الشعرية المتوحشة
عقل العويط
هو منذ أعوام كثيرة، ربما منذ ولادته "الملعونة"، عام 1934، قرر أن يشنّ الحرب على هذه الحياة، وأن يصليها النيران الحامية، وأن يقذفها بالحمم والشظايا، وأن يخربط لها البوصلة لتصاب بالجنون، ولتهستر الجبال والأنهر والمنبسطات من الأراضي، والبحر والقفر. ومنذ ذلك الزمن، بل منذ أول الدهر، قرر، ولربما قبل تلك الولادة، أن يمزق للحياة الدساتير والأعراف، وأن يبصق لها على القوانين، وأن يجعلها تحت قدميه العاريتين والموحلتين، وأن يمشيها مثلما تمشي العاصفة تحت العاصفة.
لم يترك محمد الماغوط سلاحاً "معنوياً" إلاّ استخدمه في حربه تلك. كان مؤمناً بالنظرية الآتية: قاتلاً أو مقتولاً. بل بالنظرية هذه لا بسواها: قاتلاً الحياة لينقتل بها لأنه قتلته بالولادة.
بالأسنان حارب الحياة، وبعينيه. وأكثر أكثر: بجسده العاري، وبقلبه العاري، وبروحه العارية. بل أكثر أكثر وبدون هوادة: بالكلمات العارية. بالنثر الذي يجعل النثر شبيهاً لا بذهب السهول في الصيف لكن باللعنة. وبالشعر الذي يهزأ بالشعر ويعطيه موهبة أن يصير شعراً. وبدون انتباه. بفطرة الزهرة التي تنبت في البراري، وتعيش. بقوة الموت الذي فيها. وبسلطة الغريزة الحياتية. وبكبرياء الجهل. وبالأمية التي تجعل الحياة تحيا وحدها، وبقوة نفسها. ولا تحتاج الى حماية.
تماماً، على طريقة الحب الذي يولد بدون جهد. وبدون ملاحقة وتعقّب ومطاردة. أي فقط بـ"الصدفة الموضوعية"... السوريالية. كما التقاء الصدمات الهائلة التي تصنع لغةً في العيون، أو أثلاماً باكية في الصحراء، صحراء الوجدان، وفي كل صحراء. أو تلك التي تصنع شيئاً يشبه الكهرباء والنار والعاصفة. او التي توقف القلب عن الخفق. أو تلك التي تجعله، يا للهول!، تجعله يعود عودته المفاجئة من موت لم يكن مقدَّراً له فيه أن يموت.
محمد الماغوط هذا، شاعر وُلد شاعراً وعاش شاعراً ومات شاعراً. هو شاعر الوديعة. وهذا يكفي.
لم يقرأ. حتى ليبدو لي أنه لم يكن في حاجة الى أن يقرأ ليعرف. فقد قُرئ له قبل أن يولد، وحين ولد، ولد قارئاً وعارفاً ما يعرف، وشاعراً ما يشعر به، ورائياً ما يراه، وقد كتب ما أعطي إياه فقط. وعندما طال به المقام والمقال، وقع في "نثر" النثر الذي كان كتبه. وهنا، بالذات، وتحديداً، يحمل هذا الشعر أسباب حياته، متوأمةً مع أسباب الأخطار المحدقة فيه. وهو، في عتمة اللغة وتجاريبها، قد لا يستطيع أن يظل يقاوم طويلاً أهوال التحديات الليلية والباطنية، التي تمثل أمام اللغة بعد استتباب قمر "القول الأول".
لم يذهب محمد الماغوط الى العمل ولا الى الأشغال الأدبية الشاقة ليصنع لنفسه أدباً ويبني لغة ويرفع مقاماً شعرياً. أنصنع أدبه معه كأنه مصنوع سلفاً، وانبنت لغته به كأنها مبنية سلفاً، وارتفع مقامه الشعري من تلقائه كأن الشاعر يرتفع من تلقاء الغريزة الفطرية ليس إلاّ. كاجتماع هذا الجسد بهذه الحياة، وكاجتماع هاتين العينين بهذه النظرات، وكاجتماع هذه اللغة بهذه الكلمات.
هذا شاعر ولد شعره معه وعاش معه، وأكاد أتجرأ فأقول إنه سيعيش وحده كنيزك أفلت من الجاذبية، وإنه لن يستطيع أن ينجب، لأن الإرث المتوارث لن يستطيع الأصل، ولن يطوّره، أو يتخطاه. فمثل هذا الشعر لا يتطور، لأنه يولد بهذه الطريقة، ولا يذهب بعد الآن الى قعر لأنه في القعر. فليس فيه بعد الآن من البواطن غير المكتشفة، لأنه خرج من المنجم حاملاً معه الذهب والغبار، والكثير الكثير من الأسمال والوحول. وهذا ليس مذمة. إنه موهبة. ويقع في باب الوصف والتقريظ، وحسب.
وعندما تكون أمام شاعر، كهذا الشاعر، وحيال أمية كهذه الأمية، من الجهل أن يطالب المرء شاعراً أكان أم ناقداً أم قارئاً بغيرهما. بل من العته مناهضة هذا النوع من الشعر والشعراء لأن في النوع شيئاً يشبه الصدفة النادرة. او الكنز.
وفي كل الأحوال، هو، أي محمد الماغوط، ليس صالحاً للعلم والتعلم، لأنه صالح فحسب لهذه الأمية الشاعرة. ولو تعلّم، بمعنى أنه لو اشتغل شعرَه، بالثقافة، وصرف عليه ما يصرفه الشعراء على أشعارهم من غرائز وحدوس لتصير قصائد، لكان فقد سرّ هذه الموهبة الكبيرة، المنذورة للفطرة الحياتية واليومية فحسب. والشاعر حين يكون هكذا فإن الشعر لا يسمح له بالتعلم لأنه يُعطى له مرةً واحدة. ينزل فيه هذا الشعر نزول اللعنة في الضحية، أو نزول الربيع في الزهرة. وهذا، أيضاً، يشبه نزول اللون الأزرق في العينين. وكله ليس مدعاة للأسى أو للتألم إنما للدهشة المزهوة أو المنصعقة. حتى ليجب على المرء أن يقول حيال مثل هذه الصدفة: يا للقدر الجميل. أو يا للهدية التي تشبه الجوائز الكبرى!
وأمام موهبة مفطورة على الشعر كهذه، يكاد يقول المرء، أحياناً، ليت البعض لا يتعلمون تهذيب الشعر لأنهم يقتلون موهبته. وليته، الشعر، لا يسمح لهم بذلك. وليتهم يكونون أميين، على طريقة الأمية الموهوبة، وإن بلغات وأساليب مختلفة، أو مناقضة، أو ضدية.
كنت أتحدث قبل قليل عن قتل الحياة، أو حتى عن الحياة القاتلة. وفي الحالين، عن محمد الماغوط الذي قتلته الحياة حين أنجبته، فصرعها بشعره، وبحياته الشاعرة، وهذه هي أيضاً فجيعته. نعلم أن هذا المتوحش الغاباتي إنما هو صالحٌ للغابات وللعيش فيها. أقول الغابات، وأعني الأرض البدائية، وكل أرض بدائية. فهناك تحيا الفطرة الكاملة، وهناك ترسل شموسها وأقمارها لتعيث الفساد الجميل في تلك الأرض. وهو، أي البدائي، يكون "مصنوعاً"، بل منذوراً للعيش فيها. وعندما يقيّض له - أو يُجبر على ذلك - أن يخرج من تلك الأرض البدائية، الغاباتية، يكون كمن يُزاح قلبه من قفصه الصدري فيعيش بلا قلب أو بلا صدر. هذا تماماً، ما أحاول ان أقوله عن شعرية الماغوط وعن حياته الشعرية، وهذا ما أحاول أن أتوصل الى استنتاجاته اللاحقة. هو خرج من الأرض البدائية، حاملاً جسمه البدائي، وقلبه البدائي، وروحه البدائية، ولغته البدائية، ومفاهيم الغابة حصراً، ليعيش في المدن ولغات المدن وأرواحها وأجسامها وقلوبها، وفي مفاهيمها المضادة. هناك، إذاً، ستقع الواقعة التي ما كان لها أن تقع لو أن هذا العصفور المتوحش بقي متوحشاً في غابة متوحشة. وفي الخروج من الفردوس، كيف يؤتى للفردوسي أن يحيا في الجهنمي؟ وكيف يستطيع، وهو الخارج من هوائه الطبيعي، أن يتنفس هواء اصطناعياً؟ وكيف يستطيع، وهو المصنَّع في الأصل ليعيش في الغابة المتوحشة، الحنونة، المخلصة، الطيبة، الرؤومة، الغنية، اللذيذة، والكاملة، أن يُحرَم العيش في الرحم ويُنقَل للعيش في الغابة المضادة، الغابة المدجنة، القاسية، الخائنة، الكاذبة، الفقيرة، النتنة والناقصة؟
كيف يستطيع امرؤ كهذا، وهو منتزَعٌ انتزاعاً من مكان إقامته، أن "يتعايش" مع شعوب وبلدان هم غرباؤه ونقائضه؟ وكيف تستطيع الغابة الأولى أن تحيا في الغابة الثانية، التي هي في الواقع الفعلي للأمور، متوحشة لكنها تزعم "مدينيتها المدجنة"؟! وكيف يستطيع هذا الشخص الشاعر أن يوائم بين الأصل الذي كان عليه، وحيث كان، وبين هذا اللاحق الذي صار اليه، ويعيش فيه؟
في قلب هذه المعمعة الهلاكية، في خضمّ هذا النزوح القدري، تحيا الواقعة الشعرية الماغوطية. وعلى وقع هذه السنابك، ذهب الشاعر بعيداً في التدمير الذاتي، وفي التدمير الشعري، الى حدّ أن الحياة نفسها، الحياة المدينية خصوصاً، صارت تناديه وتستغيث به كي يفرج عنها ويحرّر لحمها من براثنه، بعدما أثخنه تنكيلاً وجروحاً.
وهذه أيضاً كانت حال الشعر معه.
كالوحش، أنشب مخالبه فيها، هذه الحياة، وكالإنسان البدائي. وإذا كنا نراها قوية، فليس ذلك سوى على سبيل وهم الرؤية أو غبش القلب والعقل. لا، لم تكن الحياة قوية لتصرعه. كان هو متوحشاً فالتهمها. وكان هذا المتوحش هو الأقوى. لأنه كان ضحية. وهل من قوة أشرس وأوحش وأدهى من قوة الضحية التي تفترس نفسها وحياتها وكلماتها؟
توافرت لمحمد الماغوط الأسباب الجوهرية والأساسية كلها ليكون ما كأنه، وليكون: لعنة الولادة تحت سماء ملعونة وزرقاء، لعنة العيش، ولعنة الشعر. ثم الأسباب الثانوية الأخرى: الفقر، الجوع، التشرد، الوطن، الأهل، المدن، الديكتاتورية، السجن، المخابرات، التخلف، الهزيمة، اليأس. فضلاً عن "الديكتاتوريات" المضادة: الحلم، الخيال، الثورة، الرفض، الشتيمة، السخرية، الحب، الجنس، الكحول، التدخين. ونهم العيش. والعيش النهم. وبكامل الجسد البدائي. وبكامل وجدانه. وبروحه. وكل الشعارات "الموضوعاتية" التي يمكن رفعها في مثل هذه المناسبة.
هل تنحاز الى هذا النوع من الشعر، يسألني سائل؟ ثم يسأل: ألا تخاف عليه، من نفسه، ومن مريديه؟ ومن مشقات استمراره في الحاضر الموصل الى الغد ومفاجآته؟
بل أحبّ هذا الشعر حباً عظيماً، وقد قرأته مراراً. وسأقرأه أيضاً. وأرى فيه ما لا تستطيع تجارب أخرى أن تجاريه في ميدانه، مهما كثرت ثقافاتها وعلومها وخبراتها. فهذا شعرٌ يستطيع أن "يصادر" الوجدان الشخصي والجماعي، ويحرره في الكلمات. وهو شعر - وديعة. بل نيزك أفلت ضؤوه من سرّ الجاذبية.
فماذا نريد أكثر؟! .
No comments:
Post a Comment