Saturday, September 26, 2009

محمد الماغوط : ما يبقى في ذاكرتي هو عويل الريح ووحشة الريف

جريدة (الوطن)


(السعودية)

بدأ محمد الماغوط كتابة الشعر في الستينيات حيث أصدر في بيروت مجموعته الشعرية الأولى (حزن في ضوء القمر)، وفي عام 1964 جاءت مجموعته الثانية التي حملت عنوان (غرفة بملايين الجدران)، أما ديوانه الثالث (الفرح ليس مهنتي) فقد نشر عام 1970.‏ ومن مجموعاته الثلاثة تلك تم اختيار 29 قصيدة ترجمت الى اللغة النرويجية في التسعينيات وصدرت بكتاب حمل أيضا عنوان (الفرح ليس مهنتي) عن دار بانتاكرويل للنشر في العاصمة أوسلو بترجمة وليد الكبيسي ، وقدمها الناشر الكساندر الكرين بقوله: حدث ثقافي متميز تفخر الدار بتقديمه للمشهد الشعري النرويجي ، فالماغوط شاعر متميز ومدرسة تجديدية تحتضن إنسانية الانسان العربي وتعبر بواسطة الشعر عن صراع امة أهلكها الظلم الغربي وغياب العدل والماغوط شاعر في ذاته يستحق شعره ان يترجم بهذا المستوى الفاخر فهو يفرض نفسه ويسحر بصوره الجميلة.‏


وعلى الصعيد المسرحي كتب الماغوط العديد من المسرحيات الهامة: العصفور الأحدب - المهرج والمسرحيات التي قام بإخراجها وتأدية الدور الأساسي فيها الفنان دريد لحام وذلك في فترة السبعينيات والثمانينيات: ضيعة تشرين - غربة - كأسك ياوطن - شقائق النعمان وفي أوائل التسعينيات حصلت قطيعة بينه وبين دريد لحام.‏


وبعد غياب طويل عاد الى المسرح بخارج السرب التي أخرجها الفنان جهاد سعد.


في عام 1987اصدر كتابه (سأخون وطني.. هذيان في الرعب والحرية) عن دار الريس في لندن


على هامش حفل التكريم الذي أقيم للشاعر الكبير في مكتبة الأسد بدمشق التقيناه وكان هذا الحوار عن الذكريات والتأثيرات.. وعن الحزن العميق.. والألم الكبير.. لم نستطع ان نطرح كل ما في جعبتنا من أسئلة، ولكن ما تمكنا من الحصول عليه من إجابات جدير بأن يقرأ .

* يرى البعض في شعر محمد الماغوط تأثرا كبيرا بالتيارات العالمية المعاصرة ، وتحديدا المدرسة الرمزية الرومانسية التي كان يمثلها بودلير . ما قولك ؟

لا أستطيع وليس من حقي الاعتراف بأنني تأثرت بودلير أو أي شاعر أجنبي آخر ، ربما كنت في بداياتي قد أعجبت ببعض القصائد المترجمة أو ببعض المناهج الأدبية الغربية ولكن لم تكن هذه الأسماء تعني لي شيئا ، فضلا عن إنني كنت وما أزال لا أتقن أية لغة أجنبية ، والترجمات العربية كانت نادرة في ذلك الوقت ، وحتى لو كانت متوافرة فلم أكن املك النقود الكافية لشراء الكتب والإطلاع عليها ، كنت اقرأ واطلع بالصدفة ، وموقفي من هذا الشعر أو هذه النماذج كان كمن يكون في سوق المدينة ويرجع في ذاكرته الكثير من الأشياء التي رآها وهي غريبة عليه ، أصوات السيارات وأصوات الباعة .. الحوانيت، البضائع المنتشرة، ولكن عندما كنت أعود الى بيتي الريفي المتواضع لم يكن أمامي أو في ذاكرتي على الإطلاق سوى عويل الريح ووحشة الريف الممتد أمام ناظري، فلا ادري بالتالي من أين جاء هذا التأثر ببودلير أو غيره.

* في صوت الماغوط فرادة وخصوصية لها وقعها المتميز في حياتنا الثقافية ، فمن أين أتت هذه الفرادة برأيك ؟

بصراحة أنا اعجز عن تفسير أو تبرير هذه الآراء ، ولا أستطيع ان ارفض رأي هؤلاء النقاد أو ان أوافقه ولكني اعتقد أنني لست أكثرهم موهبة أو شاعرية ، كما يقول البعض ، ولكن قد أكون أكثرهم صدقا وشجاعة في قول ما أقول ، لقد كنت طوال حياتي اكتب لنفسي ولا اكتب لجمهور أو لقارئ أو لجريدة أو لناقد أو طلبا للشهرة ، وحتى الآن الكتابة بالنسبة لي عزاء شخصي وتعويض عن كل ما افتقده آبائي وأجدادي ، وما افتقدته أمتي على مر العصور .


وناحية أخرى قد لا يعرفها الكثيرون عني وهي خجلي وارتباكي أمام التحية والمصافحة، فكيف أمام النقاد والكتاب، هذا الشعور بالحيطة والخجل والارتباك هو صفة الشاعر المسحوق غير المعترف به، وفي البدايات جعلني هذا اتخذ نمطا معينا وسلوكا وحشيا من العالم، وربما هذا أو ذاك هو ما خلص اليه النقاد بالتفرد عند محمد الماغوط.

* هذا سيشدنا الى زاوية اخرى في شعرك بدأت معها والتصقت بك وهي الحزن ، فأول ديوان لك كان (الحزن في ضوء القمر) حتى انك لقبت بشاعر الذكريات الحزينة ، فمن أين يستمد هذا الحزن رصيده ؟

في الحقيقة لا اعرف كيف تجذر الحزن في شعري ، وكل ما اذكره أنني منذ كتبت أول جملة كان كل من يطلع عليها أو يراها يرى فيها بذور حزن عميق ، ولم أكن في الواقع اكتب من هذا المنطلق فالأدب الساخر لا ينبغي ان يكون حزينا أو جادا ، يجب ان يكون هازلا ، المهم أنني لا اعرف كما لا يمكن لأي إنسان ان يعرف متى بدأ الحزن عند البشرية ، ولكني أدرك تماما ان الحزن يولد مع الانسان العربي ، ويظلم علقا في عنقه ، كما يعلق القفص في عنق العصفور ، وعليه ان يغرد ويحلم ويطير ويقفز ، وهذا القفص في عنقه دائما ، بعضهم يملؤه زهورا .. وبعضهم الآخر يملؤه دموعا، وأنا من الفرع الذي يملأ هذا القفص بدموعه، ولا يمكن لأي بهرجة خارجية أو أي تيار أو أي تصرفات ثانوية ان تشغلني عن ان في عنقي قفصا. من صنعه ؟! أنا لم اصنعه.. صنعه التاريخ.. صنعه الطغاة.. صنعه الفقر.

* ألا يعتقد الشاعر الماغوط بضرورة إضافة رؤية مستقبلية فرحة نوعا ما الى هذا الحزن.. ؟

لا اعتقد ان حزني حزن أعمى ، بل ان حزني حزن مبصر ، في حين ان رؤيا الآخرين هي رؤى العميان ، الرؤى الخضراء ، هي الرؤى العمياء ، والرؤية السوداء التي اتهم بها هي رؤى مبصرة ، بدليل ان ما كتبته في الخمسينيات من القرن الماضي يقرأ الآن وكأنه مكتوب في هذه اللحظة ، واذكر على سبيل المثال أنني كنت في خصام مع الشاعر الراحل نزار قباني لأسباب أدبية بالطبع ، واستمر هذا الخصام لمدة عشر سنوات ، جاء الى بعدها وتصافحنا وتعاتبنا ، وقال لي أنت أصدقنا واصدق شعرا ء جيلنا ، حلمي الآن ان اكتب بالرؤى وبالنفس البريء البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينيات ، فان حزنك وتفاؤلك اصيليان ، وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعين ، وقرأ لي قصائد لا أظنه نشرها تنضح دموعا وبكاء .


إذا كان شعري حزينا فربما كان طابع التاريخ الذي نعيشه هو الحزن، لا احد يولد حزينا أو متفائلا، أو كريما، أو بخيلا، كل هذه الصفات تتكون في بيئة الإنسان، وقد رأى البعض في الرحلة التي بدأنا الكتابة بها تبشر بالخير، في حين أني رأيت إنها تبشر بالحزن، وبالتشاؤم وبالنكسات وبالهزائم .

* ما الذي يثير الماغوط حتى يكتب .. الحزن الخاص.. أم الحزن العام، أم تأثيرات أخرى ؟

الكتابة أو الشعر كما أتصورهما أو كما أمارسهما ليستا ردود أفعال آنية وليستا رغبات أو أمنيات من خلال النافذة أو من وراء المكتب ، الشعر بالنسبة لي هو حاجة داخلية مثل التنفس ، وقد لا تثيرني حرب ضروس ولا تحرك بي ساكنا أو تدفعني لكتابة كلمة ، وبالمقابل فان سماع أغنية من النافذة ، أو سعال إنسان ما في آخر الليل ، قد يفجر بي ما لم تفجره الحروب الدامية ، وقد أصبح من المؤكد ان لكل إنسان منا مخزون من الأمراض التي لم تكتشف في الطفولة وإنما اكتشفت وظهرت أعراضها فيما بعد مشكلتي إنني كنت اشعر دائما بهذه الأعراض ، وافضحها بينما كان الآخرون يرون الظاهر ، البسمة الصفراء ، والثياب الزاهية ، كنت أرى أعمق وابعد من هذا الديكور الخارجي ، فالحزن ليس صفة ، الحزن هو حياتنا ، وأتحدى ان يتجرأ احد الآن ويقول إننا سعداء كتابا كنا أم قراء .. ما يثيرني هو الألم.. الم الانسان، وهموم الإنسانية جمعاء .

* يرى بعض النقاد ان هناك تطورا ملحوظا في كتاباتك السياسية أو المسرحية أو النقدية في حين لم يلاحظ هذا التطور في شعرك ؟!

للإجابة عن هذا السؤال أريد ان أشبه الشاعر بمذيع نشرة الأخبار ، فالشعر هو موجز الأخبار في حين ان المسرح والصحافة هي النشرة الاختبارية بالتفصيل ، فالشعر لا يستوعب التفاصيل الدقيقة الجانبية ، وأنا كشاعر أرى في الغابة الورقة الصفراء ، ولا أرى كل الأشجار الخضراء... لأنني اعلم جيدا طالما توجد ورقة صفراء سوف يأتي يوم تصفر فيه جميع الأوراق الخضر ، فالشعر عندما يتطرق الى التفاصيل يصبح شيئا آخر ، إما المسرح فهو يهتم بالغابة والأشجار ، وأسباب اصفرار الأوراق والتسميد وغيرها.

* تنطلق في كتاباتك النقدية من الجزئيات دون الالتفاف الى الوضع العام ؟

يقول المثل على قدر بساطي الشعري أمد قدمي ، وأنا ليس عندي طروحات أو تصورات مشابهة للتصورات العامة والمعروفة للانطلاق من المحلية الى العالمية ، ما افهمه انه ما من إنسان على وجه الكرة الأرضية بمعزل عن أي إنسان أخر ولكني أؤمن تماما ان لكل شعب ولكل وطن ولكل جيل خصائص مميزة ، إما بالنسبة للجزئيات والأشياء الكبيرة ، أقول بصراحة إنني ضد تناول الأدب للقضايا الكبيرة ، فغالبا ما تتق زم هذه القضايا عندما نتناولها على المسرح أو نقرأها ، أنا انطلق من هذه الجزئيات الصغيرة ، من الحياة اليومية البسيطة المهملة المداسة بالأقدام ، لأصل من خلالها الى القضايا والأزمات الكبرى ، واعتقد ان اختصارنا وإهمالنا الأدبي والثقافي للجزئيات الصغيرة هو الذي افقدنا القضايا الكبيرة .

* الذي يقرأ شعرك يلاحظ عدم وجود تزويق لفظي وعدم الوقوع بالسردية التي وقع فيها بعض شعراء النثر أو شعراء التفعيلة ؟

أنا كاتب اعشق اللغة العربية ومهووس بها و وكما يوجد أناس لديهم وسواس من النظافة أو البرد أو من الحر ، فانا موسوس أيضا ، ووسواسي هو إتقان التعبير ، الشعر والفن والبطولة والوطنية كل هذه القيم هي تعبير عن شيء ما فكلما كان هذا التعبير جديدا أو مبتكرا كلما كانت الكلمة الشعرية أكثر وضوحا وأكثر خلودا ، فالتعبير حالة عجيبة ، وحتى البطل إذا لم يعرف كيف يعبر عن بطولته فقد يتهم بأنه جبانا وانه يرتكب حماقات الجبان ، وقد يكون الانسان كريما جدا ولكن فشله بالتعبير عن كرمه قد يؤدي به الى ما هو أسوأ من البخل ، فالتعامل مع الكلمة هو جوهر الإبداع الشعري وهناك قول لسعيد تقي الدين ينطبق على الشاعر وعلى غيره يقول : يأتيك إنسان فيروي لك قصة صغيرة حدثت معه فعلا فيجعلك تنام ، ويأتي إنسان آخر ويروي لك القصة نفسها بحذافيرها فيجعلك متيقظا ومتحفزا ومستعدا لسماعها أكثر من مرة وهذا هو جوهر الأدب .

* يرى البعض ان تأثير القصيدة الشعرية قد ولى وان الشعر قد أخلى مواقعه للأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية .ما قول الشاعر الماغوط ؟

لا اعتقد ان هذا العصر هو عصر هزيمة الشعر ، فالشعر لا ينتهي إلا إذا انتهى الحزن في العالم ، وانتهى التوق الى الحرية ، وانتهت الطفولة وبهجة الولادة... عندها فقط يمكن ان نقول ان عصر الشعر قد انتهى .

جريدة الوطن - السعودية

الماغوط ملك الحزن والسخرية

تهامة الجندي


(دمشق)

«محمد الماغوط ملك الحزن والسخرية» هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور عدنان حافظ الجابر مؤخرا في المركز الثقافي العربي بدمشق، والمحاضر فلسطيني الأصل من مواليد الخليل عام 1952، قضى سنوات طويلة في سجون العدو الإسرائيلي قبل خروجه وانتقاله إلى بلغاريا حيث حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة صوفيا أوائل التسعينات، عمل في عدد من الصحف وله كتابان «ملحمة القيد والحرية» و«سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية» وفي محاضرته هذه تناول تعبيرات الحزن والسخرية في نصوص الماغوط.


انطلق الدكتور عدنان من مقولة الكاتب تينس وليمز: أرني شخصا لم يعرف الحزن، وأنا أبرهن أنه ضحل وسطحي للتدليل على مدى الدفء الإنساني والحساسية العالية التي تتمتع بها نصوص الماغوط التي تفيض بأحزانها كقوله مثلا :

بدون النظر

إلى ساعة الحائط

أو مفكرة الجيب

أعرف موعد صراخي،

وذكر أن إحساس الماغوط المكثف بالحزن علمه السخرية وخلق لديه مناخات تراجيكوميدية استطاعت أن تمزج الدموع بالابتسام وهذه السمة تميز غالبية نتاجه الإبداعي الذي طاول كل الأجناس الأدبية، فمن يقف أمام الماغوط يقف أمام سخرية فجائعية بعد ذلك تناول المحاضر سمات أخرى متجزرة في نصوص الماغوط هي : التشرد، الغربة، الذعر والعزلة وإن كان قد غير الأخيرة من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض.


وأشار في معرض حديثه عن لغة الماغوط بأنها لغة حادة وفجة لا تبحث عن مسوغات لها، وكأن الكلام أصبح وسيلته الوحيدة لمواجهة هذا العالم كقوله في كتابه الأخير: أيها السوط المجرم، ماذا فعلت بأمتي.


واختتم المحاضر محاضرته بالتأكيد على أن هذا الشاعر الكبير الذي أحبه وآمن بشعره الكثيرون لم يأخذ حقه من النقد والاهتمام وكأن مقولته في حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ «ما من موهبة تمر بلا عقاب» تنطبق عليه أولا، وأشار إلى أنه عقاب التخلف الذي ينتج القمع والإهمال.

المصدر: البيان الثقافي الأحد


15 يوليو 2001 -العدد79