شخّوا على قبري
محمد علي الأتاسي
مع ذلك، قررتُ المحاولة، فأتيت إليه من بيروت برفقة صديقتي، زوجتي لاحقاً، وتواعدنا في مقهى فندق "الشام" في صباح أحد الأيام الباردة. وما كدنا نجلس معه حتى كان واضحاً وصارماً وجازماً في رفضه إجراء المقابلة. قبلنا مكرهين برغبته وجلسنا مع ذلك الى طاولته نتقاسم قهوة الحياة والحزن والحب والفرح. كان لديه شوق جارف لبيروت ومقاهيها وأرصفتها وللأصدقاء الذين تركهم فيها. وبدلاً من أن نسأله نحن، راح هو يسألنا عن شارعي الحمرا وبلس، عن أطلال النغرسكو والهورس شو، عن الصحف والمجلات، عن أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. كان يتحدث بقنوط فاجع ويردد أن فجره كان في بيروت وغروبه في دمشق، قبل أن يسرّ أن بيروت لم تنتزع الشام من قلبه.
أمام هذا الحنين المثقل بالأحزان والبعاد، لم أجد بداً من أن أقترح عليه بكل جدّية وإصرار أن آخذه حالاً الى بيروت: السيارة جاهزة والطريق لن تستغرق منا أكثر من ساعتين وسنكون هناك في الساعة الحادية عشرة، وما علينا بعدها سوى أن نكمل قهوتنا في احد مقاهي الحمرا ثم نمشي قليلا في اتجاه مكاتب "النهار" لرؤية صديقك أنسي الحاج، وبعدها تذهب للغداء مع شوقي أبي شقرا، وفي المساء سنكون حتماً في الشام. ارتبك الماغوط بشدة وأحمرن وجنتاه كطفل كبير وأشاح عينيه عن الإصرار البادي على ملامحي، وراح يردد متهرباً أنه يحن كثيراً الى بيروت الخمسينات وأن بيروت الحالية ليست بيروت التي يعرفها وأن لا طاقة له على رؤية صور المعممين في كل مكان. قلت له إن شارع الحمرا الذي طالما اعتبره أجمل من الشانزليزيه، لم يعد فيه صور للمعممين على أعمدته وإنه بدأ يستعيد شيئاً من رونقه. أجابني ساخراً أن "شارع الحمرا صار مثل شارع الشانزليزيه كله عرب!".
وقفت حائراً أمام عناد هذا الطفل الكبير وإصراره أن يعيش متوحداً في ذكرياته، وكان لا بد أن أحترم رغبته في مداواة وحدته وجروحه بالشكل الذي يرتئيه. بعد ما انتهى طقس القهوة الصباحية دعانا الماغوط لإكمال الدردشة في بيته. في الطريق استوقفنا لشراء زجاجة ويسكي حملها بفرح قائلاً: "زجاجة الويسكي حبيبتي. الويسكي كالشاعر لا هوية له ولا وطن". وصلنا إلى المنزل في العاشرة والنصف صباحاً. ارتدى الماغوط بيجامته وأدار المسجلة على صوت فيروز وتمدد على الأريكة بعدما وضع على الطاولة كأساً من "الجين تونيك" وطقم أسنانه. وراح يشكو من خيانة جسده له، في وقت لا يزال عقله صافيا، وكيف أن يده التي يكتب بها القصائد، قد يمر شهران من دون أن يتنبه إلى استطالة أظافرها. نهار الماغوط وليله كان يمضيهما ممدداً على هذه الأريكة في غرفة الجلوس، ورغم حبه لليل كان يصاب بالنعاس بدءاً من ا الخامسة مساء فيصرف بقية الليل بين النوم واليقظة. حدثنا الماغوط عن حلم كان يراوده كثيراً في الآونة الأخيرة: "أحلم أني دائماً بعيد عن مكان إقامتي. لكني لا أعرف ما هو مكان إقامتي، بيروت أم الشام. أرى أحياء وأرى نفسي بعيداً عن بيتي وضائعأً، أحاول أن أصل إليه ولا أستطيع. بعيد. ضواح ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائماً حفيان".
كان الماغوط في ذلك اليوم منفرج الأسارير وكنت أنتهز الفرصة بين الفينة والأخرى للذهاب مسرعاً إلى المرحاض لتسجيل بعض الفقرات التي أعجبتني والتي كان لتوه قد نطق بها. فهو ما كان ليرضى ولا ليشعر أنه مرتاح إذا رحت أسجل الملاحظات على مرأى منه، لكنه كان مع ذلك متواطئاً في اللعبة ولم يبد استغرابه من كثرة ذهابي لقضاء الحاجة. حتى أني أمضيت الجلسة معه متنقلاً بين غرفة الجلوس والمرحاض!
كان ذلك الزمن زمن "ربيع دمشق" وبيانات المثقفين والكلام العلني والمنتديات السياسية، لكن الماغوط كان يعيش زمناً آخر، حيث الرعب والسجون والكتابة بالتورية. ورغم كره الماغوط الشديد للسجون وتعاطفه الصادق مع السجناء السياسيين وخصوصاً المثقفين، إلا أنه كان من الاستحالة انتزاع موقف منه، واضح وصريح، لما يجري في سوريا. كان يردد الآتي: "أنا لم أوقّع في عمري ولن أوقّع أي بيان أو عريضة. عندي رأي، أكتبه باسمي الصريح".
ولكن ماذا لو كان هذا الرأي ليس صريحاً بالشكل الكافي؟ يجيبك الماغوط محتجاً: "مستحيل أن أكتب زاوية دون ذكر الحرية أو السجون. أما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء، فلأنه ممنوع أن تذكر. يجب أن تعمم، هذه خبرة. أنا أحياناً لا أجرؤ على ذكر اسم الشام". ومع ذلك فالماغوط كان يتهكم على الزمن العربي الراهن ويقول بسخرية لاذعة: "أين طغاة ذلك الزمن وأين ستالين من طغاة اليوم وبهدلتهم".
في رحلة الذهاب والإياب من المرحاض إلى غرفة الجلوس وبالعكس، قادنا الحديث إلى الشعر وقصيدة النثر وعاد الماغوط ليردد طموحه في إلغاء المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عنده نصوص. في حين كان همي أنا إلغاء المسافة بين المرحاض وغرفة الجلوس علني أستطيع أن أسجل كمية أكبر من الحديث. عندما رحت أسأله في بنية قصيدة النثر التي كتبها وفي موسيقاها الداخلية تبرم من السؤال وأجابني جازماً: "علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته وهما نائمان في فراش واحد. أي حركة منه أو منها يمكن أن تفسَّر". وعندما طلبت منه أن يشرح أكثر أجاب: "علاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، وفي القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة من هذا النوع. وهذه هي الموسيقى". طبعاً لم أفهم ما يقصده بالضبط من هذا التشبيه، ولا أعتقد أنه هو الآخر فهم.
حديث محمد الماغوط عن زوجته الشاعرة سنية الصالح التي قضت مبكراً بمرض عضال، فيه الكثير من الحب والألم والندم والشوق. هي في نظره وحدها السماء وكل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفئ. وإذا كان الماغوط يشعر بتأنيب الضمير كونه أذاها واسمه طغى عليها، فإنه يروي بحزن كيف جلس يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الأبر وهي على فراش الموت فقالت له عبارة لن ينساها: أنت أنبل إنسان في العالم. وإذا كان الماغوط قال لي إن مكان الدفن وشكليات الموت لا تعني شيئاً له، فإنه مع ذلك كتب على قبر زوجته في مقبرة الست زينب قرب دمشق، وذلك من أجل أن يميزه عن بقية القبور، كما يقول: "هنا ترقد الشاعرة سنية الصالح آخر طفلة في العالم". وعندما سألته في ختام تلك الجلسة كيف سنميز قبره؟ ضحك بخبث العارف واستوقفني قبل أن أعود مجدداً إلى الحمام وأجابني قائلاً بتهكم: "شخّوا عليه".
رويداً رويداً انتهت زجاجة الجين التي ألحقها بزجاجة الويسكي. قل الكلام وتعبت بدوري من كثرة الذهاب إلى المرحاض، فاستأذنت الشاعر الكبير بالمغادرة وطلبت منه أن يسمح لي بكتابة خلاصة لحديثنا، على أن أطلعه عليها قبل النشر. وبعد أيام عدت إليه مع النص الذي نال موافقته وتم نشره لاحقاً في "الملحق"، وفي ختامه عبارة "شخوا عليه"، عدا أني في لقائنا الثاني جلست معه مرتاحاً ومستمتعاً، بعيداً عن المرحاض وهمومه.
No comments:
Post a Comment