Saturday, August 22, 2009

محمد الماغوط : الالفه اكبر من الصداقة والحب

حوار


حاورته في دمشق : عبلة الرويني

* ماذا تشرب في الصباح؟

الماغوط: أحب ان أشرب. لكن عندما مررت بتجربة الإدمان ووصلت الى حافة الموت كان لابد لي أن آكل، وان أضع الأكل في (البراد).

* من يصنع لك الطعام؟

الماغوط: آكل عندما يأتي الأصدقاء بالطعام

* تعاني الوحدة؟

الماغوط: ابدأ. أذهب إليها.. كم تمنيت ان لا يعرفني احد، وان لا اعرف احدا. لكن بعد زواج بناتي ومرضي صرت أخشي.. لا أخشي الموت ولكن أخاف مقدماته. العجز والمرض

* ومن أين تعيش حياتك؟

الماغوط: من راتبي بمديرية الثقافة وكتاباتي في(الوسط)

(مد يده ممسكا بالعدد الأخير من مجلة "الوسط")، وراح يقرأ بصوت مرتفع مقاله الاخير فيها..

أفتح جهاز التسجيل فينتفض مرة أخرى..

أقول: لماذا تفعل ذلك. أريد فقط ان احتفظ بصوتك يهدأ قليلا من حيث أعجبه التقدير


الذي يستحقه.

* يعجبك صوتك؟

الماغوط: أنا بدوي، جبلي أغني في اوركسترا الصحراء ويعجبني صوتي.

* ونحن ايضا.

* كيف تقرأ الآن؟

الماغوط: الآن لا اقرأ.. أوعلى الأقل اقرأ بصعوبة. أمامي كتاب منذ اكثر من 10 أيام، أفتحه كل يوم ولا اقرأ شيئا.

في فترة من الفترات قرأت كثيرا، خصوصا في السجن، كان زكريا وسنيه (يقصد زكريا


تامر وسنيه صالح) .. كانوا دائما يأتون إليٌ بكتب كثيرة. قرأت في احدى الحبسات 25 ألف صفحة ...الآن لا اقرأ لأني كسول وملول.

* أيضا لا تقرأ شعرك في الندوات العامة؟

: طوال عمري لا اقرأ شعري في ندوات أو أمسيات عامة. يمكن حدث هذا مرة أو مرتين على الاكثر.. ويحدث بسرعة شديدة لأني أريد ان أخلص وأنتهي.

* ضيق حتى في شعرك؟

: ليس لدي خلق لأبحث عن (قافيه (و (بيت). يمكن كتبت قصيدتي من باب ضيق


الخلق.. لأني ضقت) بالوزن)) والعمود) (والقافية).

* مزاجك سوداوي؟


دائما.. أنا صاحب مزاج سوداوي لأني من مدينة هدمت 100 مرة..

)السلمية) معقل القرامطة حتى المتنبي.

* أظن ان تجربة السجن أيضا تركت بصماتها بوضوح؟

: فكرة السجن أكثر من مرعبة...

اتحدي أي إنسان، يدخل السجن ولو يوما واحدا. وينساه نحن جيل دشا فينا الإرهاب


السياسي.

* كم مرة سجنت؟

كثيرا.. في المرة الأولي أيام مقتل عدنان المالكي واتهام القوميين السوريين


.


* تكوينك يتناقض وفكرة الانضمام للأحزاب. فكيف كانت تجربتك الحزبية؟

: تجربة مضحكة.. كان عمري 13 عاما.. وبرد ومطر في (السلمية(، قالوا ان هناك أحزابا جديدة قادمة الى البلدة.. سألت ما هي المواصفات؟ قالوا حزب (البعث) بعيد عن بيتنا وليس لديه صوبا (مدفأة ) بينما الحزب القومي السوري كان قريبا ويمتلك (صوبا).

* بسبب صوبا

: هذا ما حدث

* تكتب بشجاعة.. تشعر ان اسمك يحميك؟

: أبدا تلك طبيعتي. فأنا لا أعرف الكذب ولا أخشى شيئا. ثم ان عندي نوعا من الخيال وخبرة 50 عاما تجعلني اكتب ما أريد.

* تعرف لمن تكتب.. أقصد تعرف جمهورك؟

: عندما اكتب الغي ذاكرتي نهائيا.. مش مشغول بيمين أو شمال. لكن غالبية جمهوري من الطلاب والموظفين والطبقة الكادحة.

)علق ممدوح عدوان ضاحكا يعني شيوعي مش قومي سوري).

* كيف تعرفت علي نفسك شاعرا؟

: لم أتعرف لكن من استمع الى شعري قال: لابد ان ينشر.. نشرت واناعم يورطوني بقولهم شاعر..

أول من التفت الى شعري كان نزار قباني وزكريا تامر وسعيد الجزائري في مجلة (النقاد).

* بالخمسينات؟

نعم.. كنت مجندا ولابس ) شورت( عندما رأيت نزار قباني أول مرة.. قال لي: 'اللي بتعملوه شيء حلو'

* هذا أسعدك؟

: جدا.. لكن أكثر من أثر في كان) سليمان عواد( شاعر مات بالسبعينات.

* وزكريا تامر.. هناك ارتباط عميق بينكما..

قاطعني: بدأنا بالخمسينات 56، 57 أيام كان المعلمون في الساحة الثقافية علي الجندي، وشوقي بغدادي وسعيد حورانيه. لكنهم كانوا جميعا محشوين بالايدولوجيا.


واحد منهم قال لي: (من هذا الفلاح القادم من أعماق الريف ليعطيني دروسا في الشعر (.. وكان التعليق مليئا بالسخرية وليس بالاعتراف.


* **

علي غلاف الصفحة الأخيرة من رواية زكريا تامر (النمور في اليوم العاشر ( الصادرة 1978 كتب محمد الماغوط:

(بدأ زكريا تامر حدادا شرسا في معمل وعندما انطلق من حي (البحصه) في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتبا، لم يتخل عن مهنته الأصلية، بل بقي حدادا وشرسا ولكن في وطن من الفخار.. لم يترك فيه شيئا قائما إلا وحطمه، ولم يقف في وجهه شيئ سوي القبور والسجون لأنها بحماية جيده.


عندما يأتي القارئ الى نهاية هذا الكتاب العجيب يشعر انه محاصر كالقلم في مبراة، وانه عار من كل شيء في أقسي صقيع عرفه القدر ولا يملك شيئا سوي راحتيه يستر بها وسطه وهو في وقفته الطله والمخجلة تلك على رصيف المئة مليون أو أشيه، لا ينقصه إلا إطار في قاعة محاضرات وبحاثه في علم بقاء الأنواع يشير إليه بطرف عصاه أمام طلابه ويقول: قد كنا ندرس يا أولادي من قبل كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة الى إنسان، وألان سندس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان الى قرد ، وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون(

* منذ البداية ماذا كان مشروعك.. بماذا كنت تحلم؟

: لم يكن لدي مشروع ثقافي. لم يكن لدي نظرية ولا حلم أريد تحقيقه.. لم احلم يوما ان أكون مثل شوقي أو حافظ إبراهيم..

أنا فقط أخربط. ولا أسمي ما اكتبه

* البعض رأي أن قصيدة النثر ذات مرجعيه غربية فرنسية تحديدا.. بينما البعض الآخر


يبحث عن امتداداتها في التراث..؟

: لا تسأليني نظريات

لا أريد أسئلة وإجابات. انا لست مثقفا وشهاداتي متوسطة زراعية.. ولا أعرف لغات وبهذا اعتبر ان الله رحمني من كل هذا العبء.


* **

في مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط كتبت سنيه صالح:

'أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي، وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر'

* **

* في مقدمة ديوان (لن) كتب أنسي الحاج بيانه النظري لقصيدة النثر..أين كان بيانك ؟

: انسي كان واضحا في مشروعه

أنا كل ما كان يشغلني دائما هو (البراد( والأكل.. بينما كل من حولي يتكلمون عن(ازرا باوند) (والشعر) (والنظرية)..


التنظير عمره ما كان يهمني ولا الكلام.


أنسي أيضا كان قليل الكلام في اجتماعات (مجلة شعر) كنا أكثر الناس صمتا.. كنا تلاميذ أمام الأساتذة الكبار يوسف الخال وأدونيس.

* ولا يزالون أساتذة؟

: لا

لكن يوسف الخال مختلف عن أدونيس . إنسان، غني داخليا. فكر وعلم وثقافة مرة كنت اعلمه 'التسكع' وهو الأرستقراطي 'اللورد' قلت له حل عن السيارة، إذا كنت شاعرا فلابد ان تتسكع.


قرأ لي قصيدة في بيروت فطلب من أدونيس ان يتعرف عليٌ أو طلب مني قصيدة..


قلت له: بكره وكتبت له في نفس الليلة) الحزن في ضوء القمر(.

* يا سلام!

: أعطاني 75 ليره وقال لي لا تفعل أي شيء إلا الشعر..

وكتب عني:

(كلنا كنا نحلم بالشعر لكن الوحيد الذي جاء إلينا كآلهة اليونان هو الماغوط(

* لديك حساسية مفرطة في استخدام اللغة..

بالفعل عندي حساسية بتجاور الالفاظ جنبا الى جنب في إيقاع معين. في ذاكرتي جرس ( يرن) لو كان هناك خطأ لكن طوال عمري مشكلتي ليس فيما أريد ان اكتبه ولكن في كيف اكتبه.

* الصورة هي العنصر الأقوي بقصيدتك؟

: لان) المكسح) قوته في يديه والأعمي قوته في سمعه. كانت قوتي هي الصورة


. لأني لست مثقفا.

لجأت الى (الصورة) الى الشيء البصري وليس إلي الشيء الفكري لاني أفتقد الثقافة..


يمكن لو درست وتثقفت كنت اكتب مثل أدونيس.

* تعجبك قصيدة أدونيس؟

: لا أحب القصيدة الفكرية. لو عندي فكرة اكتبها في مقال.


أدونيس يكتب أفكارا، كل شعره فكر. وهو منذ البداية يعرف الى أين يذهب وكيف يسير.. منظم، مرتب.


شعره القديم أحبه لأنه كان فيه معاناة إما شعره الحالي فلا افهمه


تدخل ممدوح عدوان ليسأله: أدونيس يراك رومانسيا.


شو ما أحلاها!!

* شباب الشعراء حتى المستندين فيهم على قصيدتك يرونك الآن تقليديا..


حداثتك شكلية بينما بنية القصيدة، اللغة، الموسيقىى، العاطفة، الصورة.. جميعها تنتمي الى القصيدة التقليدية.. هذا رأي البعض منهم؟!

: هذا لا يغضبني

وأنا لا أريد إغضابك.. فقط دفعك للكلام ؟

وأنا لا أريد أسئلة !

* عندما تظهر أجيال جديدة من الشعراء هل تشعر بالزمن؟

: الزمن لا أفكر فيه على الإطلاق إلا بعد زواج بناتي ومرضي

* اقصد علي المستوى الثقافي؟

يجوز ان هناك شعراء جددا. لكني لا اعرفهم لأني لم أعد أقرأ.

* تضيق لو سألناك عن سنيه صالح؟

: لا لكني لا اعرف ان أتكلم عمن أحبهم. يمكن من اكرههم أستطيع.


أحيانا أرى نفسي بري. لكن الشخص إذا كان (جباناً ( ربما استوعبه، وإذا كان (كاذبا) أو (لئيما) أو (بخيلا) ايضا استوعبه واحتمله لكن إذا لم أعد احترمه لا أتعامل معه على الإطلاق.

* في حياتكما هل كنتما متفقين؟

: في حياتي لم اتفق معها على رأي أبدا.. لكن هناك نوع من الالفه اكبر من الصداقة والحب.


نحن من عالمين مختلفين تماما.. عالمها رومانسي حالم روحاني، صوفي، صادق.بينما كل شيء عندي الوحل والأرصفة والشوارع والبول والسواد والقسوة.


كان سعيد عقل يغضب من رائحة البول في القصيدة قلت له: حتى البول والبراز كلمة شاعرية لكن المهم كيف تستخدمها قال: معك حق.

* كيف تعرفت بسنيه؟

في بيت أدونيس في بيروت..

كنت أتناول (الغداء) عند خالدة سعيد (أخت سنيه) وكنت ناشر قصيدة جديدة أعجبت سنيه التي كانت تراني للمرة الأولي.

* كان ذلك بالستينات؟

: نعم وكنت أشتغل


(بالرأي العام) بعد ذلك أرسلت خالدة أختها سنية حتى أقدم أوراقها الى الجامعة بدمشق وتوسطت غادة السمان حيث كان يعمل أبوها بالجامعة.. وسارت العلاقة وتزوجنا.

* شعريا كيف تراها؟

قوة مهوله..


لو قرأت ديوانها (ذكر الورد) نجد شاعرة كبيرة.. بل هي اكبر شاعرة عربية . لا نازك ولا غادة السمان ولا أي واحدة علي الإطلاق.

* ولماذا لم تحقق شهرة؟


أقصد لم يتم تقييمها نقديا بما يليق بمكانتها؟

: يمكن اسمي طغي عليها!

كان رأيها جوهريا.. فإذا كتبت شيئا وترددت أمامه ولو لحظة. كنت أمزقه أو أعيد كتابته من جديد. أيضا كانت الوحيدة التي كان أدونيس يخشى رأيها.

* أخرى تحبها. سعاد حسني..

التي فجرت يوما لك أزمة عندما نشر ت إحدى الصحف على لسانك أنه لا يوجد في مصر سوى سعاد حسني


كنت أتكلم تحديدا عن السينما.. لكن الجرائد تفعل ما تريد

* تعاني الآن هي ايضا من الاكتئاب. وحيدة في لندن؟

شيء مؤسف.. هي التي منحتنا كل الفرح


كنا في القاهرة أيام فيلم (التقرير( دعانا يوسف إدريس فجاءت جلستي الى جوار سعاد حسني. يومها قال لي حسين فهمي أني أحسدك لقد مثلت معها أجمل الأفلام ورغم ذلك لم تجلس بجانبي.

بعدها كنت معزوما عند شريهان ورأيت سعاد في نفس اليوم ودعتني الى سهرة فاعتذرت لارتباطي بالموعد السابق قال لي صديق: حد في الدنيا تدعوه سعاد حسني ويروح لشرهان.

* فعلا عنده حق

* **

في الثامنة صباحاً رحت أفتش عن الماغوط في مقهى الشام بوسط المدينة أعتاد منذ زمان ان يتناول قهوته ويقرأ جرائد الصباح كل يوم من الثامنة الى التاسعة قبل ان يبدأ رواد المقهى (خاصة المثقفين منهم) في الحضور وإزعاجه.

* صباح الخير يا أستاذ محمد

استيقظت مبكرا لأبدأ صباحي بك.


صباح الخير. اجلسي


أرجو إلا يكون في كلامي أية اساءة الى سعاد حسني. لأني أحبها

* ومن الذي لا يحبها. اطمئن

* مبروك كتابك الجديد..

لكن لماذا غيرت عنوانه من) شرق عدن غرب الله) الى (سياف الزهور)؟

: أنا لم أغير شيئا لكن ماحدا كان يقدر ينشر العنوان الأول

* تقبل تدخل الرقيب في شعرك؟

: عنوان الكتاب ممكن. هذا حق الناشر لكن القصيدة لا.

.................


صدور كتاب الماغوط حدث مهيب.. ومن قبل كان صدور الأعمال الكاملة حدثا أكثر مهابة وإرهاقا.. يكتب ممدوح عدوان:


"ان صدور مجموعته الكاملة حدث مهيب، وإرهاق سادي إذ من سيطيق ان يغامر بقراءة عذابات الماغوط دفعة واحدة؟!


كم تستغرق منك قراءة. المجموعة الكاملة؟ يوما؟ شهرا؟ سنة؟ تصور انك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمه كاملة.. وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال خمسين عاما حتى نخخت قلبه وجسده..


اقرأ دفعة واحدة ان رغبتي، ولكن احذر القرحة .. والرقابة'.

*********


محمد الماغوط شاعر يتألم كالماء حول السفينة

حوار



حوار أجراه : أكرم قطريب
وشاكر الأنباري
وعادل محمود

صدرت أعمال الماغوط عن "دار المدى" في دمشق، من دون أن تلقى اهتماماً عميقاً، واسعاً في الصحافة الثقافية، تمجيد قراءة شاعر يتمتع بخاصيته اللغوية. منذ ذلك الحين، يحاول كثرة من أصدقائنا الشعراء والصحافيين "أسر" هذا النسر البدوي. فبعد مقابلة صحافية في الأمس القريب، استطاع زميلنا محمد علي الأتاسي أن يسرق "من الماغوط جولة هي عبارة على أسئلة، بل خلاصة أكثر من ( 11 9 العثمعي) الشعراء، دمشق، بيروت، السجون، الحرية وهلم جرآ. وكان زهونا الشعري.

أكرم قطريب وشاكر الأنباري وعادل محمود (!كون خيه) أكثر منها قراءة نقدية لشعرية الماغوط وتجربته، مضافة الى صور نادرة أمدنا بها الصديق محي الدين نصرة، فضلا عن نحاول أن نكون ملفا، بقدر ما نذكر أنفسنا، أصدقاءنا، قراءنا بشاعر يدمن الجوع، الأوجاع، يتألم كالماء حول السفينة.

"ملحق النهار"

أنا لا أكره أحدا، لا أحب أحداً لم أكره، لم أحب في حياتي سوى الشعراء.
ليس هناك في الكراهية أنواع، كما ليس في الشر أنواع. ليس هناك أسهل من الاحتيال على. عندما ا يبكي أحدهم أمامي، أصدقه فورا... أنا لا أجدد في صداقاتي او في عداواتي. الأعداء يأتون بأنفسهم، بشكل عفوي. أصدقائي منذ أيام السجن لا يزالون أصدقائي. اشعر بحنين الى أصدقائي القدامى في بيروت. أنا لا أكره أدونيس. ان أدونيس مجلة "شعر" ليس أدونيس اليوم.، ( رغم ان أدونيس هو من قدمني لمجلة

"شعر"، لكنه لم يكن يدرك من يقدم. أدونيس يريد من حوله مريدين لا أندادا. خالدة سعيد كانت أهم امرأة في سوريا، في النضال، في الكتابة، لكنه غطى عليها. كانت يجب أن تكون أهم من ناقدة: روائية او مسرحية أنا أحب أنسي، لا أفصل في علاقتي مع الشعراء بين الإنسان و شعره. أنسي قريب من الذي يكتبه، وهو يشبه شعره. لم أره مند سنوات. زمن بعيد. مشتاق إليه. أجمل مقابلة لي، أجراها أنسي، نشرها في "الملحق". كنا في دمشق برفقة فيروز، تمشينا في الطريق، لم يسجل شيء!، كتبها من ذاكرته. لم أعد للعيش في بيروت بعد إلغاء أمر إبعادي عنها في بداية السبعينات، بقيت في الشام. هنا أشعر نفسي أقوى، لأنني أكتب، أنتقد من داخل بلدي أحن الى الشام التي عرفتها، لا الى شام السلطة. كتبت مرة: كل ما أريده من مدينتي الحديثة، هو أرصفتها القديمة. أغلق مقهى أبوشفيق في مدخل دمشق. لم تعد قدماي تسمحان لي بالمشي الطويل. أحن آ الى المشي كما أحن الى مقهى أبو شفيق. ثلاثون سنة من عمري، أنا أمشي كل صباح الى هذا المقهى، أكتب فيه. الشام تحب دائما الغريب.

نعم أشعر بنفسي غريباً في الشام. الشام لا تحب أحدا. كتبت عن المرة: المدينة التي أعطيتها صدري أربعين عاما، لا أجرؤ أن أعطيها ظهري ثانية واحدة. حتى في السلمية أشعر بنفسي غريبا، فالناس تبدلت أكثر من تبدل الأمكنة. كل القضايا الكبرى انتصرت عليها، وهزمتني القضايا الصغرى كتسديد فاتورة الكهرباء. علاقتي بالشام قضية كبرى.، أنا أثبت وجودي. الشام مثل البنت التي أحببتها في صغري ورأيتها بعد خمسين عاما. أصبحت مرعبة. فجري كان في لبنان، غروبي في دمشق.

أحن كثيرا الى بيروت الخمسينات، بيروت- صور السياسيين في كل مكان، ليست بيروت التي أعرفها. بيروت السابقة لن تعود قطعا. دورها انتهى، لأنه كان مؤثرا على إسرائيل وهذا ممنوع.

رجلاي تؤلمانني جدا، لم اعد قادرا على المشي. وأنا أحب بيروت لأمشي في شوارعها لا لأركب التاكسي. ا حدود بيروت التي أعرفها هي شارع الحمراء شارع بلس والروشة. مركز المدينة الحالي: أنا أكره المال ورأس المال. في الحمراء كان هناك مقهى واحد على الزاوية أسمه النغرسكو، نجلس فيه أنا، ليلى بعلبكي، و دائما كان هناك عتمة. شارع الحمراء كان بالنسبة لي أجمل من الشانزليزيه، لكنه الآن صار مثل شارع الشانزليزيه: كله عرب. كانت أجمل السهرات في بيروت تلك السهرة التي جمعتنا بفيروز، الرحابنة ويوسف الخال، نازك الملائكة، وكان يومها، أنا صديق للرحابنة وفيروز. في بداية الستينات أجبرت على مغادرة بيروت، وبقيت عشر سنين مبعدا. كانت فترة مرة في حياتي، لليوم أرى بيروت في منامي. أحلم أنني دائما بعيد عن مكان إقامتي. لكن لا اعرف ما هو مكان إقامتي: بيروت... الشام. أرى أحياء وأرى نفسي بعيدا عن بيتي، ضائعا، أحاول أن أصل إليه، لا أستطيع. بعيد. بضائع ومستنقعات وأنهر وسلالم وقطط وكلاب وشرطة، وأنا حفيان. دائما حفيان. بيروت لم تنتزع الشام من قلبي. ان جيلي غير جيلك، أنت من جيل الشعارات، صعب عليك أن تفهم. أكره جو الأدباء، المثقفين،، أكره جلساتهم ، نقاشاتهم،، أحاول دائما أن أبقى بعيدا عنهم. أيام مجلة "شعر" كنت أكثر الموجودين صمتا، لم أوقع في عمري، لن أوقع أي بيان، او عريضة. عندي رأي أكتبه باسمي الصريح.

غالبا ما يكون موقعو هذه البيانات، ثلاثة أرباعهم ملغومون، الربع الباقي مرشح في مرحلة الاختبار. في داخلي رقيب ذاتي، لكن أصبح عندي حرفة وأستطيع ان أتحايل عليه. الجمال يقتل الرقيب. أنت قوي، لا أستطيع عليك، أحاول كرسام الكاريكاتور أن أجد لك عقب أخيل. صحيح ان مسرحياتي أضحكت السلطة، لكن هذا لا يعني شيءاً ما دام المعيار هو شعبيتها لدى الناس كافة. حتى الجلاد عندما يجلد، يرتاع قليلا، يقرفص، يدخن سيكارة. حاولت ان اعمل بعد ذلك في المسرح مع الجيل الجديد، لكنهم سرقوني، سرقوا ثيابي، سرقوا الغلة. مستحيل ان اكتب زاوية دون ذكر الحرية او السجون. إما لماذا لا أذكر أسماء السجون والسجناء، فلأنه ممنوع ان تذكر. يجب ان تعمم، هذه خبرة. أنا أحيانا لا أجرؤ على ذكر اسم الشام. أنا مسكون بالذعر، أي شيء يخيفني. الصديق يخيفني، الجار يخيفني، فاتورة الكهرباء تخيفني. أين سأذهب، كيف سأدفعها. أنا محمد الماغوط أينما كنت، في الشام، في بيروت، في الحمراء، في أبو رمانة، في الشانزليزيه، في السجن، في المرحاض. أنا أنا محمد الماغوط. أنا الوحيد الذي لم يتغير، لا يتقولب. كبرت وصرت على أبواب السبعين: مرض، غم، حياة، وأنا أنا.
إذا كان هناك بعض الناس التي لا تزال تكن لي الاحترام، فلأنني لم أبدل من موقف الى آخر، من اليمين الى اليسار، من الشرق الى الغرب. نعم تكفلت الدولة علاجي عندما مرضت. لم اشعر بالحرج، أحسست أنه لا يزال هناك خير في البلد. أنا اسم أدبي، هم يهتمون بالأسماء الأدبية. أنا لا أباع ولا أشترى، منذ الخمسينات الجميع يعرف ذلك بدءا من اصفر ضابط مخابرات. أنا أتنازل عن مليون شيء، لكن لا أتنازل عن قلمي. لا مال، لا سلطة، لا امرأة تعوضني عن الكلمة. كلما تقدم الانسان في العمر تصير المسؤولية اكبر في الحفاظ على المكانة التي وصل اليها. الصعود صعب، لكن السقوط، لا أسهل، خير مثال هو دريد لحام.
عندي حنين الى فكرة القومية السورية، هي أصفى فكرة على الإطلاق، من اجل ذلك قتلوا أنطون سعادة هذا القتل المبكر. الانتماءات لا تشغلني،، ما في بطاقتي لا يعني
بالنسبة لي شيئآ، على عكس ما في دفاتري. لست فخورا بكوني عربيا، ولا حتى بكوني سوريا. أنا لست لمنطقة، سخرت من البترول مليون مرة. اليوم هو زمنهم، مرحلتهم. إنهم يمسكون الوطن العربي من رقبته، من معدته، يمنعون عنه الحراك. إننا نعيش في مرحلة انحطاط، الآن هو العصر الذهبي لما سيأتي بعد. كتاباتي في "الوسط" مزحة سوداء، قاتمة بشكل مرعب، سخريتي تقطر مرارة. أنا في طبعي لست سياسيا، عندي هموم اكبر من السياسة. عرضوا علي العمل في "الوسط" قلت لهم سأكتب. لو لم يكن عندي شيء لأقوله ما كنت كتبت. أنا لا أكتب من اجل الفلوس. كنت أريد أن أضع عنوانا لكتابي الجديد: "شرق عدن، غرب الله"، لكن الصحف رفضت نشر العنوان، فوضعت عنوان "سياف الزهور". كلما سافرت الى اوروبا، اذهب وأنا عم أشتم، أعود، أنا عم أشتم. لا أطيق أن أبقى هناك، فالتدخين ممنوع في كل مكان، في الطائرة، في المقهى، في الفراش. في سجن المزة كنت أدخن بسهولة، حرية اكبر من اوروبا. أكره أميركا بشدة. في حرب البلقان وقفت الى جانب يوغوسلافيا،، صادف وجودي في فيينا خلال تلك الفترة ورأيت مظاهرات بالأحمر و بالأزرق،، بالاخضر في كل مكان. أردت أن أتظاهر ضد أميركا، رفعت عكازي ملوحا، دخلت إحدى المظاهرات، فاستوقفني بعض الأصدقاء، قالوا لي: وين رايح، هذه مظاهرة تأييد لأميركا.
لا أخرج في مظاهرات في بلدي، لان كل شيئ هنا مرتب. أنا أكره الترتيب، حتى الرجل الأنيق أكرهه. وطني هو دفتري، وأنا أتظاهر في دفتري فقط. إذا صار في بلادنا مظاهرات غير مرتبة، يومها

سنحن لتلك المرتبة. الناس فارغة،، ليس هناك من شيء. الرأسمال يحرك العالم. أنه زمن أميركا، زمن قضي فيه على كل شيء جميل. زرت روسيا، أحببت شعبها. شعب سوداوي يحب الشرب. لكن أين هو ذلك الزمن الذي كنت تجد فيه في كل أنحاء روسيا عند الساعة السادسة صباحا الخبز والبيض والحليب؟ أين طغاة ذلك الزمن، أين ستالين من طغاة اليوم، ب!دلتهم؟ ا
الذي فتحني على الحياة وصنع مني شاعرا هو سجن المزة. عندما دخلته أحسست ان شيئا في أعماقي تحطم، الى اليوم لا أزال أحاول أن أرممه. كنت أريد الدراسة في الكلية الزراعية، لكن بعد السجن أدركت ان اتجاه حياتي تغير. أمضيت فيه 9 شهور في العام 1955. 3 شهور في العام 1961. أنا وأدونيس دشن فينا عصر الإرهاب كنا في زنزانتين منفصلتين، كنت أراه من بعيد. ألفت بعض المسرحيات في السجن، مثلتها بمشاركة بعض المسجونين. لم أكن قابضا الحزب القومي السوري، ولم أصمد من اجله، ولكن لان طبعي عنيد. كنت أول من يبكي ويصرخ أثناء التحقيق. أنا إنسان مذعور لا أخاف السجن فقط، ولكن أشمئز منه وأحتقره.

أريد أن ألغي المسافة بين هذه التصنيفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عندي نصوص. إذا قلت عني لست بشاعر، لن أزعل، لن تهتز بي شعرة. الموسيقى في أشعاري موجودة ضمن النص. علاقة الكلمات بعضها ببعض في النص مثل علاقة الأخ بأخته، هما نائمان على فراشى واحد، أي حركة منه او منها لها تفسير. علاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، في القصيدة يجب أن لا يكون هناك أي إشارة خاطئة من هذا النوع.، هذه هي الموسيقى. كل كلمة في اللغة العربية هي كلمة شعرية، حتى الجيفة، حتى البراز، المهم ان تعرف كيف تضعها في النص. المهم ان أكون صادقا، أن يكون ما أكتبه جميلا. كل قطعة أكتبها، أبيضها عشرات المرات قبل النشر مدققا في كل حرف. أحيانا أبقى يومين اسأل نفسي أيهما أفضل وأقوى وأصح في هذه الجملة.
أحب واو العطف، لكني أحب كاف التشبيه أكثر، خصوصا في المقالة. منذ أيام بيروت جعلت من صور كاف التشبيه مرآوية على عكس المتعارف عليه: كامرأتين دافئتين كليلة طويلة على صدر أنثى أنت ياوطني. عدم معرفتي باللغات الأجنبية أراحني من الثقافة.
تعرفت على سنية لأول مرة عند أدونيس، خالدة في بيروت. هي الحب الوحيد. نقيض الارهاب، نقيض الكراهية. عاشت معي الفترة الصعبة.، أحملها في داخلي دائما. عاطفتي شموس، هي ليست مطواعة. كل ما أكتبه فيه شييء من السلمية، فيه شييء من الشام، فيه شييء من بيروت، فيه شييء من سنية. سنية أكبر من مدينة، إنها كون. بعد موتها صار حبها يشبه حب السلمية، ثمرة عشر سنين، لا تراها لكنك تظل تتذكرها. يستحيل أن يمضي يوم دون أن أذكر السلمية أو أذكر بيروت.
سنية شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. أنا أذيتها، اسمي طغى عليها، وهذا الذي لا يزال يؤلمني جدا. بعد موتها قررت أن لا أتزوج ثانية. فهى قدمت لي أجمل ابنتين في العالم: شام وسلافة. أن الحب لم يكن ابدآ مشكلة بالنسبة لي، الحرية هي هاجسي الأوحد. كل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفىء، هي وحدها السماء. كانت حياتنا جميلة، لكننا كنا دائما على خلاف. لم نتفق مرة على رأي. نسهر الى الصباح، نبقى مختلفين. جلست بقربها، هي على فراش الموت أقتلى قدميها المثقوبتين من كثرة الابر، فقالت لي عبارة لن أنساها: أنت أنبل إنسان في العالم. لا أحب الغيبيات. تسألني إذا كنت سأراها بعد الموت، كيف هذا وأنا في حياتنا المشتركة لم أكن أراها كما يجب.

لم أزر قبرها في مقبرة "الست زينب" إلا مرة واحدة. خالدة سعيد قالت للبنات عندما سألوها لماذا لا نذهب لزيارة قبر ماما: ماما فيكم، أنتم لجه ماما. أنا عاطفي جدا. كلمة، احدة في حوار، أغنية جميله قد تبكيني. لكن عشرين جنازة لا تحرك في شيئآ. أشعر أن جسدي في غروب. أكره الشيخوخة، أكره جسدي. إنه حقير، تافه. عندي الكثير لأعطيه لكن جسدي لا يلبيني، أما العقل فصاف. لم يعد هناك من علاقة حميمية بين جسدي و عقلي. لم أراع جسدي، كل ما يمكن أن يمارسه الشاب شط من سكر، جنس، عربدة مارسته باكرا، بغزارة، ها هو جسدي ينتقم مني رويدا رويدا. يدي التي أكتب بها القصائد، قد يمر شهران دون أن أتنبه لاستطالة أظافرها، أو لورم فيها. الويسكي كالشاعر، لا هوية له ولا وطن. زجاجة الويسكي حبيبتي. أدخن منذ كان عمري سبع سنوات. كنت أدخن في البداية أعقاب السكائر الملقاة على الطرق. السيكارة قاتلة بالنسبة لي بسبب مرض نقص التروية، لكنني لا أستطيع مفارقتها. استيقظ في الليل من اجل أن أدخن سيكارة.
أتعاطف مع الشيعة لان عندهم اجتهادا في الدين. أحب الله، أخاف منه، لكنني لا أحب أن أتكلم في الغيبيات. أخاف الموت أحيانا، أو بالأحرى أخاف ما يسبق الموت... المرض، أن لا أستطيع!المشي او الجلوس. لم اذهب الى السلمية منذ 13 عاما. قد أعود إذا مرضت كثيرا، تعبت. مكان الدفن، شكليات الموت لا تعني لى شيئآ، كذلك هي شكليات الحياة. كتبت على قبر سنية "هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم"، لأميز قبرها عن الآخرين. وكيف سنميز قبرك، شاعرنا الكبير، ! محمد الماغوط؟
شخوا عليه.

Wednesday, August 5, 2009

كهرباء محمد الماغوط تسري في الشعر الجديد

محمد علي شمس الدين


(لبنان)

المختارات التي صدرت أخيراً للشاعر محمد الماغوط ضمن إطار (كتاب في جريدة) أعادت فتح السجال حول شاعر (حزن في ضوء القمر) وحول قصيدة النثر التي كتبها على طريقته الخاصة‚ وفي الوقت نفسه صدرت في دمشق مختارات مما كتب عن الماغوط عربياً‚ ماذا عن محمد الماغوط وقصيدته الرائدة؟ لم يبدأ محمد الماغوط بنشر قصائده في مجلة شعر‚ إلا ابتداءً من السنة الثانية لصدورها في يناير 1958‚ في العدد الخامس‚ فهو نشر في هذا العدد قصيدته (حزن في ضوء القمر)‚ وفيها يظهر‚ وللمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي القديم والحديث معاً‚ وكأنه قائد مركب متشرّد في تيّار وحشي‚ في مغامرة غير مسبوقة في الكتابة‚ يدخلها الماغوط بلا اعتداد نظري أو تنظيري‚ وبسلاح وحيد هو نصّه العاري‚ يقول الماغوط في تلك القصيدة: إني ألمح آثار أقدامٍ على قلبي‚ ويقول في قصيدة (الخطوات الذهبية): آه كم أودّ أن أكون عبداً حقيقيّاً/ بلا حُبّ ولا مال ولا وطن‚ وفي العدد الثاني من العام الثاني لمجلة (شعر) (ربيع 1958) ينشر الماغوط قصيدته (القتل) وفيها يقول: ‚‚‚ ضع قدمك الحجريّة على قلبي يا سيدي/ الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان‚ نجد أنفسنا في نصوص الماغوط أمام كهرباء تهزّ الكيان بكامله وهي جديدة‚ كاسرة (وإن مكسورة)‚ غير طالعة من مناطق ثقافية أو قراءات سابقة‚ بل منبثقة مثل نبع مفاجئ في دَغَل‚‚‚ وتحمل في أحشائها موسيقاها البكر العظيمة‚ لذلك لا يمكن أن يكون تجاهها سؤال: أين الوزن والقافية؟ لم يستطع أحد أن يطرح على الماغوط أسئلة حول شعريّة نصوصه‚ فهي قصائد بقوتها الداخلية‚ كما أنّ قراءتها لا تذكرنا بنصوص أخرى مشابهة في الشعر الغربي (الفرنسي أو الأميركي/ الإنجليزي) أو في الشعر العربي ‚‚‚ ولا ريب في إنها تكوّنت في سويداء صاحبها من تجربة حياتيّة قاسية‚ مباشرة‚ وفي أماكن ما قبل اللغة‚ قائمة في رعونة التجربة‚ ومتكوّنة في الدم والطمث والوحل ذاته للحياة‚ فانبثقت من هناك كما تنبثق زهرة من الوحل أو الصخر‚ والحليب من دم وطمث الحيوان‚ من هنا أسّس الماغوط لقصيدة النثر العربية‚ ولم يكن يرغب في ذلك نظرياً وثقافيّاً‚‚‚ إذ على نصوصه ستنبني بعد ذلك النظرية‚ كان هو شاعراً بكراً ابن تجربة حياتية بكر‚ هذا مجده‚ نعم: ضَعْ قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي/ الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان‚ وفي البحث عن الغرفة السوداء (السرية) التي تكوّنت فيها نصوص الماغوط‚ نفترض أنه لا بدّ من أن يكون هذا الجميل‚ الطفل‚ قد انجرح في جماله وفي أصل براءته‚‚‚ لا بُدّ من أن تكون إهانة رعناء قد ضربت قلبه بوحشية‚‚‚ إذْ ما الذي يدفع إنسانا للقول: ضع قدمك الحجريّة على قلبي يا سيّدي‚‚‚ سوى العنف الأرعن؟ وحين تضرب الجريمة باب القفص فهي وحش يضرب قفص طائر‚ ثم حين يصدح الخوف كالكروان‚ فأي رعب يشلّ الكائن? أيسدّ أذنيه أم روحه؟ افترضنا ذلك قبل أن يسلمنا الماغوط بعض مفاتيح تجربته‚ على قلّة ما يتكلم به أو يبوح‚‚‚ على قلّة ما يشرح‚ نعرف أنه تعرّض وهو في أوّل صحوة الشباب‚ للسجن‚ حدث ذلك في العام 1955ولم يكن مؤهّلاً حينذاك‚ نفسياً أو جسديّاً لما تعرّض له من هوان وذلّ‚ يقول: (بدلاً من أن أرى السماء‚ رأيت الحذاء‚ حذاء عبدالحميد السرّاج (رئيس المباحث)‚‚‚ نعم رأيت مستقبلي على نعل الشرطي‚ والآن حين أتذكر حفلات التعذيب وأنا في التاسعة عشرة من عمري أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟ولم أجد إجابة شافية عن هذا السؤال‚ كنت وقتها مجرّد فلاح بسيط لا يعرف من العالم إلاّ حدود قريته فقط كمعرفة الرضيع للحياة ‚‚‚ ولعلّ من فضائل عبدالحميد السرّاج عليّ أنني تعلمت أشياء كثيرة في السجن‚ تعلمت كيف أقول (آه) وذقت طعم العذاب‚ والمثير أنني أنا الذي لم أكمل تعليمي‚ تعلمت كثيراً من السجن والسوط الذي بيد السجّان‚ السجن والسوط كانا معلمي الأوّل‚‚‚ وجامعة العذاب الأبديّة التي تخرّجت منها إنسانا معذّباً‚ خائفاً إلى الأبد) (من حوار معه أجراه خليل صويلح)‚ يضيف الماغوط في الحوار نفسه‚ أنه فرّ من (سجن المزّة) الى بيروت‚ حيث التقى رفاقه في مجلّة (شعر)‚ ويضيف أيضاً كلمتين عن الكتابة (كتبتُ لأنجو)‚ قَدَمُ الشرطي هي التي شكلّت لدى الماغوط سبب هذا الصراخ الوحشي لأشعاره في أروقة الأزمنة العربيّة الحديثة والمعاصرة‚ مثلما شكّلت حزوزُ الحبال على ظهر مكسيم غوركي سبب رواياته‚ ثمة جروح في قلب الإنسان لا تندمل‚ وهي التي تصنع الثورات‚ قصائد الماغوط ثورة مندلعة بلا توقّف‚ ولكنْ نسأل أين؟ سيكون من اللافت أنّ قصائد الماغوط التي طلعت باكراً كالدبابير من وكر سياسي‚ لم تؤثّر في السياسة‚ بل أثّرت في الكتابة‚‚‚ في روح الكتابة التي عاصرته والتي أتت من بعده‚‚‚ فهو الذي طلع من سجن المزّة عام 1955‚ وجاء الى بيروت‚ لم يعد للسجن المادي ثانية‚ ولكنه دخل في سجن آخر أصعب وأمرّ‚ هو سجن الحال العربي‚ وهو سجن رحب استطاع ان يهضم في الماغوط كل أعطابه‚ وأن يصغي بأذن صمّاء‚ لحشرجة روحه وهو يكتب (سأخون وطني)‚‚‚ بل لعلّ الماغوط دَخَل في سجن وجودي أكبر من السجن السياسي‚‚‚ دخل في العزلة المطلقة‚ أخلد للصمت‚ واللاأحد‚ وأدرك أنه‚ كسوداوي تعس‚ عاجز عن إدراك الفرح‚‚‚ رجل ظلمات هو ومصلوب بلا أم تبكي عليه‚‚‚ ويعيش في البرد والوحل وبين المقابر‚ متشرّد في الروح والقدمين‚‚‚ محمد الماغوط رامبو على أنتونان آرتو‚ عربي‚ شريد طويل على امتداد الأنهار العربيّة‚ وصراخٌ في جميع الدهاليز والأقبية السوداء والسجون‚ دمغة أبدية في قاع الهزائم وصرخة (وامعتصماه) على امتداد التاريخ العربي بلا ضفاف لها‚‚‚ بلا أمل‚ أفرك يديّ أحياناً وأقول هو موجود‚ وُجد من يعرّي الجيفة ويكشف الستار عن القبور المغلّفة بالديباج‚ وأشبّهه أحياناً بتماثيل سامي محمّد: بأيدٍ تتمزّق وهي تفتح أبواب السجون‚ أو ترفع صخوراً فوقها صخور‚‚‚ وربما ظهر لي أحياناً متجسداً في الصرخة لمونخ‚ على صورة رجل خائف ضعيف بفم مفتوح على مصراعيه‚ جالس الى خطي حديد‚ يمرّ عليهما قطار جامح‚ نعم إنّ محمد الماغوط هو هو الصرخة‚ وتتبعتُ الصرخة من أوّلها‚ من أصلها‚ وسألت نفسي: ألهذا الحدّ‚ استطاعت قدم شرطي في سجن أن توقظ هذا المجد الهائل؟ الماغوط يعتقد انه بلا مجد ولا أوسمة‚‚‚ متسكع أبدي على الأرصفة‚‚‚ آخر الجالسين في المقاعد‚‚‚ حسناً هذا هو مجد اللامجد لدى الماغوط‚ وتبعته من أولى قصائده حتى مجاميعه حتى صمته وانطوائه في العدم المطلق‚ تبعته كما تبع هنري ميلر آرتور رمبو‚ خطوة خطوة‚ شممت رائحة حريق الكلمات فتبعتها‚ كان ذلك في صيف وخريف 1958 في مجلة (شعر)‚‚‚ يتدمّر الماغوط ويدمّر الشعر وخزاً بالذنب أمام لبنان الذي يحترق:


سئمتك أيها الشعر/


أيها الجيفة الخالدة/


لبنان يحترق


يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء


وأنا أبحث عن فتاة سمينة أحتكّ بها في حافلة


عن رجل بدويّ الملامح أصرعه في مكانٍ ما


‚‚‚‚ عندما أفكّر‚‚‚ ببلادٍ خرساء


تأكل وتضاجع من أذنيها


أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيّ‚‚‚ أيها العرب


يا جبالاً من الطحين واللذّة


يا حقول الرصاص الأعمى


تريدون قصيدة عن فلسطين


عن القمح والدماء‚‚؟


وكان ذلك في ربيع 1959 في (الرجل الميت) حيث يكتمل تشرّد المتشرّد بأدواته:


(أيها الجسور المحطمة في قلبي


أيتها الوحول الصافية كعيون الأطفال


كنا ثلاثة نخترق المدينة كالسرطان


نجلس بين الحقول


ونسعل أمام البواخر


لا وطن لنا ولا أجراس‚‚‚‚

وكان ذلك في شتاء 1960‚ في (سماء الحبر الجرداء (حيث يخبّ الماغوط كحصان تحت المطر‚ وثلاثة رماحٍ في قلبه‚ وتبعته في غيبته وعودته وتقلّب أحواله‚ نادراً ما كان يظهر لي الماغوط كقمر مكتمل في سماء زرقاء‚ لم يكن مكتملاً ولا واضحاً‚ كان دائماً معصوب الجبين ملطّخ الوجه بغيوم داكنة‚ يغيب ويعود‚ ولكنه دائماً يزفر‚ يئن كحصان مريض‚ وحين افتقدته في خريف 1968 في مجلّة (شعر)‚ وجدت ألن غنسبرغ‚ ينفث في وجه أميركا كلماته ويقول:


أميركا


أعطيتك كل شيء


والآن أنا لا شيء


أميركا


دولاران وسبعة وعشرون سنتاً يناير 1956‚‚‚


أميركا: اذهبي فضاجعي نفسك بقنبلتِكِ الذريّة‚‚‚


أميركا: لماذا مكتباتك مملوءة بالدمع‚‚‚


أميركا إنني قصير النظر ومختلّ عقلياً على أية حال.

عن جريدة ( الحياة ) اللندنية

هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع

هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع

ممدوح عدوان عن الشاعر الانفجاري


بمناسبة صدور مختارات شعرية للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط ضمن العدد الأخير من "كتاب الى جريدة" أقامت مؤسسة تشرين السورية حفل تكريم للشاعر بحضور وزير الإعلام عدنان عمران. "الأهرام العربي" تنشر نص الشهادة التي ألقاها الشاعر ممدوح عدوان بهذه المناسبة.


حين أردت أن أكتب هذه الكلمة لتقديم محمد الماغوط لم أحتج الى إعادة قراءته. اكتشفت أنه موجود في ضميري الذي أخاف منه، تسربت كلمات له كانت مروعة من وجداني فذكرتني بحقي الذي منحني إياه منذ طفولتي في الاعتراف بالخوف والذل والكبت.


يم يظهر محمد الماغوط صوتاً في المشهد الشعري العربي في الخمسينيات، بل انفجر فيه قنبلة فراغية، ومنذ أصواته الأولى كان شاعراً فاجراً ومنفجراً.


هذا الرجل الذي لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا شعائر سياسية، رأى نفسه مشرداً وجائعاً وخائفاً فعرف ببداهة الإنسان الأول أن العالم متآمر عليه، ولذلك فإن مؤامرة أخرى في هذه الدنيا الخادعة لم تكن تصلح لإلهائه عن مجابهة تلك المؤامرة الكونية.


ولأنه لا يخجل من دموعه ومن هزائمه ومن الاعتراف بإذلال العالم له، فقد علمنا أن الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم.


ولذلك لم أحس يوماً أنني أقرأ الماغوط، بل كنت أشعر دائماً أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح الذي لا يقيم اعتباراً لشيء. وكلما كنت أقرأ الماغوط كنت أحس أن هذا الرجل يتغلغل الى أعماق روحي ليجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي أوصلني إليها هذا العالم الذي أعيش فيه.


هو ذا شخص وحيد في الدنيا يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع. وينتهي الى أن يأكل النساء بالملاعق، ولا يرى فرصة للعنان إلا أن يضع ملاءة على شارة مرور ليناديها: يا أمي، ويأمر الغيوم بالانصراف لأن أرصفة الوطن لم تعد لائقة حتى بالوحول.


وفيما نحن نرى التبجج بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب ضعفنا وأمام الانتصارات الإعلامية الخلبية، يعلمنا أن نعتز بهزائمنا، وأما المراحل الوهمية يعلمنا أننا في حاجة الى البكاء، وأمام الانتماءات الضيقة يعلمنا أننا نملك الحق في أن نطالب أوطاننا بأن تعيد لنا الأغاني والدروع وكل فاصلة في أناشيد حبنا لهذه الأوطان قبل أن تطردنا من جحيمها.


ذات يوم كتب صديقي الشاعر علي كنعان: "سيكفي جبهة التاريخ من أمجادنا أن هُزمنا"، وأقول اليوم باعتزاز: سيكفي "حماسة" العرب الشعرية المعاصرة أن تحتويى على تلك الهزائم الوجدانية التي اعترف بها محمد الماغوط والتي تبدأ من هزائم الجبهات الى عزائم الروح، ومن خسارة الأرض الى خسارة الكرامة، ومن الفجيعة بالحكام الى الفجيعة بالأهل، ومن الحاجة الى اللقمة الى الحاجة للدفء، ومن الحاجة اليتيمة للأم الى الحاجة الشيقة للمرأة التي نتفرز بين نهديها كالصئبان. لقد هجا محمد الماغوط وطنه وهو يمزق ملابسه كأية أرملة، أو أن ثاكلة مفجوعة وأعلن عن رغبته في خيانة وطنه. ولكنني كنت أفهم المجاز الذي يشويه غضبه على ناره الهادئة، ولم أصدق يوماً إلا وصفه للرجل المائل الذي يقصد به نفسه، والذي يتشرد متأبطاً كتبه ووطنه.


محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها.


إذا قرأ محمد الماغوط شعراً، أو إذا تورطتم باقتناء ديوان له، فانزلوا الى الملاجئ الأخلاقية التي تعودتموها، البسوا الكمامات الواقية من الصدق الجارح وتسلحوا بالمكيفات الإعلامية التي تعودتم على تهدئتها وتخديرها.


ولكنني أقول لكم إنها لن تنفعكم، ما من ملجأ يحميكم من هذا الاعتراف الشعري الجامع بأوبئتكم، طالما أنكم قد تورطتم بسماعه أو قراءته.


وأرجو أن أحذركم الى أنكم قد ترونه الآن رجلاً ضعيفاً يستند عكاز، هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة، وتعتقت في روحه الآهات التي لم يسمعها أحد.


وأحذركم أيضاً أن القنبلة التي يبدو غلافها صدئاً هي انفجاراته بالمقدار الذي كانت عليه دائماً.


وهو أيضاً تلك المرأة التي أهملناها قليلاً، ويكفي أن نفتح آذاننا وضمائرنا ليتساقط عنها الغبار ونرى أنفسنا فيها على حقيقتها.


لقد استطاع محمد الماغوط أن يحرجنا ويجرحنا بشعره لأنه ظل قادراً على الاحتفاظ بالطفل المقهور الذي كأنه، طفل لا يندهش من الجمال ويفرح به فقط، بل يشمئز من القبح ويبكي من الظلم.


لقد صرخ منذ البداية: ألا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن كم هو غير لائق بمعيشة البشر؟ كم يثير من القهر والغضب والبكاء؟


احتقان كهذا لا يعرف كيف يقلم أظافره ليليق بأجواء الشرف العربي، ولا كيف يلبس الياقة والقفاز ليصلح لصالونات الأناقة الثقافية، فانفلت في الأجواء الأدبية حافياً مشعثاً رثاً كما لو أنه ما يزال يلعب في وحل الحارة، ولم يهتم لملابسه المتسخة وقدميه الموحلتين، لم يهتم من نفور أبناء الصالونات أو الداعين أو استتباب الأمن في استعراضات الأناقة الفعلية والبروتوكوليا: ببساطة قال لهم: لم أجلب الوحل من بيت أبي، ولم أتسخ في حضن أمي، ولم يكن البكاء هوايتي، ولا الجوع رياضة أمارسها.


عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش، ولست معنياً بتنظيف نفسي أو حتى أسناني لكي أساعدكم على التهرب من مسؤولياتكم عن وسخ عالمكم.


معاناة اليتم والغربة والجوع والتشرد والكبت، وحب الوطن والنساء والحرية والتسكع والتدخين والشراء، والمجاهرة بالرأي في الكتابة وتعرية العالم الذي يحيط به كل صباح. . هذه هي حدود ملكوت محمد الماغوط وهي حدود عذاباته ذاتها.


لم يكتب من قارءته أو تأملاته بل كتب من زعيق بطنه الخاوية وارتجاف أعصابه الخائفة.


وهكذا راح يكتب دون أن يهتم بتسمية ما يكتبه، حتى أنه ذات يوم خاف من أن يكون الذين يسمون كتابته شعراً يقصدون السخرية منه والضحك عليه، فشتمهم في مجلة أدبية رائجة، ولكنه استمر ------ أظافره المتسخة على الحيطان ويكتب بهذه الأظافر، فيثير الصرير والغبار لترتجف منه العظام وترمد العيون.


وليصبح واحداً من أهم الشعراء العرب، شعر؟ فليكن، يقول الماغوط، ابحثوا أنتم إذاً عن قوانين لما أكتب ولا تطبقوا على قوانين كتابتكم.


إن صدور مجموعته الكاملة، أو صدور هذه المختارات في "كتاب في جريدة" حدث مهيب، وإرهاق سادي إذ من سيطيق أن يغامر بقراءة عذابات عمر الماغوط كلها دفعة واحدة؟ كم تستغرق منك قراءة المجموعة ؟ يوماً؟ شهراً؟ سنة؟ تصور أنك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمة كاملة وطوال جيل كامل، وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال هذا العمر المرير. . حتى نخخت قلبه وجسده.


ونحن إذ نختار أن نقرأ شعره فإننا نجيء الى مخبر التحليل بأنفسنا، والشاعر المخبري المحلل سيقدم لنا تقريره ليقول لنا إننا مصابون بفقدان المناعة الأخلاقية والوجدانية والسياسية والوطنية، وإننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل.


اقرأ دفعة واحدة إذا رغبت، ولكن احذر القرحة . . والرقابة فهذا من الشعر النادر الذي يحمل قارئه مسؤولية القراءة بمقدار ما حملها كاتبها حين كتب.


ولكن الماغوط، ولأنه مؤدب بآداب الشعر المتصعلك العظيم المقهور الرجيم المضمخ بالنزيف، سيوهمنا أنه لا يتكلم إلا عن نفسه وعن آلامه.


ولكن دققوا قليلاً، وستكتشفون أنه يحكي عنا جميعاً. . .

عن الأهرام العربي- الأحد 1 كانون الأول 2002

لماذا نحترم الماغوط؟

عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

محمد الماعوذإذا فتحت الألبوم الحديث للشعرية العربية ستجد صورا صغيرة لا تكاد تحصي، بعضها واضح و البعض الآخر يغطيه السديم، وأنت تقلب عشرات الصفحات يمكنك من حين لآخر أن تصادف صورا من الحجم الكبير، سيبدو لك السياب نحيفا بابتسامته الجانبية الشهيرة داخل إطار كبير لا يحاكيه سوي إطار نازك والبياتي، ستبدو لك فيما بعد صورة أدونيس بعينيه الدائريتين اللتين يتقافز منهما الطموح، صورة أدونيس أيضا كبيرة، لكن يعتريها الغموض، ثمة صور عديدة لشعراء من القرن الماضي تركوا أنفاسهم تسري في هذا الجسد الغريب الذي نسميه: الشعر.

هؤلاء الشعراء لا تتزايد درجات محبتهم لدي القراء بتزايد عدد دواوينهم أو عدد المهرجانات التي حضروها، بل تتزايد بعدد الآثار التي يخلفونها في نفس من يقرأهم.إنهم شعراء بسيطون كالماء واضحون كطلقة مسدس علي حد تعبير الشاعر رياض الصالح الحسين، ليس أولهم خليل حاوي الذي مات منتحرا بلبنان، ولا حسب الشيخ جعفر المنسي هناك، وليس أوسطهم عبد الله راجع أو إبراهيم نصر الله أو عدنان الصائغ، وليس آجرهم لقمان ديركي بسورية أو أحمد بركات بالمغرب.

الكتابات المتميزة كالنقوش العتيقة تقاوم الزمن وتبقي خالدة علي الأحجار والجدران وحتى في المغارات والكهوف، النصوص العميقة تجد القارئ العميق حتى في الأدغال، ألم يقل الشاعر عبد اللطيف اللعبي: ثمة كاسر يقرأني ؟

هذه الجمل المتعاقبة هي تمهيد للحديث عن صاحب واحدة من الصور الكبيرة داخل الألبوم الحديث للشعرية العربية، فالذين جايلوا الماغوط والذين وصلوا إلي أرض الشعر بعده أكنوا له احتراما هائلا ومحبة شاسعة.

منذ النصف الأخير من القرن الماضي وإلي حدود السنة الثالثة من الألفية الجديدة ظل الماغوط في أعين القراء هو الماغوط، لم تتغير ملامحه ـ فقط ظهرت عليه علامات الشيخوخة ـ فمواقفه هي مواقفه: تمرده، احتجاجه، وسخطه، عزلته وخوفه وريبته ووساوسه مازال محمد الماغوط يشبه صورته القديمة، ما زال كما تجلي في بداياته، لم يغادر خندقه الأول، إذ ظل متمرسا بأدواته نفسها وبمعجمه الهجائي وبنبرته الجارحة، لم تغيره الشهرة ولا الاستقرار، بل ازداد ضراوة وضجرا، كأنه لم يغادر الغرفة التي شهدت آلامه وأوجاعه الأولي، كأنه غير قادر علي التنكر لأيام التشرد والتسكع والخواء ـ 1ـ

ربما ميزة الشعراء الكبار، في الغالب، أن يعيشوا الحرمان والبؤس والمرارة، فالماغوط ينتمي إلي عائلة شعرية كانت تفترش الألم وتتغطي بالتعاسة، الفقر بيتها الشاسع والجوع رفيقها البدي، فآرثر رامبو وجان جينيه وادغار آلان بو آباؤه، أما إخوانه وأبناؤه وحفدته فهم كثيرون داخل الوطن العربي وخارجه:

أحب التسكع والبطالة ومقاهي الرصيف
ولكنني أحب الرصيف أكثر

أحب النظافة والاستحمام
والعتبات الصقيلة وورق الجدران
ولكني أحب الوحول أكثر.

ـ شوارد الدم ـ

كانت حياة الماغوط قاسية، مغلفة بالفقر والشتات والحزن، ثم إن تجربة السجن قبل بلوغه العشرين غيرته بشكل جلي من مجرد فلاح بسيط إلي كائن آخر يسكنه الرعب وتتقاذفه الكوابيس السجن والسوط كانا معلمي الأول، وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت منها، إنسانا معذبا، خائفا علي الأبد ہ في حوار جريء مع بول شاؤول طلب منه الإدلاء برأيه في بعض الشعراء فقال عن أدونيس: لا يعنيني، وعن أنسي الحاج: شاعر، وعن الماغوط: شاعر كبير. لم يكن موقف شاؤول مجانيا، بل كان مبنيا علي خبرة كبيرة بالشعر ومحيطه، ثم إنه رأي أجيال متعاقبة. والحقيقة أن صورة الماغوط أصبحت تتسع شيئا فشيئا ـ مع تعاقب الأجيال ـ حتى بدأت تغطي صور أسماء كبيرة داخل الألبوم: أدونيس مثلا، يوسف الخال، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا...كأن حركة شعر الرائدة لم تنتج، في العمق وفي الجوهر، سوي الماغوط، رغم أن جسده الشعري كان أضخم بكثير من الحيز الذي كان يشغله في غرفة شعر ثم إنه لم يكن يتبنى الخيار الأيديولوجي الذي كان يتبناه زملاؤه، فقط كان يتبنى خياره الشعري لم يكن الماغوط من الأساس معنيا بتلك الأيديولوجيات يسارها ويمينها.. كان أكثر حدية ومزاجية وأكثر ميلا إلي التحرر من أعباء تلك المعايير الناجزة في السلوك والشعر

****

يقول الماغوط عن تلك التجربة: كان أفراد جماعة شعر يكتبون في المطلق، أنا حاولت أن أسحبهم إلي الأرض، لكني بقيت طارئا مثل ضيف علي طرف المائدة، وافترقنا لأني شاعر أزقة ولست شاعر قصور.

لم يكن الماغوط في حاجة إلي شهرة تشد نظر العابرين إليه، ولم يكن يبحث عن عظمة وهمية مثل أقرانه بقدر ما كان يبحث عن لقمة يضعها في فمه:

الجوع ينبض في أحشائي كالجنين.

ـ نجوم ومطر ـ

كان يطالب بحقه في الحياة، ثم إنه شاعر وعلى هاته السماء الغامضة التي يسمونها الوطن أن تحمي شعراءها كي يواصلوا ما كانوا قد بدأوه:

هذا الفم الذي يصنع الشعر واللذة
يجب أن يأكل يا وطني
هذه الأصابع النحيلة البيضاء
يجب
أن ترتعش
أن تنسج حبالا من الخبز والمطر

ـ جفاف النهر ـ

إذا عدنا إلي التاريخ الشخصي للماغوط فهو من مواليد 1934 بمدينة السلمية السورية، زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح، آثار أقدامه لا تزال في دمشق وبيروت، متسكع كبير تعرفه كل الأرصفة والأقبية والحدائق العامة وكل الصالونات والفنادق والمقاهي والصحف ودور النشر، وكل الكتاب والرسامين والصحفيين وعمال المقاهي وشرطة المرور والسجانين وقطاع الطرق وكل النساء اللاتي أحبهن أواللاتي نظرن باستعلاء إلي مظهره الريفي البائس واخترن مجالسة غيره

****

لكن إذا بحثنا في تاريخه الشعري سنجده أقوى وأعنف:

أنا إنسان تبغ وشوارع وأسمال
ـ تبغ وأسمال ـ

أنا مزمار الشتاء البارد
ووردة العار الكبيرة
تحت ورق السنديان الحزين
ـ الرجل الميت ـ

أنا فقير يا جميلة
حياتي حبر ومغلفات وليل بلا نجوم
شبابي بارد كالوحل
عتيق كالطفولة
ـ تبغ وشوارع ـ

كان الماغوط يحب أن يضع الوطن فوق كرسي المساءلة بدل الاحتفال المجاني به والإفراط في تزيين وجهه بالمساحيق بغية جمال وهمي، كانت علاقته بالوطن معقدة وعنيفة لاشيء يشرحها سوي هذا المقطع:

لاشيء يربطني بهذه المروج
سوي النسيم الذي تنشقته صدفة فيما مضي
ولكن من يلمس زهرة فيها
يلمس قلبي.
ـ مقهى في بيروت ـ

إننا نحترم الماغوط لأنه من القلائل الذين سبحوا ضد التيار العتيق أعذبه أكذبه فلم يكن يكتب سوي حياته وحياة أشباهه ن لم يغبر جلده، ولم يلهث خلف البريق، حتى في كتاباته كان صافيا إلي درجة التكدر المطلق، لم يستعر معطفا من أحد، وإنما وضع أسماله علي الورق، لا يمكن أن نصنف نصوصه ضمن إطار البوح والتشظي والاحتراق.. وما إلي ذلك من الكلمات التي تبدو سطحية وهجينة ومبتذلة أمام عمق وقوة ما يكتب، لم يكن الماغوط في حاجة إلي المعاجم القديمة لترقيع نصوصه بألفاظ تحط من قيمة النص وتقتله أكثر مما تحييه، فهو علي عكس أقرانه وعكس زخم هائل من الذين دخلوا إلي غرفة الكتابة سواء من الباب أو النافذة كان يكره التشدق في اللغة، لم يكن يتوسل الكلمات التي تموت بمجرد أن تغادر الشفتين، بقدر ما كان يرسل في أنينه الدائب كلمات تستعيد حياتها أكثر كلما احتكت بالهواء.

أبدع الماغوط في كتابة الشعر (حزن في ضوء القمرـ غرفة بملايين الجدران ـ الفرح ليس مهنتي(.). والمسرح (العصفور الأحدب ـ المهرج ـ ضيعة تشرين ـ الغربة ـ كأسك يا وطن..). والرواية(الأرجوحة) والسينما (الحدود ـ التقرير) والمسلسلات التلفزيونية ـ (حكايا الليل وين الغلط)، وبالقدر ذاته أبدع في صناعة عالمه الشاسـع يحده من الشـــرق الحزن ومن الغرب العــــزلة العزلة خليلتي، لا أحب أن أقابل أحدا، أحب الوحدة وأحب الصمـت وأشعر بالارتباك بوجود الآخرين أنا إنسان سوداوي وتعيــس، لم أعرف الفرح طول عمري فقد عشت في البرد والوحل وبين المقابر، وإلي اليوم أحس أنني متشرد في الروح والقدمين، عالمي هو الكتابة، أنا خارج دفاتري أضيع، دفاتري وطني.

يبدو في النهاية أننا سنكون أشد إجحافا في حق الماغوط إذا صنفناه ضمن جيل الخمسينيات، فهو ربما يسبق بنصوصه المتفردة أيضا أجيالا راهنة وأخري لم تولد بعد، إذا أردنا أن نحسم الأمر فالماغوط ينتمي إلي جيل ودع الشمس باكرا وأيقن أنها لن تعود في الغد.

هوامش:

  1. زوايا، العدد 3، ديسمبر 2002
  2. سيف الرحبي، نزوي، العدد 31، تموز (يوليو) 2002
  3. علي عبد الكريم محمد الماغوط: حطاب الأشجار العالية كتاب في جريدة، العدد 60، جريدة الصباح المغربية.
    من حوار مع الماغوط، أ جراه خليل صويلح، زوايا، العدد 3

القدس العربي -2003/09/24