الموضوعاتية" التي يمكن رفعها في مثل هذه المناسبة.
هل تنحاز الى هذا النوع من الشعر، يسألني سائل؟ ثم يسأل: ألا تخاف عليه، من نفسه، ومن مريديه؟ ومن مشقات استمراره في الحاضر الموصل الى الغد ومفاجآته؟
بل أحبّ هذا الشعر حباً عظيماً، وقد قرأته مراراً. وسأقرأه أيضاً. وأرى فيه ما لا تستطيع تجارب أخرى أن تجاريه في ميدانه، مهما كثرت ثقافاتها وعلومها وخبراتها. فهذا شعرٌ يستطيع أن "يصادر" الوجدان الشخصي والجماعي، ويحرره في الكلمات. وهو شعر - وديعة. بل نيزك أفلت ضؤوه من سرّ الجاذبية.
فماذا نريد أكثر؟! .


محمد الماغوط الشعر ليس مهنتي


محمد الماغوط الشعر ليس مهنتي


النهار الثقافي
(لبنان)

محمد الماعوظفي آخر الزمان الأدبي، عندما يهجم الليل ويذهب الجميع الى مناماتهم، ويغادر الشعراء الى كتبهم ورفوفهم، قلائل من هؤلاء الشعراء سيظلون أحياء يُرزقون. منهم الذين رأوا ما لم يُر من قبل، ومنهم الذين نزفت أحلامهم ما لم يُنزف من قبل، ومنهم الذين كتبوا ما لم يُكتَب من قبل. هؤلاء، أكثر من غيرهم، سيظل شعرهم حياً لأنهم وسطاء المعرفة الوجدانية النبيهة، وهي لدينا، نحن الأدباء، أرفع أنواع المعرفة وأبعدها منالاً.
محمد الماغوط الذي مات منذ أيام (1934 - 2006)، سيكون واحداً من هؤلاء. لا لأنه فيلسوف عبقري أو مفكر عالم وعظيم، إنما لأنه شاعر.
تنطبق صفة الشاعر على محمد الماغوط كأنه يرتديها. بل كأنها ترتديه. وخصوصاً لأنه كان فريداً في سلطته على استدعاء الشعر الشعر حتى في النثر العادي واليومي والمباشر من لغة الحياة والأشياء الماثلة أمام العيش.
خرج الشعر من أحشائه الممعوسة بطفولات الألم والوجع والفقر والتسكع والديكتاتوريات السوداء، فظاً وليّناً، مدهشاً وسهلاً وممتنعاً، كما يخرج ضوء من حزن في قصيدة. من صحراء حياته أطلعَ الأخضر اليانع، كمن يُطلِع ماءً سلسبيلاً من قبر. يكفيه أنه كتب ديوانه الأول، "حزن في ضوء القمر"، الذي كضربة نرد. ويكفيه أنه اتبعه بديوانيه اللاحقين، "غرفة بملايين الجدران"، و"الفرح ليس مهنتي"، لكي ينتمي بقوة الى تلك الحزمة الباهرة من الشعراء الذين دوّخوا اللغة الشعرية العربية، وناموا معها فأنجبت منهم، ونقلوها من حيث لا يصلح يباسها لإشعال نار الى حيث يجدر بها أن تشعل الحياة برمتها.
أعماله الأخرى، مسرحاً وقصائد ومقالات، تتفيأ كلها تلك السماء، سماءه الشعرية الأولى، وتنسج على منوالها. وإذا أجزنا لأنفسنا أن نحرّف عنوان ديوانه، "الفرح ليس مهنتي"، لقلنا إن مهنة هذا البدوي الخارج من "العدم"، هي غريزته شاعراً. "الشعر ليس مهنتي"، سنجعل محمد الماغوط يقول ما نقوله عنه، ونضيف توضيحاً: "الشعر ليس مهنتي لكنْ غريزتي".
هذا الشاعر الذي قرأنا قصائده، ونحن فتية، وفي ما بعد، مثلما يلتهم الجياع أرغفة الخبز، بل مثلما يفوز المرء بالمرأة التي يشتهيها سواه، كل الذين سواه، نقدّم في هذا العدد، لقرائه، القدامى والجدد، ملفاً يتضمن قراءات لأدبه ومختارات من شعره، كي إذا قرئت، يكذّبنا القراء فيقولون: بل كان الشعر مهنته. وهي مهنة لا تنتهي بالموت!

"الملحق"