Tuesday, December 28, 2010

مختارات شعرية


مختارات شعرية

محمد الماغوط

المرأة التي أحلم بها
لا تأكل و لا تشرب و لا تنام
إنها ترتعش فقط
ترتمي بين ذراعيّ و تستقيم
كسيف في آخر اهتزازه

* * *
آه. . . أين هؤلاء النسوة الرخيصات
من صبايانا القاسيات الخجولات
حيث لحمهن قاتم و مريح
كسرير من مطر
كسرير من الدمع و المطر
حيث القش و الندى و السمّاق
يفور من حلماتهن
كما يفور الدم من الوريد إلى الوريد

* * *
المرأة هناك
شعرها يطول كالعشب
يزهر و يتجعّد
يذوي و يصفرّ
و يرخي بذوره على الكتفين
و يسقط بين يديك كالدمع

* * *
النهد هناك
مجهول و عائم كالأحراش

ينفتح أمامك . . . كغيمة
كغيمة يخترقها عصفور
أينما ذهبت في الفضاء الواسع
كروم و ينابيع و أمطار
حقول و نسيم و شرف
أما هنا
فللمرأة رائحة الدم و عبير المقصلة
النهد هناك صغير كالزهرة
و النهد هنا كبير كالرأس

* * *
كن وحيداً في الريف
بين القمر و الأكواخ
و خذ فتاتك الخجولة وراء الغدير
تحت شجرة
أو غراف تعشش فيه النجوم و العصافير
هناك تنفض عن نفسها الغبار
تغسل وجهها و ساقيها بالراحتين
تمد لك فراشاً من العشب و الخرز و صرر الطعام
و تنبض بين ذراعيك حتى الصباح
دون أن تلتقي عيناك بعينيها
قد تنال منها حتى أحشاءها
دون أن تلتقي عيناك بعينيها


***

أيها السائح
طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيده..
وطني بعيد.. ومنفاي بعيد
أيها السائح
أعطني منظارك المقرِّب
علَّني ألمح يداً أو محرمةً في هذا الكون تومئ إليّ
صؤّرني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
وأكتبْ على قفا الصورة
هذا شاعرٌ من الشرق

ضعْ منديلك الأبيض على الرصيف
واجلسْ إلى جانبي تحت هذا المطر الحنون
لأبوح لك بسر خطير
اصرفْ أدلاءك ومرشديك
والقِ إلى الوحل.. إلى النار
بكل ما كتبت من حواشْ وانطباعات
إن أيّ فلاح عجوز
يروي لك.. بيتين من العتابا
كل تاريخ الشرق
وهو يدرج لفافته أمام خيمته

من مجموعة (الفرح ليس مهنتي) 1970

محمد الماغوط مع التسكع والحزن والخوف

 محمد الماغوط مع التسكع والحزن والخوف



جهاد فاضل
(لبنان)


يمكن تعريف محمد الماغوط انطلاقاً من هذا الكتاب الذي يتضمن حوارات معه حررها خليل صويلح بأنه رجل صادق وحزين ومأساوي ولا يجيد التفلسف والتنظير كما يجيدها أدونيس، وهو عديله، على حدّ قوله. وهو يقول إن الحزن لم يفارقه منذ البداية، وربما لهذا السبب عنون مجموعته الشعرية الأولى: حزن في ضوء القمر. فحتى القمر وضوؤه لم يجعلاه يفقد إلفه القديم: الحزن. ولكن الحزن يقترن في نفسه بالخوف. الخوف؟ "إنه الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط إلى الخليج. ولدي في أعماقي احتياطي من الخوف أكثر مما عند دول الخليج وفنزويلا من احتياطي النفط!!"  ويضيف في صفحة أخرى: "ولدت مذعوراً وسأموت مذعوراً، أنا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني، الأمة العربية لها أسس فريدة من نوعها.. جميع الأمم مقوماتها اللغة والتاريخ والدين، ما عدا الأمة العربية، فمقوماتها اللغة والتاريخ والدين والخوف. وخوفي طبيعي، وطمأنينة الآخرين هي المستغربة. والعربي الذي لا يخاف، أشك بعروبته!!..
ولد محمد الماغوط سنة 1934في مدينة تقع في شمال سوريا اسمها السلمية. وما يتذكره منها هو الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح. وقد هُدمت السلمية، كما يقول، منذ مدة وهي معقل القرامطة والمتنبي. "وقد يكون إحساسي المبكر بالظلم البشري اكتسبته من نشأتي في هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين. وأعتقد أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية وليس في ألمانيا ليخترع نظريته في الصراع الطبقي!!".
ومن أطرف ما يذكره عن أهلها أنهم اقتتلوا عام 1900بسبب دجاجة، وان حصيلة المعركة كانت يومها مئات الجثث.
أما أول صورة يتذكرها في طفولته بالسلمية، فصورة سماء شاحبة وسحب ورمال، "وحين كنت في السابعة من عمري، أطلقتني أمي لأول مرة خارج باحة البيت لأرعى الخراف فيما تبقى من المروج النامية مصادفة بين المخافر. وعند الأصيل عادت الخراف ولكن الراعي لم يعد!!"..
بداياته الأدبية كانت في السجن، وفي الحزب. "معظم الأشياء التي أحبها أو اشتهيها وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق". والمعروف أنه انتمى في شبابه إلى الحزب السوري القومي: "حصل الأمر دون قناعة تُذكر، وربما كان الفقر سبباً في ذلك. فبالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي، كنت بحاجة إلى انتماء ما. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية هما حزب البعث والحزب السوري القومي. وفي طريقي للانتساب إلى أحدهما، اتضح لي أن أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة.
ولأني كنت متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة، وصراحة إلى اليوم لم أقرأ صفحتين من مبادئه. ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى لم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها بجمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت أعمل في بساتينها.
جمعت التبرعات والاشتراكات واشتريت بها "بنطلوناً" وذلك وجه الضيف
".
ولكن الماغوط سُجن بسبب هذا الحزب مرتين. "صحيح إنني لم أسجن طويلاً، ولكني حين سُجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري. أحسست بشيء ما بداخلي ينكسر. ليس الضلوع، بل شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني وأقام معي صداقة لازالت قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري. الآن حين يرنّ جرس الباب، أشعر بالرعب. وحين يرن الهاتف، أتوجس خوفاً".
ويشبه نفسه بالسجين الذي ظل يحفر نفقاً في زنزانته لمدة عشرين عاماً، ثم اكتشف أن النفق الذي حفره، يقوده إلى زنزانة أخرى..
على أن هناك أموراً أخرى ترعبه ككاتب منها الورقة البيضاء، فكأنها إزاءها "
أمام سيبيريا من الجليد"..
ومن أطرف ما يرسمه صور لمجلة شعر التي لجأ إليها في شبابه الأدبي، وكذلك لأدونيس والخال والآخرين.
"
في لقاءات مجلة شعر التي كانت تتم أغلب الأحيان في بيت يوسف الخال، كنت أسمع الأحاديث عن شعراء وأسماء لا أعرفها مثل عزرا باوند واليوت وسوزان برنار. أنا لا أجيد لغة غير العربية، كنت أصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام آكل.. وفي إحدى المرات قلت: لم نُبق أنا وفؤاد رفقة على شيء في البراد سوى الماركة...
ولم تكن تعنيه في شيء هواجس التجاوز والتخطي. "وكانت مشكلة جماعة مجلة شعر، استغراقهم بتحطيم السفينة، دون أن يفكروا بالغرق المؤكد. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغميا عليه. بينما قل له وعلى مسافة كيلومتر: جاك برينير، ينتصب ويقفز عدة أمتار من الأرض وكأنه شرب حليب السباع.

ويقول انه لا يجيد التنظير مثل أدونيس، وان جماعة شعر كانوا يكتبون في المطلق، بينما هو حاول أن يسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام. "لكنني بقيت طارئاً مثل ضيف على طرف المائدة، وافترقنا لأنني شاعر أزقة لا شاعر قصور".
ويتحدث في هذه الحوارات عن قصيدة النثر التي يُعتبر أحد بُناتها أو مؤسسيها. عنده أن الشعر نوع من الحيوان البري، وان الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه. "أنا رفضت تدجين الشعر، تركته كما هو حراً، ولذلك يخافه البعض. واعتقد أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية. ثم ان قصيدة النثر مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها. كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي. ليس لديّ خلق لأبحث عن قافية وبيت!!"..
ويجيب عن سؤال حول نظرة جماعة "شعر" إليه: "البعض منهم قال إن محمد الماغوط ظاهرة عرضية سرعان ما ستزول، قالوا أيضاً انه بدوي فلاح، سيغني بضعة مواويل وينتهي أمره. أتذكر أن واحداً منهم قال العكس، ولم أعرف من هو إلى اليوم، لأني كنت جالساً في غرفة أخرى"..
ما يعني الماغوط أن يكتب بصدق في عصر الكذب السابق واللاحق. "واكتب بشجاعة في عصر الذعر السابق واللاحق. ومعركتي ليست وراء مكتب، أو في حلقة نقاد، أو وراء ميكرفون.. معركتي في الحياة. ولا أظن أن كثيراً من أساطين التجاوز والتخطي قد عبروها أو عرفوا شيئاً عنها منذ أن تخلوا عنها. وليس معنى هذا إنني شجاع بالمعنى الشعبي. فكثيراً من القصائد أو الزوايا الصحفية أرسلها إلى النشر من هنا، وأنام تحت السرير وقلبي يدق حتى يلامس بلاط الغرفة، ريثما تُنشر وأعرف ردود فعلها".

ويدلي برأيه في شخصيات أدبية كثيرة:
- مشكلة أدونيس أنه معلم في الشرق، وتلميذ في الغرب. ثم لماذا كل هذا التنظير للقصيدة، وماذا يعني القارئ إن وضعت كلمة أو حرفاً على يسار حرف، أو نقطة على خصر نقطة، إذا كانت السجون والمستشفيات والأرصفة تغص بروادها. أنا لا أحب القصيدة الفكرية، ولا أفهم شعر أدونيس.
- كانت طموحات يوسف الخال أكبر من طاقته، وهو كإنسان أهم من شعره بكثير.
- شعر نزار قباني المنفعل بالأحداث لا يختلف عن أي تصريح رسمي لأي مسؤول حكومي في العالم العربي. وهو في شعره الثوري كأنه ياسر عرفات أو المطران كبوجي. وهو في جلساته الخاصة كأنه بائع على بركات الله في جونية أو الأشرفية.
شاعر كبير بقضايا صغيرة.. واعتقد أن مأساته تتمثل في أنه لا يحب ولا يكره لذلك تبث الأزمات معظم أشعاره. مرة قال لي: أنت أصدقنا!

- محمود درويش شاعر موهوب جداً، لكنه غير صادق!
- كان السياب بسيطاً وصادقاً مثلي. كان يبيع الصدق ولا يشتري إلا الأكاذيب.
- البياتي بنى كل أمجاده الأدبية والسياسية على أساس أن جميع أجهزة الأمن في العالم تطارده، في حين أنه لم يدخل مخفراً في حياته، ولم يعترض طريقه ولو شرطي مرور.
ويصف الماغوط نفسه بأنه رجل ظلمات، رجل ظل. "في حياتي لم أجلس في منتصف الصف، في السينما أو في المسرح، أو على طاولة وسط المقهى. دائماً أنتقي ركناً منعزلاً عن كل شيء وأحدّق في الرصيف لأتأمل الأقدام الحافية، وسيارات الشبح في شارع واحد، كأن أشباح الليل والكوابيس لا تكفينا".
وفي كل حلم حلمه، وجد نفسه حافياً، ويصف نفسه بأنه بدوي يغني في أوركسترا الصحراء. في حين يصفه خليل صويلح، محرر حواراته، بأنه إمبراطور العزلة وأمير التسكع..


جريدة الرياض
03 April 2003.

حكاية الماغوط مع سعاد حسني


حكاية الماغوط مع سعاد حسني

صلاح حزين
(الأردن)


قبل أعوام، تعرض الشاعر الماغوط لهجوم كاسح من جانب عدد كبير من الكتاب المصريين، حين قال ردا على سؤال حول رأيه في الشعر المصري "ليس هناك في مصر سوى سعاد حسني"
- قبل أعوام، تناقلت الأوساط الصحفية و الأدبية في مصر والعالم العربي، ما يفيد بأن
الشاعر والكاتب والمسرحي السوري محمد الماغوط أجاب في واحد من لقاءاته الصحفية النادرة، قال ردا على سؤال حول رأيه في الشعر المصري "ليس هناك في مصر سوى سعاد حسني"
وقد أدي ذلك في حينه إلى ضجة كبرى ترددت في الأوساط الثقافية و الصحفية المصرية، وتعرض الشاعر الماغوط إلى هجوم كاسح من جانب عدد كبير من الكتاب والصحفيين والأدباء و الشعراء المصريين.
وفي لقاء أخير أجرته الصحفية والناقدة المسرحية المصرية، عبلة الرويني، و نشرته صحيفة "أخبار الأدب" المصرية، سألته عما حدث بالضبط آنذاك فأجاب ببساطة "
كنت أتكلم عن السينما، و لكن الجرائد تفعل ما تفعل". و روى حادثة عن أنه كان مدعوا عند شريهان، و دعته سعاد حسني، لكنه اعتذر لارتباطه مسبقا بموعده عند شريهان، فقال له صديق "حد في الدنيا تدعوه سعاد حسني و يروح لشريهان؟" ويعلق الماغوط على ذلك قائلا: "فعلا عنده حق".
و في اللقاء المذكور، الذي أجرته معه عبله الرويني، وهي زوجة واحد من أبرز شعراء مصر، الراحل أمل دنقل، أجاب عن عدد كبير من الأسئلة باقتضاب، و بسخرية مريرة، هي نفسها التي ميزت أعماله الشعرية، كما في مجموعته الأخيرة "
سياف الزهور"، وكتاباته الصحفية التي يكتبها في مجلة "الوسط" كل أسبوع، كما ميزت مسرحياته "العصفور الأحدب"، و"المهرج"، و كذلك "ضيعة تشرين" و "كأسك يا وطن" و غير ذلك
من مسرحيات مثلها له الفنان السوري الكوميدي دريد لحام.
عن انضمامه إلى الحزب القومي السوري في الخمسينات، قال الماغوط: "
كانت تجربة مضحكة. كان عمري 13 عاما، وكان هناك برد و مطر في السلمية (بلدته في وسط سوريا). قالوا إن هناك أحزابا جديدة قادمة إلى البلد. و سالت، ما هي المواصفات؟ فقالوا حزب البعث بعيد عن بيتنا، وليس لديه مدفأة. الحزب القومي السوري كان قريبا من بيتنا ويمتلك مدفأة".
لكن عضوية الماغوط في الحزب القومي السوري مكنته من فعل أشياء كثيرة، فقد فتح له الحزب أبواب الشهرة كشاعر يكتب إلى جانب شعراء الحزب الآخرين، و خاصة أدونيس في ذلك الوقت. وبالطبع، أبواب المجلات الأدبية التي كانت قريبة من الحزب، مثل مجلة "شعر"، و أبواب الزواج، فقد تزوج من الراحلة سنية صالح، وهي أخت خالده سعيد، زوجة أدونيس، أي أن أدونيس عديله. و فتحت له أيضا أبواب السجن الذي دخله أكثر من مرة بسبب آرائه السياسية، كان أولها في العام 1955 كما يقول.
عن السجن يقول الماغوط: "
فكرة السجن أكثر من مرعبة. أتحدى أن يدخل أي إنسان السجن ولو يوما واحدا وينساه. نحن جيل دشن فينا الإرهاب السياسي".
و عن الشعر يقول إن أول من التفت إلى شعره كان الشاعر نزار قباني الذي شاهده وهو يلبس الشورت ذات يوم في الخمسينات فقال له "اللي بتعملو شيء حلو". وعن جو مجلة "شعر" البيروتية التي كان يرأس تحريرها الشاعر يوسف الخال في أواخر الخمسينات قال الماغوط "
إن أهم ما كان يشغلني دائما هو الثلاجة والأكل، بينما كل من حولي يتكلم عن الشاعر إزرا باوند، وعن الشعر والنظرية".
و يقول عن الشاعر اللبناني أنس الحاج إنه كان قليل الكلام، ويقول عن يوسف الخال الذي كان رئيس تحرير مجلة شعر، إنه كان مختلفا عن أدونيس، فهو في رأيه "إنسان غني داخليا. فكر وعلم وثقافة". ويروي كيف حاول مرة أن يعلمه التسكع، وهو الأرستقراطي.
أما أدونيس فيستأثر بهجوم خفي منه، فهو يرى أنه، الماغوط، كان سيكتب مثل أدونيس لو درس وتثقف. ولكنه لا يحب ذلك كما أنه لا يحب شعر أدونيس ويضيف "
لا أحب القصيدة الفكرية. لو عندي فكرة لكتبتها في مقال". و يمضي قائلا رأيه في شعر "عديله" أدونيس فيقول: "أدونيس يكتب أفكارا، كل شعره فكر، وهو منذ البداية يعرف أين يذهب وكيف يسير، إنه منظم ومرتب. أحب شعره القديم، لأنه كان فيه معاناة. أما شعره الحالي فلا أفهمه".


أرابيا أون لاين
مايو 20, 2001


الماغوط الذي لا يمشي بين رصفين


مفيد نجم


لم تكن شعرية محمد الماغوط امتدادا لشعرية احد، وعلى الرغم من أنها أثرت في تجارب كثيرين أتوا بعده وحاولوا ان يقتفوا أثره، إلا انه ظل حالة شعرية خاصة تحمل علامات تفردها، وهويتها النابعة من خصوصية التجربة التي عاشها والرؤية التي رسمت فضاءه، والذات الشاعرة التي صاغت لغتها من عذاباتها وحزنها اليومي، وأحلامها المغتالة بين ملايين الجدران، وتحت سقف الحياة الواطئ.
من هنا فقد شكل صدور منتخبات من قصائده في كتاب في جريدة تحت عنوان «حطاب الأشجار العالية» مناسبة للاحتفال بشعرية الماغوط، فأصدرت مؤسسة تشرين كتاب «نسر الدموع» الذي تضمن قراءات في تجربة الشاعر قام بتحريرها خليل صويلح وبعد فترة وجيزة أصدرت دار البلد للنشر كتاباً آخر بعنوان «اغتصاب كان وأخواتها» وضم عدداً من الحوارات السابقة التي كان الماغوط قد أجراها، وقام بتحرير الحوارات
وتصنيفها خليل صويلح أيضا، مما يوفر للقارئ والباحث معاً فرصة التعرف على جوانب تجربة الماغوط المختلفة، والى آرائه ومواقفه التي يبدو ان الماغوط لم يفارقها ولم يتخل عنها في مسيرته الشعرية كما يلاحظ ذلك من خلال إجاباته التي يقدمها في حواراته المختلفة.
ينقسم الكتاب الأول الى قسمين اثنين يتضمن الأول أكثر من عشر مقالات نقدية لمجموعة من النقاد والشعراء العرب، في حين يشتمل القسم الثاني على مجموعة من الشهادات لأدباء وشعراء سوريين وعرب أيضا وتمثل الدراسة التي قدمتها الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح زوجة الشاعر والتي كانت قد كتبتها كمقدمة لأعمال الشاعر الكاملة التي صدرت في منتصف السبعينيات أهم دراسة مكثفة تصف خصوصية الماغوط كشاعر وإنسان وكتجربة قاسية عاشها ظل يناضل فيها من اجل وجود بديل أكثر كرامة وحرية وعدالة.
ولذلك ظل حليفاً للقضايا الخاسرة في واقع لا يحتمل أحلامه وطموحه المؤجل والمخذول.
لقد شكل تفرد الماغوط في ريادته لقصيدة النثر موضوعاً مهماً للنقاد الدكتور صلاح فضل الذي يدرس الرهان الشعري للنثر ممثلاً بتجربة الماغوط الشعرية التي يحلل عناصرها الهيكلية، في حين ان خيري منصور يركز على دراسة الصورة الشعرية التي هي وسيلة التعبير الأساسية في شعر الماغوط الذي يؤكد محمد جمال باروت في دراسته انه أعطى الاعتيادية أفقا شعرياً لم يكن لها من قبل.
ويذهب الشاعر سيف الرحبي في قراءته لتجربة الماغوط الى ان جدية مزاجه الشعري جعلته غير قابل للاندراج ضمن مشروع شعري جماعي، ويرى الناقد خلدون الشمعة ان الشاعر كان رومانتيكيا بمنظار واقعي، إما الشاعر الناقد حاتم الصكر فيركز على موضوع الاندفاع الفطري في مغامرته الشعرية والذي منحه تميزه.
الأديب زكريا تامر صديق الشاعر منذ البداية يصف الماغوط بعد تجربة أكثر من نصف قرن بأنه خبر في هذه التجربة ما على القمة وما في الهاوية، حيث تغدو الحياة مع فقدان الحرية هي الوجه الثاني للموت.
أو هي التي يشرّفها ما تجرع الشاعر من آلام الشعر كما يقول الشاعر نزيه أبو عفش، أو التي نكتشف معها قوة الصدمة وعمق الدلالات التي أحدثتها نصوص الماغوط وفق ما يقوله الشاعر قاسم حداد.
في الكتاب الثاني يتحدث خليل صويلح في مقدمته عن علاقته بالماغوط وكيفية حصوله على أرشيف الشاعر الذي قدمه له من اجل إعادة جمع ونشر هذه الحوارات في كتاب خاص، قام المحرر بفرزها وتجميعها وتصنيفها في سبعة أبواب تغطي مسيرة تجربة الماغوط منذ البدايات وحتى الوقت الراهن، وقد خصص الباب الأول الذي حمل عنوان «مسقط الرأس» الحوارات التي تتحدث عن ولادة الشاعر في الثلاثينيات من القرن الماضي في قرية تقع على حدود الصحراء تسمى السلمية التي كانت ذات يوم معقل القرامطة والمتنبي والتي أثرت كثيراً في تشكيل وعيه الأول وذاكرته الشعرية التي ظل مشدوداً إليها بروحه المقطوعة، وحنينه الحزين الموحش في مدن الوحل والبرد والغربة.
ويذكر الماغوط في حواراته ان أول صورة يتذكرها في طفولته هي صورة السماء الشاحبة والسحب والرمال وهو في الخامسة من عمره يتشبث بحضن أمه التي يصفها بأنها كانت شاعرية في طبعها وتحب الزهور والتي منحته الحس الساخر والصدق والسذاجة.
وتتحدث حوارات الجزء الثاني عن مرحلة دخوله سجن المزة العسكري في مرحلة الخمسينيات بسبب انتمائه للحزب السوري القومي وبحسه الساخر يتحدث الماغوط عن اسباب انتمائه الى هذا الحزب فيقول «وفي طريقي للانتساب الى أحدهما «البعث والقومي السوري» اتضح ان أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة ولأنني كنت متجمد الأطراف من البرد اخترت الثاني دون تردد» ص 37. ومما يذكر ان الماغوط دخل السجن في مرحلة مبكرة من عمره إذ كان عمره آنذاك 19 عاماً.
وبنفس اللغة الساخرة يتحدث الماغوط عن علاقته بمجلة شعر اللبنانية والحداثة في الشعر، لكنه يعترف ان المجلة كانت الخيمة التي آوته والمنبر الصغير الذي ساهم في إيصال صوته الى الآخرين بصدق ودون أي مكر سياسي، كما يقدم آراءه في عدد من شعراء مجلة شعر كأدونيس ويوسف الخال وانسي الحاج بالإضافة الى عدد من الشعراء العرب المعروفين كبدر شاكر السياب والبياتي والقباني وينضح صدق وجرأة الماغوط في تقديم آرائه فيهم بإيجاز وتحديد واضحين.
الفصل الرابع يتناول تجربة هروبه وتخفيه في احد البيوت الواطئة والصغيرة في حي قديم من أحياء دمشق المعروفة، هو حي عين كرش، حيث استوحى من هذه التجربة المريرة والقاسية كتابة عمله المسرحي العصفور الأحدب في عام 1963، والتي كتبها كما يقول في اقل من عشرة أيام، وقد كانت في الأصل مشروع قصيدة، لكنه فيما بعد حولها الى مسرحية.
ويتحدث الماغوط في هذه الحوارات عن علاقته بزوجته سنية صالح التي يؤكد أنها كانت بالنسبة اليه بمثابة ام وحب ومرض، وكان رأيها فيما يكتب هو الأساس، كما يتحدث عن المرأة التي يرى إنها المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها، وحول عزلته التي يعيشها منذ زمن يعلن الماغوط انه لا يحب ان يقابل أحدا فهو يحب الوحدة والصمت وهو إنسان سوداوي وليس له أصدقاء جدد والكتابة هي عالمه الذي يضيع عندما يحاول ان يخرجه منه.
ان شاعر التسكع والأرصفة والتبغ قد أدمن منذ ثلاثين سنة على الاستيقاظ فجراً والذهاب سيراً على القدمين الى مقهى شعبي يدعي «مقهى أبو شفيق» وهناك يقرأ الصحف ويكتب، حيث كتب هناك مسرحياته الأخيرة ضيعة تشرين وغربة وكأسك يا وطن وشقائق النعمان، وسيناريوهات أفلام الحدود والتقرير والمسافر،
وحتى بعض قصائده فنهر بردى الذي تلاشى هو مرآته التي كان يرى فيها نفسه، فهو يشبه الشاعر الصامت العجوز وخلال مسيره الذي يبلغ 5 كيلومترات يضع الماغوط في أذنيه سماعتي الوطن ولا يتكلم مع احد في الطريق، كما لا يجلس مع احد في المقهى الذي بقيت ذكراه في ذاكرة الكثيرين كما هو الحال بالنسبة لنهر بردى الذي كان يمنح المكان جمالية وإيقاعا خاصين.
وعن المدن التي عرفها دمشق وبيروت وباريس يتحدث الماغوط بصدق وشاعرية تفيض بالمودة والحب عن دمشق التي أحبها لأنها استطاعت ان تسكنه في حين كانت بيروت أكثر من ام احتضنته لكنه بعد ان تغيرت المدينة وفقدت معالمها التي ألفها وأحبها، ظل يحن الى وجهها القديم..
وفي الفصل الأخير صورة جانبية في خمسين مرآة هناك فلاشات سريعة وكثيرة حول آراء الماغوط المكثفة جداً في قضايا إنسانية وفي نفسه وفي الواقع والحياة والصدق والمدرسة والحب، وكما تميز شعر الماغوط بـ «كوميدياه السوداء» كذلك تميزت إجاباته التي لا تخلو من سخرية لاذعة وجريئة فالماغوط يذهب في أقواله الى الموضوع مباشرة ومن دون مقدمات ولذلك تكون آراؤه حرة وجريئة وصادقة، كما هو شعره الذي كان بيتاً بلا سقف كما يصفه في إجاباته.




الأحد 25 شوال 1423هـ
29 ديسمبر 2002
العدد 151

قصيدة النَّثر من الماغوط إلى القصيدة الشّفوية

محمد علاء الدين عبد المولى



يمكننا بكثيرٍ من الثِّقة والاطمئنان، أن نزعم أن كتابات محمد الماغوط شكَّلت وما زالت، تحدّياً لكثير من (شعراء) قصيدة النثر. والمفارقة أنَّ الماغوط الذي كان يكتب ما يكتبُهُ على أنه (خواطر) لا (قصائد)، (ونحن من المفترض أن نكون على إطلاع على كيفية إطلاق صفة الشعر على كتاباته)، قد حقَّق فرادةً في قضايا "قصيدة النثر" دون أن يدري أو يقصد إلى ذلك في البداية، فرادة ما زالت نصوص كتّاب النثر عاجزةً عن مطاولتها. ويقول محمد جمال باروت بصدد خصوصيّة الماغوط في كتاب (الشعر يكتب اسمه ـ اتحاد الكتاب ـ 1981)، ما يلي: ((لقد استطاع الماغوط بقدرة إبداعية نادرة أن يترجم هذه المشاعر ـ يقصد باروت المشاعر اليوميّة ـ وهذه الحياة فنّيّاً وأن ينقلها من حقل الكلام اليوميّ المتكرر والمستهلك، إلى حقل الكلام الشعري الخصوصي والمتفرّد في مساحة غنائية، مظلّلة بخلفيّة رومنتيكية (نهلستيّة). لقد حقق الماغوط التّوافق الخلاّق مابين التّقنية والتّجربة الداخلية (المضمون). فالتّقنية تستمدّ ملامحها من حقل الكلام اليوميّ، وهذا ما يفسر الألفة والدّفء في جملة الماغوط الشعرية)) (1).‏
ونضيف على هذا، أن الماغوط لم يكن يعلم أنه يحقّق هذا التوافق بين التقنيّة والتجربة الداخلية، ولم يكن دارياً بكل هذه التّقنية. وهنا تكمن أهميته في هذه اللحظة العفويّة الوحشيّة النَّابعة أساساً من طبيعة تعامله مع الحياة والكتابة، وهي طبيعةٌ مليئةٌ بالفطرة، لهذا لا نتَّفق مع باروت الذي يكتشف في الماغوط ((إنتاجاً فنيَّاً لمشاعر المثقفين البرجوازيين الصّغار في الحياة المدينية المعاصرة)) (2).‏
إذ لا يمكننا دائماً إلصاق مصطلحاتنا نحن بتجارب بريئة، ونحملها فوق طاقتها من أجل أن تستقيم معنا الأطروحة النَّقدية.‏
ومع إدراكنا لأهمية قراءة أي تجربة إبداعية في علاقاتها بسياقها الاجتماعيّ والفكريّ، نرى أنَّ هناك مبالغةً من صناعتنا نحن، تتعلّق بهذه التَّجربة أو تلك.... وقد تصل المبالغة أحياناً درجة يصبحُ معها النَّصُ معزولاً عن سياقه تماماً، ومحمَّلاً بسياق النَّاقد وحده.( ولاسيَّما إذا استحضرنا من الذاكرة الطَّريقة التي انتسب بها الماغوط إلى تيّار سياسيٍّ دون سواه....).‏
وقد يكون من حقّ أجيال كتّاب (النَّثر) بعد الماغوط، أن يبالغوا في كونه رائداً من رواد أسلوبهم، وأباً إبداعيّاً ارتسمت خطاهم على إيقاع تجربتهِ، وذلك من أجل أن يخلقوا مرتكزاً واقعيّاً يلقون عليه أحمالهم، ويتلمّسوا من خلاله مشروعيّة ما لتجاربهم، فذلك يروق للأبناء عندما يبجّلون الآباء. هذا من ناحيةٍ، ولكن من ناحية أخرى، مارس هؤلاء خيانةً لرائدهم، وقاموا بما يشبه (الاحتيال) على مقامه. ولا أجد أنَّ ما قاموا به، يدخل في علاقة الأبناء بأبيهم الرمزيّ، ورغبتهم بـ((قتل الأب)) لإبراز شخصياتهم بمعزلٍ عن وجوده، أقول إن خروجهم على الماغوط في عمقه لم يكن قتلاً رمزيّاً للأب، بل كان نيَّةً حقّقوها، في كتابة نصوصٍ هابطةٍ ورديئةٍ وتصل درجة واقعيّتها حدَّ الابتذال، ولاسيِّما في مرحلة منتصف السبعينات وصولاً إلى الثمانينات. وأرادوا تبرير نصوصهم بأنها خروج على هيمنة الماغوط واختلاف عنه. وأعتقد أن هؤلاء في أعماقهم لا يقيمون وزناً للماغوط، لكنهم جعلوه (شمَّاعةً) يسوّقون مواهبهم المتدنّية بتعليقها على هذه الشَّماعة. ونحن نعتقد بأن الماغوط ـ على عفويِّته وبراءة طينته الداخلية وطبيعيِّة كتابته ـ لا يريد أن يحدث ما حدث باسم الانتماء إليه، وهو ليس مع الإساءة للشعر استناداً إلى ريادته، ولكن كم من الظواهر الشَّبيهة بالماغوط في حياتنا اليوميَّة على أي صعيد نختاره؟ ألا نتعمَّد دائماً اختراع متاريس سياسية ودينيَّة وإبداعية نحتمي بها وننّظمُ علاقاتنا مع الحياة بناءً على وجود هذه المتاريس؟ في حين أنها بريئة ممّا نصنع في حقّها.‏
علينا إعادة قراءة الماغوط لا بأهدافٍ سيكولوجيّة تخصُّ حاجتنا للاحتماء بأبٍ شرعيٍّ ننقلبُ عليه، أو باختراع هذه الأبوّة لنبرّر الخروج عليها، فنكون بذلك خرجنا على أبوّة مصطنعة هي نفسها لا تدري بأنها ارتفعت إلى مصافّ الآباء. علينا أن نضع أهمية الماغوط في موضعها الطبيعي دون أوهام وادّعاءات. دون أن نرى فيه ما ليس فيه، ودون إسقاط عضلاتنا التَّحليلية، وموسوعة مصطلحاتنا البنيويّة على كتابته، فنكون كمن يكيّف النَّصَّ وفق هذه العضلات والمصطلحات، في الوقت الذي علينا فيه تقريب آليّات نقدنا من النَّصَّ ونختار من أدواتنا ما يساعد في إعطاء الحجم الطبيعي للمبدع.‏
وربّما كان مفيداً هنا الاستعانة بمثالٍ واقعيٍّ على مدى مبالغة النَّقد في تعامله مع لغة الماغوط وتحميلها فوق طاقتها. يقول (يوسف حامد جابر) في كتابه (قضايا الإبداع في قصيدة النثر).‏
تعليقاً، أو تحليلاً، للنصّ التالي للماغوط:‏

(فأنا أسهر كثيراً يا أبي‏
أنا لا أنام‏
حياتي سواد وعبوديّة وانتظار‏
فأعطني طفولتي‏
وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز‏
وصندلي المعلّق في عريشة العنب‏
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري)
(يتحدَّد البناء اللّغوي في هذا النصّ من كون مفرداته الأساسية منتزعةً من عالمين متغايرين: عالم الطفولة، ويشكّل حركة ارتداد نحو الماضي. حيث الحياة تسير بتلقائية "الحرّ" الذي لا حواجز أمام حريته. وحركة الارتداد هذه، الغاية منها استحضار العالم الذي تشكلت فيه وقامت على أساسه).(3).‏
ثم يبحث الناقد (عن هذه النكهة في البنية العامّة المكوّنة للنصّ، محاولين أيضاً، الإمساك بالدلالات المرافقة لها، والتي لا تخرج عن طبيعة كونها ألصق بحركيّة الواقع اليوميّ).‏
ثم يذهب في تحليل هذه البنية اللغوية المكوّنة للنص بأن يجد في جملة (فأنا أسهر كثيراً يا أبي)، (ثلاثة ضمائر تعود جميعها للشاعر الذي وضعها في سياق خبريّ)، يريد أن ينقل إلينا، عن طريقه، حالةً ما يعيشها، هي حالة "السهر" والسهر فعل يومي يمارسه الناس بمختلف فئاتهم ويحمل طابعاً اجتماعياً.... الخ) (4).‏
ويخرج النَّاقد من تحليله للبنية اللغوية هنا بأنه لا يعرف السَّببَ الحقيقي للسهر. ومن أجل أن يعرف ويقف على حقيقة السهر ينتقل ليحلّل الجملة الثانية (أنا لا أنام) فيكتب عنها ثمانية أسطر، يتخلّلها تساؤلٌ حول السَّبب الخفيّ القابع وراء عدم النوم، هل (بسبب مرض يمنعني من النوم، مضايقات، طبيعة العمل في الليل.... الخ).(5). ثم يخرج كذلك دون أن يكتشف لغز هذا السهر. إلى أن يصل بعد صفحة كاملة من تحليلاته لخمس كلمات، إلى الكنز المفقود، وهو سبب عدم النّوم، وهذا السَّهر.... فحين يقرأ للشاعر ((حياتي سواد وعبودية وانتظار)).. يكتشف أن وراء السهر ((قضية هامة تتعلّق بمسألة حرية الإنسان وما يتفرّع عنها)). ويقول عن كلمة (انتظار)، ((ربما كانت كلمة "انتظار" أشمل من حيث انفتاحها على حالات تعمل على تأكيد وضع الشاعر العام، بما يتفرع عنها من آمال مرتجاة وقلق، من اضطراب ووهن ويأس...)) (6)
أتساءل: هل بربّكم يحتاج هذا المقطع العاديّ وإن كان شفَّافاً ومثيراً للألم، كلَّ هذا الاستنفار العالي لأجهزة النقد ومصطلحاته؟ ألا يثير السُّخرية أن ينشغل الناقد هو ومنظومته النقدية وبنيته اللغوية، بما يراه قضيةً هامةً تقف وراء عدم نوم المؤلف في النصّ؟ ثم ما هذه السذاجة والاستخفاف بعقولنا، وهو يصنع احتمالاً لسبب عدم نومه وسهره، هل السبب هو المرض، أم المضايقات، أم طبيعة العمل في الليل (يعني هل تعرَّض مؤلف النّصّ لإزعاج (7)جاره، أو تشاجر مع جابي المياه، أو ربما كان يعمل حارساً ليليّاً).... هل يحتاج النص إلى كل هذا؟.. ثم ما هذا الغموض الإبداعي لكلمة لا أنام؟... يعني لماذا لا ينام المبدع؟ ولماذا يصاب بالأرق ويضطّر للسّهر؟ هل في هذا أسباب علينا أن نحشد طاقاتنا النقدية والبنيويّة لمعرفتها؟ وفجأة يعرف الناقد سبب السهر: إنه السواد والعبوديّة والانتظار... حقَّاً إن المؤلف يأرق لهذا السَّبب، وهو يقوله لنا بعد خمس كلمات، فلماذا لا نتعامل مع النَّصّ كبنية لغويّةٍ مكتملة، تتمّ فيها قراءة مستويات النَّصّ جميعها برؤيا شاملة، حتى نحقّق التّواصل الكليّ مع لغة النصّ؟.. وما الذي يعنيه المبدع عندما يستخدم في نصّ كهذا كلمة الانتظار؟...‏
هل سينتظرُ قطّة الجيران آخر الليل ليتسلّى معها؟ هل ينتظر بائع الحليب؟.. لو كان الماغوط استخدم كلمات ذات أبعاد متنوّعة معقّدة، أو تحمل تاريخاً ميثولوجيّاً أو دينيّاً، أو أدخل الكلمات في علاقات سوريالية غامضة، لكان الأمر على درجة من الخطورة بحيث تستحقّ هذه الكلمات التحليل والتَّركيب، معتمدين على معرفة نادرة بدلالة المفردات وإيحاءاتها المحتملة. ولكنْ ليس الأمرُ على هذا النّحو دائماً من الغنى الدَّلالي، وليست كلماتنا في النّصوص قادرة دائماً على أن تكون مشحونة، بما لا ينتهي من المعاني، أو معنى المعنى.... ولاسيما أن الماغوط هنا يتعامل مع مفرداته ببساطة متناهيةٍ وشفافية الطِّفل الطبيعي.... فلماذا لا نقبل من الماغوط أن يكون هكذا، ونستدرج نصوصه دائماً إلى مخابرنا (أو مخابزنا) البنيويّة؟ وكأن الماغوط لا يكون مهمّاً إلاَّ إذا عقّدنا نصوصه، وهي على درجةٍ راقيةٍ من التّدفّق والحيويّة، يبدو أن أبناء الماغوط (المزعومين) ليسوا أهلاً لاكتشاف هذا التّدفّق والحيويّة، والتّمتّع بلغتِهِ الحارّة الدَّافئة، وليسوا قادرين على التّعامل مع نصوصه إلاَّ وهم معقّدون مأزومون.‏
إن المثل النَّقدي السّابق واحدٌ من عديد الأمثلة، التي تهيمن على حساسية كتّاب (النثر) وهم يدّعون خروجهم من معطف (أو قبّعة) الماغوط.‏
أمّا الماغوط، فله رأيه في آراء النقّاد... وهو رأي طريفٌ، وصادق حقّاً. فقد سئل عن رأيه فيما يقوله النقّاد عن فرادة صوته وتميّز صوره.... فقال: ((أنا شخصيّاً أعجز عن تفسير أو تبرير ما يقوله النقاد، لا أستطيع أن أنِّظرَ للشعر، فأنا أكتبُ الشعر... وهذه مشكلة مزمنة)). ((أشعر أنَّ عالمي الخفيّ هو الارتباك والتّرّدد والرّيبة، هذه الحيطة أو الخجل أو الارتباك... ارتباك الشاعر المسحوق غير المعترف به في البدايات جعلتني أتّخذُ نمطاً معيّناً أو سلوكاً وحشيّاً من العالم))... ولنتذكر ما قلناه آنفاً عن ((العفويّة والوحشيّة)) لدى الماغوط... يتابع: ((ما يقوله النقّاد عن الفرادة والتّفرّد، فهذا لا أستطيع أن أؤيّده، أو أرفضه، ولكنني أعتقد أنني ـ ولا أزال ـ لستُ أكثرهم موهبةً أو شاعريّةً ـ كما يقول الكثيرون ـ ولكن ربّما كنتُ أكثرهم صدقاً، أو شجاعة في قول ما أقول... طوال حياتي أكتب لنفسي، لا أكتبُ لجمهور أو لقارئ أو لجريدة أو لناقد أو لشهرة حتى الآن))..‏
إن الماغوط يصرّ على نصاعته ووحشيَّته وبراءته، ويريد الآخرون الاحتيال عليه لاستثماره وتوظيفه في مشاريعهم الخائبة. فهل امتلك هؤلاء نظرتَهُ الصّافية للحياة، وعلاقتَهُ العارية الخالية من أي زيف وادّعاء؟... هل استطاعت نصوصهم أن تتعلَّم منه ـ وهو رائدهم وأبوهم كما يزعمون ـ كيف يتحوّل الواقع عنده إلى شيء مثيرٍ للدّهشة بموهبته العميقة على الْتقاط عناصر الحياة المتناقضة، وكيف يأخذ هذا الواقعُ المعروف والباعث على السّأم، إلى واقعٍ معجونٍ بنيران الإنسان وأعصابه وقلقه وتوتّره؟...‏
إن البعض وبنيّة محبّته للماغوط، مارس على كتابته تشريحاً تحكمُهُ المغالاة. وهي محبّةٌ ضربتْ حجاباً بين هؤلاء وبين الماغوط. وإذا كان هذا مسوِّغاً على المستوى الشّعبيّ الجماهيريّ، فإنه مرفوض على المستوى الشعري والنّقديّ. لقد قتلوه بحبّهم، وقيّدوا تجربتَهُ بنرجسيّتهم، حين لم يكن هو يأبه لكل ذلك.‏
وقد نُتَّهمُ بعكس ذلك، ولكن نقول: لنا حبُّنا للماغوط كذلك، ولكننا لا نتخيّل (ماغوطاً) في أذهاننا نُسقط عليه مشاعرنا، بل نتناول شخصيته الواقعيّة بإنتاجها الأدبي المثير، دون كثيرٍ من الأوهام. لأن المبالغة في علاقتنا بأي موضوع تنقلب عماءً ولا نعود نبصر جماليات الموضوع لأننا رضينا أن نتعامل لا معه، بل مع الإضافات التي ألصقناها نحن عليه. وهذا وضعٌ مرضيّ باختصار.‏
أمَّا الماغوط والقصيدة ((الشَّفويَّة). فهذا شأنٌ آخر من شؤون (قصيدة النثر)، ونقّادها. فما هي هذه (الشفوية)؟‏
سأعتمد هنا على محدّدات هذه القصيدة كما وردت في كتاب (الشعر يكتب اسمه) لمحمد جمال باروت المذكور آنفاً. فهذه القصيدة هي اتجاه جديد في الشعر السوري (في فرع قصيدة النثر في السبعينيات).‏
وهي قصيدة ((تطرح تساؤلات الإنسان في المدينة العربية المعاصرة، حيث تلتقط توتّر الحياة اليوميّة، وشرائحها، وصيرورتها ولحظاتها الإنسانية المستمرّة.....)).(8). وهي القصيدة التي وطَّد حضورها الشاعر الفرنسي (جاك بريفير). وهي مبنيَّةٌ ((على شحن الكلمة اليومية العادية، بطاقةٍ شعريّة، وبكلمة أدقّ بتوتّر شعريّ. لذلك عندما تفتقدُ هذه الطَّاقة، أو التّوتّر فإنَّ القصيدة تتحوّل من كلام شعري إلى كلام نثري. ومن هنا كثر وقوع بعض نماذج هذه القصيدة في وظائف النثر الثلاث (الإخبار، الوصف، التقرير).)).(9).‏
وتحديد باروت للقصيدة الشّفويّة يتمّ في سياق مقارنته تجارب أجيال (قصيدة النثر) من الماغوط إلى نزيه أبو عفش ومنذر المصري وعادل محمود، فهؤلاء جميعاً كرّسوا اتجاه القصيدة الشفويّة المحدّدة أعلاه....‏
دون سابق تنظيرٍ ولا فلسفةٍ للمفاهيم، نطرح هذه التّساؤلات على القصيدة الشّفوية: هل طرحُ تساؤلات الإنسان في المدينة العربيّة، هو شأن خاصّ تمتاز به قصيدة النثر الشفوية؟ ماذا كانت تفعل قصائد كلّ من (السيَّاب ـ وحجازي وعبد الصّبور ـ ونزار قباني ـ وخليل حاوي.... وغيرهم).‏
إذاً؟ لقد شكلت المدينة للشعر الحديث فضاءً جديداً، أكان الشاعر ريفيَّ المنشأ أو مدنيّاً. وذلك عندما اتّسعت رؤى الشاعر وانفتحت إمكاناتُ شعره على العصر الحديث، بما فيه من إملاءات جديدةٍ، ومفاهيم وتصوّرات كان من الطبيعي أن تؤثّر في إحساس الشاعر وعلاقته مع الحياة. فالمعاصرة والحداثة ليسا مفهومين نظريَّين بمعزلٍ عن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ممّا يعني ضرورة اصطدام الإنسان بفضاء المدينة التي تبدأ الحداثة منها. فكيف يمكن للشاعر القادم من الرّيف أن يتوازن داخليّاً وثقافيّاً أمام تجربة جديدة تقتضي منه ما يشبه الانقلاب في المفاهيم والذّائقة والمرجعيّات... كذلك تعرّض المدنيُّ الخارج من مدينةٍ صغيرةٍ ((لا تعرفُ الذَّرّة، طيّبة حرّة))، كما يعبّر عبد الباسط الصوفي، الشاعر الذي انتحر في الثلاثين من عمره، دافعاً ضريبة وعيهِ الممزّق بالمدينة والغربة التي تطحن الروح.... أقول تعرّض هذا المدنيّ الخارج من هذه المدينة إلى مفهوم جديدة للمدينة تؤطّره الصّناعة والمؤسَّسة والفراغ... كل ذلك كان حقلاً خصباً للشعر الحديث قبل ولادة سيدتنا (القصيدة الشفويّة) على أيدي شعراء النثر.‏

مع أن (السياب وحاوي وقباني وبعدهم مصطفى خضر وغيرهم)، لم يكونوا (شفويّين). وهم عبّروا عن أزمة الإنسان المعاصر في توتّره، والتقطوا ((توتّر الحياة اليوميّة، وشرائحها)). وعلاقة كلٍّ من هؤلاء بالمدينة تحتاج إلى دراسة مستقلّة مستفيضةٍ، ولكن شعرهم هو دليلُنا على ما نزعمه من أنهم كانوا نتاج الصراع النفسي والفكري والوجودي والحياتيّ مع المدينة بمظاهرها، وانحلالها، وعلاقاتها وفراغها وقيمها الاستهلاكيّة... ومنهم من كان متحدّراً من أصول فقيرة، أو شرائح بورجوازية صغيرة، أو ثريّة...‏
ما الامتياز في هذا الموضوع إذاً، الذي تدّعيه (القصيدة الشفوية)؟... إلاّ إذا رغب الناقد باروت بأن يسحب كل هؤلاء إلى مصطلحه ليشملهم برعايته، وما أظنه فاعلاً، ففي ذلك إطاحة النظرية من أساسها....‏
والطّريف في الأمر، أن باروت يربط (الشفوية) بمرجعيتها الفرنسيَّة، (جاك بريفير)، وهكذا فعل الشعراء الذين أتينا على ذكرهم آنفاً، حيث تفيدنا الدراسات النقدية حول الحداثة الأولى وما قبلها، بأن الشعراء كانوا يتأثرون بثقافتهم الأوروبيّة، إنكليزية وفرنسية، وهم يعبّرون عن قلقهم وأزمتهم في المدينة. وتطالعنا هنا ترجمات الوجوديّين مثلاً، وترجمات (إليوت) المعروف بتمثّله العميق لأزمة الإنسان الحديث في المدينة، وقد أثّرت أفكاره كما يقال في عديد من شعرائنا (ولنا تحفّظاتٌ على تأثير إليوت، ليس هنا مكان البحث فيها)....‏
بقي إذاً من امتيازات (الشفوية) أنها قصيدة قائمة على شحن الكلمة اليومية العاديّة بطاقةٍ شعرية، بتوتّر شعريّ....‏
هل لنا أن نتفحَّصَ مفهوم الكلمة اليومية العاديّة؟.. هل يعني هذا قيام كلمات غير يوميّة وغير عادية تقابل أو تناقضُ تلك اليومية والعادية؟... تنبئنا نصوص الشّعر بصورة عامّة أن جميع الشعراء يستخدمون جميع المفردات، سواء أكان الماغوط أم علي الجندي أم سواهما. ولنستعرض على سبيل المثال مفردات من الماغوط يمكن أن يستخدمها سواه، وهي كما سوف يتبيّن ليست مفردات يومية، ومع ذلك فهي مشحونة بطاقة شعرية، وتوتّر شعري... يقول الماغوط في مواضع مختلفة من أعماله الكاملة (اسمع وجيب لحمك العاري/ عشرون عاماً ونحن ندقّ أبوابك الصّلدة).(10).‏

(لي ضفيرة في مؤخّرة الرأس/ وأقراط لامعةٌ في أذنيَّ/ أعدو وراء القوافل/ وأسرج الجياد في الليالي الممطرة).(11).‏
(هذه شهوتي/ سأبعثرها بقدميّ/ وأتصرّف بفيضها/ كما يتصرّف المنتصر بأسلابه وأسراه).(12)....‏
نحن نؤكد هنا على مفردات (وجيب ـ الصّلدة ـ أقراط ـ أعدو ـ القوافل ـ أسرج ـ فيضها ـ أسلابه....). ألا يمكن أن يستخدم المفردات نفسها ـ شاعر مثل (الجواهريّ)؟ بل لو كان المجال هو للنّكاية لأتينا بأبيات له في كل بيتٍ مفردة من هذه المفردات. لكن هذه المفردات دخلت في نسيجٍ خاصّ، استُعملت استعمالاً خاصّاً بالماغوط، كما أن الجواهري استعملها استعماله الخاصّ به، ولدى الماغوط شحنت هذه المفردات (غير اليومية) بطاقةٍ شعرية، كما قد يشحن الجواهري مفرداته بطاقة شعرية.‏
(وأنا أتعمّد المقابلة مع الجواهري لأبيّن أنّ المفردات لا تصنع امتيازاً للقصيدة الشفوية)... وقد ترد المفردات ذاتها لدى الماغوط في سياق آخر، لا طاقة شعرية فيه، ولا توتّر شعريّ. إن للشِّعر كله وظيفتَهُ التي عليه أداؤها ليُسمّى شعراً، وهي أن يُعيد ترتيب اللّغة ترتيباً غير معروف مسبقاً، ولا خاضعاً للمنطق، وعلى الشعر أن ينظّف اللّغة من الاعتياديّة، أو المباشرة، سواء استخدم لفظة (فيضها)، أو (رصيف). و ما قد نراه في (القصيدة الشفويّة) من لغةٍ يوميّةٍ من مثل:

 ((هنا أسكن/ ما رأيك لو ترى/ ما ألصقتُهُ البارحة على زجاج نافذتي/ وستقدّم عمَّتي لنا/ كوبين كبيرين من اللّيمونادة المثلجة/ أهلاً وسهلاً/ أهلاً وسهلاً)) (13).‏ 

فهذا لا يدخل في باب المفردات اليوميّة مطلقاً، لأننا أمام كلام يصل في إسفافه درجة ممتازة، ليس لأنه استخدم مفردات يوميّة، فلو دقّقنا جيّداً لرأينا أنه باستثناء (اللّيمونادة) فليس هناك مفردات خاصّة باليوميّة، ولكن لأن العلاقات بين هذه المفردات هي علاقات شاحبة لا ذوق فيها. وبهذا تتحطّم شعرية هذه الشفويّة... ومن المؤكد أن الماغوط لا يقبل لشفاهه أن تنطق بمثل هذا الكلام... لكن أبناؤه يمتلكون جرأة غير عاديّة على إطلاق العنان لمواهبهم المعدومة، دون رادع...‏

وفي سياق الشّفويّة المزعومة، يتَّفق (محمد جمال باروت) و(يوسف حامد جابر) على الاستشهاد، كلّ في كتابه، بعادل محمود مثالاً على شفوية القصيدة النثرية. ويقتطع كلٌّ منهما مقطعاً من القصيدة نفسها (متاعب فوتوغرافيّ). وكأن مجموعة عادل محمود ضاقت بالأمثلة حتى ينحصر (يوسف حامد جابر) بالمثال نفسه، أي القصيدة نفسها، ونحن نلومه هو لصدور كتابه (قضايا الإبداع في قصيدة النثر) عام 1991، بعد أن كان (باروت) أصدر كتابه (الشعر يكتب اسمه) عام 1981، وقد تكون (القصيدة) عظيمةً إلى هذا الحدّ، ولكن ما الذي يبرّر أن ينسخ (يوسف جابر) رأي (باروت) بالقصيدة فيقول: ((إنَّ متاعب هذا الفنّان الذي ارتقى بفنِّهِ، فكانت لوحاته الجميلة المتوزِّعة في معارض هذا العالم، يتلقّفها المشاهد ويسعى إليها، إحدى ثمار هذا التعب، هي نفسها متاعب العامل والفلاح عندما يضيع عملهما في لجّة الحياة. وهي نفسها متاعب الإنسان، كل إنسان، يريد أن يرتقي بإنسانيته إلى الأفضل)) (14). ألا يشبه هذا كلام باروت عن النصّ نفسه: ((إن متاعب هؤلاء الناس، الذين التقطتهم عدسة (الفوتوغرافي) هي نفسها متاعب الفوتوغرافيّ. إن عادل محمود ينجح في تطوير الخاصّ إلى العامّ، وتكثيف العامّ في الخاصّ))، من (الشعر يكتب اسمه)؟ هل أصبح نقدُ القصيدة الشفوية، شفويَّاً هو الآخر، تتوارثه الألسنة؟ إن مثل هذا التّطابق بين آراء الكتابين ليس الوحيد هنا، بل هو مبثوثٌ بذكاءٍ في عدد من المرّات، بين ثنايا كتاب يوسف حامد جابر... ولكن ليس هذا من شأن هذا النقاش هنا، مكتفين بالمثال السّابق.‏
مرة أخرى، ما امتيازات القصيدة الشفويّة، رأينا أنها تشترك مع القصيدة غير الشفويّة، في مناطق عديدة، وعندما تختلف عن (قصيدة الرؤيا) فهي تختلف عنها في درجة الشعريّة من حيث الموقف الأبرز، لا في استخدام كلمات فقط. يبقى المهمّ إذاً، إمّا تحقُّقُ الشعرية أو غيابها... وعندما احتمت (قصيدة النثر) بالشفوية، سَمَحَتْ لنفسها أن تخسر كلمة (قصيدة) محافظةً على (النثر)، والرديء منه، لأنها أثبتت فشلها في إنجاز مهامّ الشعرية، فقامت بإلحاق السّبب بأنها شفوية وتستخدم المفردات اليومية.‏
وإذا أوغلنا في كتابة الماغوط، اكتشفنا أنها كتابة تحقّق الشعرية، لأسبابٍ لا تعود إلى الشّفويّة، بل تعود للموهبة والقدرة الفنية على صناعة نسيجٍ أدبيّ يمتع ويدهش ويمتلك أعماق القارئ. ولا تعني بساطة كتابات الماغوط تطابقاً مع الواقع، فلا واقع الماغوط بسيطٌ، ولا كتابتهُ بسيطة، بل إن نظرة الأبناء الخارجين على جمال الماغوط، هي وحدها النظرة البسيطة إلى حدّ التَّسطيح...‏





الأسبوع الأدبي –سوريا