Monday, January 17, 2011


عالم لبراءة الولادة وقذارتها

محمد أبي سمرا


العالم الذي ترسم صوره لغة محمد الماغوط الشعرية، هو عالم حسي ومادي وفوضوي ومرتجل. أشياؤه وكائناته تولد مفاجئة وبنت لحظتها، ومن دون إنذار مسبق تولد ملطخة بقذارة الولادة وبراءتها وطزاجتها وآلامها وصرختها الاولى، التي لن تشفى منها الى الأبد، ولن تنمو أو تتحول لتتخلص من تلك البراءة القذرة، المادية والطازجة. والعالم هذا، في أشيائه وكائناته، أي في صوره، مثل شاعره ومنشئه، غير قابل للانفصال عن مادته وعناصره الاولى، ولا للإنبناء والتركيب والتحول. فهو صنيع الهنيهة القدرية الحاسمة والمفاجئة، بلا سبب ولا سؤال ولا منطق سوى منطقه الذي يولد معه ومنه مكتملاً ومجبولاً بمادته الفوضوية المرتجلة، كأنها تخرج من فوهة بركان لتتدحرج حارة على هواها في الاتجاهات كلها، من دون أن تكون معنيّة بالوصول أو عدم الوصول الى مكان تستقر فيه، لتبدأ حياتها ووجودها من جديد.
غرفة سنيّة صالح
عالم شعري، مثل شاعره ومنشئه الذي ولد وعاش ومات بقلب جمل مسنّ وجناحي فراشة، أعزل، وحيداً، مستوحشاً، حتى آخر العزلة والوحدة والوحشة في "غرفة بملايين الجدران" المقبضة. "غرفة مسدلة الستائر (...) سقف (ها) واطئ، حُشرت حشراً في خاصرة أحد المباني: (...) سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة (...) هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم"، على ما كتبت قرينته في المرارات والآلام، سنية صالح التي كان من الأفضل ألاّ تضيف، في تقديمها لأعماله الشعرية الكاملة، أن هذه الغرفة "إسمها الشرق الأوسط"، قبل أن تكتب أنها "راكضة" و"خفية" كانت تنقل اليه في تلك الغرفة "الطعام والصحف والزهور (...) في البرد القارس والشمس المحرقة"، لتجد "الكتب (...) ممزقة أو مبعثرة (على) الأرض، (و) مبقّعة بالقهوة (... فـ) ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف"، فيما "كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعالٍ على ما يحط بنا".
لهاث في البرد والعتمة
لا، ليس شعر محمد الماغوط عالماً بديلاً متعالياً، بل عالم مادي سفلي تنبعث منه رغبات مستحيلة في هواء نقي، ويدين حرّتين، وسماء زرقاء بلا دموع، وشفتين لا تنبت فيهما الأشواك، ولا يلطخهما قطران التبغ المحروق الذي لو جُمعت لفافاته "لبلغت فم الله".
لا، ليس محمد الماغوط حالماً في شعره، بل إن شعره طالع من حطام الأحلام، كأنما الشاعر يقلب الكلمات على قفاها لتنزّ شعراً، كما لو أن الوردة تنزّ قيحاً، أو ليصنع من القيح وردة يعلّقها وساماً على صدر جندي قتيل، أو عائد من الحرب مهزوماً الى قريته البدوية الضائعة في الغبار والوحشة على طرف صحراء.
في شعر محمد الماغوط عطش أبدي فيما صاحبه يبتلع نهراً، إذ "
ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري؟". عطش صحراوي الى مدينة مستحيلة، يصل اليها كتائه ضلّ الطريق، فتغويه أضواؤها الملونة "كبغي في لحظة المداهمة"، ليسيل من فمه لعاب الشهوة ممتزجاً بمسحوق الخوف واللهاث الحار في البرد والعتمة.
إنه عالم شعري يختلط فيه الحنين الى عزف الربابة بالرغبة المستحيلة الى رنين كؤوس الشمبانيا، فيما الدم ينزّ من خطافات أوسمة الضباط الذين يشاركون في حفلة تنكرية للإعدام، حيث ترفرف أعلام عتيقة، بالية وملطخة، كأسمال الفقراء الراكضين في أزقة مدن داخلية تطاردهم طلقات رجال الشرطة والعسس الليلي.
شعر طالع من عالم بدوي رعوي، وفيه شيء من وحشة شخصيات أفلام رعاة البقر، لكن الممتطين صهوات جياد هرمة هربت من سباق الخيل الى قرية فلاحية يستعبد بكواتُها القساة الفلاحين ويغتصبون نساءهم وبناتهم، قبل فرارهن للعمل خادمات في مدن عسكرية أو شبه عسكرية، وقبل سَوق الرجال الى التجنيد الإجباري، أو الى أعمال السخرة في بناء السكك الحديد ومحطات القطارات في السهول الجرداء.

مدن الصعلكة والسعال
شعر نثري حديث عابق بذكريات الزمن العثماني، حينما كان البدو يغيرون على المدن الموكلين حماية طرق قوافلها التجارية، فيتواطأون مع الجنود الفارين من الحرب قبيل هزيمة منتظرة، حيث تبدو "التلال" في البعيد "مقلوبة كالمناضد".
وللصعلكة المدينية الآتية من عذابات الأرياف وقسوتها، حضورها القوي والأكيد في هذا الشعر المسكون بخوف لا موضوع له ولا سبب. خوف قديم موروث يقيم في اللاوعي الفردي والجمعي منذ الطفولة المنذورة لليتم والانقطاع والتشرد والعنف، بل للعسف الاجتماعي القديم والمتجدد في مدن متروكة للإهمال والفوضى والنهب المسلح الذي يشبه الأعراس البدوية والابتهاج بالنصر، فيما "
ذباب المطاعم المقفرة يحوم فوق المنعطفات وعورات التماثيل".
شعر الصعلكة التي هي الشكل الوحيد للفردية والحرية الجريحتين في بلاد الأهل والوجوه "
المختنقة بالسعال" و"الصفراء كالسل". وجوه الأطفال المليئة بالندوب والمسلوبي الطفولة منذ الولادة من أمهات يضربهن رجالهن قبل المضاجعات السريعة الصامتة وبعدها، فتدمع أعينهن في صمت انتظارات عودة أبنائهن من المنافي البعيدة، والمختنقين بفحيح شهواتهم البدائية الجامحة الى ثدي ساخن كرغيف الحنطة تخبزه الأمهات المسنات في القرى النائية المنسية.
أطفال سُلبت طفولتهم، ويشبّون جارحين ومحطمين ليكتهلوا، فجأة، في رجولة يملأونها بعويل كعويل الأطفال ونواحهم، بحثاً عن "
ركبة امرأة شهيّة" أبصروها في مناماتهم المترمدة التي تردّد أصداء "وجيب اللحم العاري" في مدينة "السبايا الوردية"، حيث: "
ملايين السنين الدموية
 تقف ذليلة أمام الحانات
 كجيوش حزينة تجلس القرفصاء
 ثمانية شهور
 وأنا ألمس تجاعيد الأرض والليل (...)
 والثلج يتراكم على معطفي وحواجبي".
مأساة الحداثة والمدينة
أفتح مجموعات محمد الماغوط الثلاث الاولى، "حزن في ضوء القمر"، "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي"، يطالعك دائماً هذا الشعر الداهم والمفاجئ في وحشته القاسية وحنانه الأصم والأخرس، المنبثق متدفقاً في حرارته المسكونة ببرد داخلي لا ينضب، بجوع الى الماء والمطر وطيف نساء جديدات غير مسكونان بالخوف والخطايا والقسوة الجارحة: "نحن الشبيبة الساقطة
 (...) من يعطينا امرأة بثياب قطنية حمراء؟ (...) حيث مئة عام تربض على شواربنا المدمّاة". لكن "ليس لنا الاّ الخبز والأشعار والليل
وأنت يا آسيا الجريحة
 أيتها الوردة اليابسة في قلبي (...)
 القمح الذهبي التائه يملأ ثدييك رصاصاً وخمرا".
نعم، إن في شعر محمد الماغوط، سيرة مروّعة للهروب من أطراف المدن الداخلية على تخوم بادية الشام، الى بيروت الرافلة بالأضواء والأمواج البحرية في مطالع ستينات القرن الماضي، قبل أن تسقط بدورها تحت سنابك الغزو المنفجر من داخلها والآتي اليها من خارجها.
شعر هو سيرة للهرب من سوريا البعث والزمن العثماني، ومن: 

"أمواج البدو والعسكريين الزرق
 ينحدرون كالعاصفة
 بين الأنهار والملاءات السود
 حيث الغربان تبكي
 والفضاء مظلم كفوهة المدفع
 (و) كنت وحدي... أعود الى القرية المهجورة
 والتراب الساخن يسلق قدمي".
إنه الشعر الذي يصح فيه قول سنية صالح في انبثاقه من "
سكب الأحماض المأسوية على الفوضى البشرية". ويمكن أن نضيف كذلك إنه الشعر الذي، اذا جمعنا اليه شعر بدر شاكر السياب والبدايات الشعرية لسليم بركات، نقرأ سيرة مأساة الحياة العربية والثقافة العربية مع الحداثة والمدينة والفردية المحطمة.

No comments:

Post a Comment