Saturday, July 18, 2009

الغريب حتى النهاية

عادل محمود


(سوريا)

لم يستطع غريب في هذا الحجم، أن يكون غريبآ حتى النهاية، مثل شاعر اسمه محمد الماغوط. فمنذ البداية أرشد الماغوط قارئه الى مصيرهما معآ، في وطن لا يعفو لكي يغفر، بل ليخفف زحمة العبودية. الماغوط رأى، من أول لحظة تعرض لها في الخمسينات، أن العربي ليس (اكم!) لبلده (قانونيا المواطنة) بل هو عنصر في (شركة) في حجم وطن يديرها حكام، قوادون أحيانا. فتعزف الى الغربة:

لا امرأة لي، لا عقيدة/ لا مقهى، لا شتاء/ ضمني بقوة يا لبنان/ ثمانية شهور وأنا المس تجاعيد الارض والليل/ اسمع رنين المركبة الذليلة/ والثلج يتراكم على معطفي وحواجبي./ فالتراب حزين والألم يومض كالنسر/.

وقد صارت الغربة في داخله أصيلة لان الاسوأ كان على العتبة دائما.، بتأصلها راح الماغوط يضع شعره في كل زاوية كبيض خرافي لطائر لا ييأس، بغريزة الديمومة، من فاعلية الحياة. والماغوط، أجد. أهم الشعراء الذين لم تفارق قولهم فكرة الانسان الفرد، الذات، الشخص بوصفه هكذا،وحيدا و ضئيلا ومكتنزآ وقويآ، وكائنأ من كان. الانسان عند الماغوط ذات محترمة ما دامت الحياة قد (أثفت) فيه روحآ ينبعث منها الأنين والزغاريد. وباستنكاره الحار والدائم لما يحدث له على أيد غاشمة أو مصادفات رديئة، دافع الماغوط وبقوة، عن الافتراض الصريح لجمال الحياة، عن الحق في أن تكون الحرية لا الجريمة هى الراية التي تظلل خيارا انسانيآ في بقعة من الأرض. ولقد ظل الماغوط شاعرا، (فيآل! ذه بى) الفكرة (مختفيا) فى مختبره، المتقشف، الحاد الأحماض، قصيدة إثر قصيدة، غير عابئ (ال!بنثر) الحياة في شعر ليسمى لاحقآ قصيدة النثر.، لعل الماغوط، بسبب من حدته، حدته،، ايضأ بسبب الماغوط، اقفآ الى اليسار، مع، (فاق الختوة) في ثياب البحر .!

الإصرار على قيمة وحيدة عليا، لم يستأنف مسيرته الشعرية. كأنما اكتفى بقول ما قيل. فللدهشة، للأمل، لليأس، للحب، للشغف بالجمال حدود، في نهايتها يقف الشاعر راثيآ أنقاض مملكة...، حسب. إن- الماغوط علامة أسف وحزن ورثاء في عصر عربي (تقشف) في هويته حتى كاد أن يخرج من العصر بلا هوية.

***********

جرح فاغر على رصيف دمشق

أكرم قطريب


سوريا/نيويورك

الكتاب الذي استعرته آنذاك من مكتبة المجلس الأعلى في مدينتي السلمية، كنت أضعه تحت الوسادة قبل أن أنام. كتاب بغلاف رمادي، أتذكر منه ورقه الأصفر محمولا بملامح بشر هائمة على وجهها ونداءآت وعذابات مضمرة، ومشاهد متلاشية لريح تنبعث من الشرق لا تنام... فلا أنام: "الفرح ليس مهنتي" بعد أسابيع أعدته.


كان الزمن صيفاً.، بقيت المسافة التي تفصلني الآن عن سبعة عشر عاماً من عمر قصيدة بقيت مدوية في داخلي، محمومة، غريبة. مسافة بقدر ما رممت روحي المضطربة آنذاك، فيها ما أحتاجه أو أكونه، ألآن، ا، ألشعيره: صدقها الوحشي. بدا الحزن لدى الماغوط مثل نوجٌ سيمري مكتوب على لوح قديم، وإصحاح رعب لا ينتهي. حزنه الذي لا حسب له ولا نسب كان ملجأه المخضل. لم تفارقه نبرته الكربلائية، متعباً، متعترا ينطوي في لحم قصائده المفردة كتغريبة هلالية معاصرة انتهى بها المكان الى جنة الدم و الهزائم، اللعنات. المارد الذي قلب طاولة الشعر العربي يتكئ الآن وراء نافدة مغبشة لم في مخ!ى!ا رصيف الشام !1 محنياً على أيامه البيضاء المنكوبة، على الجهات كأنه يسافر في قطار الشرق السريع مثل شخصيات أغاثا كريستى الغامضة، 1، كنصب لرودان يكاد أن يتحرك. قبعته تحمي ما يفضح الأيام، العمر الذي لم يبق منه سوى عكاز يميل مع ظله الذاهب الى البيت. الذي كان يقطع على قدميه مسافات دمشق كلها، كأنه يدخن، يكتفي الآن بمتابعة أخبار الحاضرة العربية السعيدة بأمهات معاركها الخاسرة، الحاضرة التي ما زالت محمولة على ظهور الجمال، كخيول البسوس، صليل الميكر، فوتات، قصائد المهلهل، هو يستمع الى أغنية ناظم الغزالي: عيرتني بالشيب وهو وقار !!. ما الذي بقي من الماغوط الذي وضع الشعر، في أيامه، على مفترق طرق، ثم أدار له ظهره الى غير رجعة إلا في قصيدة متأخرة نسبياً "سياف الزهور"، التي بدت امتداداً أفقيا، استعادياً لكل ما كتبه سابقأً، سواء في "حزن في ضوء القمر" أو "غرفة بملايين الجدران" الى "الفرح ليس مهنتي". أقول استعادياً لأنه في هذه القصيدة أكمل دائرة سبق أن اكتملت، حتى في مقالاته، التي سماها رياض نجيب الريس "مسرحاً شعرياً"، نجد فيها الصدى الملتبس لمقالات آسرة، حارة كانت كتبت على صفحات قديمة انضافت إليها آثار حطام شخصي، شعور أعمق بالوحشة. ظل الماغوط الشاعر المجروح بحق، المأسور الى غلالة الحرية، هذياناتها التي لا تفارقه مثلما لم تفارقه علبة السجائر، زجاجة الى "بلاك ليبل"، غيوم حياته لما تزل نائمة على درج البيت في انتظار أن يستيقظ ليأخذها في نزهة الى مقهى (أبو شفيق) على طريق دمّر، أو الى شبح سنية صالح الذي خيم فيه ولم يتركه، أو هناك الى أقصى ما يمكن الحديث عنه حيث الزمان و المكان في أوجهنا، كانت عيناه، خلسة، تسترقان النظر الى ماض ليس قريباً تلامحت فيه وجوه مائلة في إطار خشبي مكسور، وتواريخ مربوطة بخيط التيه شاءت أن تبقى كما هي، لكن بغيابات كثيرة، محمولة في اسانسير الله نحو السماء الثامنة، وشراشف ملائكية، أو أصيص، نول، خيطان مشدودة، تماماً، قرب الإطار الخشبي المكسور نفسه، الذي بدا فيه بدر شاكر السياب (ضيف بيروت آنذاك)، توفيق صايغ، ثم يوسف الخال الذي حمل نظرية الشعر الحديث معه الى الجنة، كما لو أن يشاهد شروق الشمس من شرفة منخفضة في الربع الخالي. سواحل وقاراتمن الدموع نبشها، صاغها في أيقونة مشرقية لمتاحف أعمارنا المنصوبة تشبه الصفعة التي لا تنسى. ما الذي بقي من محمد الماغوط؟ عزلته، كيان يفلت بعيداً عن الزحام، في جيبه صورة عائلية له، لسنية، شام، سلافة، حتى لتظن أنه يحمل سحنة ماورائية، كأنه في طريقه الى موعد غامض، معه كلمة سر. بكامل هيئته، جرح فاغر على رصيف دمشق. ولكي تراه عليك أن تلتفت الى سنواته السبعين، مسودات عمره، منفرداً في شارع في مدينته الحجري باحثاً عن طفولة ضائعة في الاقنية الرومانية، سهوب القمح المشتعلة في حزيران. اصدقاؤه أمام العين كلفحة البرد تاركينه يصطك، يرتجف في كلاء البيت القديم، أمام عريشة الكنب اليابسة، ضحكة أمه المدفونة في الجدار ذكرى دمعة لا تنسى. مسبحة أبيه نجوم منفرطة، منذ زمان، مطفأة في خزانة الغرفة الترابية. صوته، لطالما هو هنا، سليل وحشة، يمزجها، يومض أج!ثن من دون ان يرى لمعان السطوح الماثلة تحت المطر. ما أغواه حينذاك أنه كان يقيم داخل اللغة وداخل الحياة معاً: لغة منخلتة، متعطشة، عارية، مضطربة لكثرة ما هي ناصعة، حادة، ترتسم بقدرتها على التخفف من عبء اختزال صوتها الهادر، فاتحة شبابيكها الموصودة لصواء (نثي، أ حاز،، بئهر). لم يتنفسها من الهواء الفاسد وحسب، بل عقد قرانها مع ينالميعه المركونة في دمه، مرة، واحدة، مثل من يرمي بنفسه من دور عال، أو يميل على فوهة بركان خامد.، داخ!م لحياة ا لأنه حملها الى ا، راقه، حبره كما يرجن معطفه " أعلى كتفيه، ويلبس على عجل، كنزته الزرقاء. هو، على قول انسي الحاج في "الناقد"، شباط 1993، "عبقري صورة، لا يجاريه أحد، خصوصاً في التشبيه. خياله مطبوع بعقله الباطن.، عقله الباطن خزان كبير من الألم، الحرمان، الرغبات الرائعة". انتفاض الصورة لديه أشبه بطائر مذبوح، لكن بشكل غير كامل: يتخبط في دمه، شرايينه المقطوعة. صورة تربض بحاسة نفاها جوار أنفاسها المتقطعة، كأنها من لحم، دم مهتوك. هي حول عوالمه الأرضية، مقطع حقوله الصفراء نصف المعتمة. ترفل لا متناهية، غير مكتملة. تاريخ أيامه، جروحه، تركها كما هي، بلهجته السحيقة تبين رائحة النار، الملاءات الممزقة من نايات فجر مصاب، بقايا وحل، رياح، مزاريب صدئة.


شعريته، وان بدت الآن بعيدة، مفضوحة، إلا أن أهميتها تبدو من مقاربة أثرها، الذي تحول الى زمن قوي وسحري داخل تاريخ القصيدة العربية، بحنين دفين والتماس لا يضاهى يغرياننا كي نكتشف واحداً من أسلافنا المعاصرين، يحيا بيننا، شاماناً شعرياً تستعيد روحه بلغة أخرى ومفارقة.

*****

نحن ضيوفك أيها الماغوط

عقل العويط


(لبنان)

بأي لغة أحتفي بشاعر من طراز محمد الماغوط؟ بشاعر كهذا الشاعر "البدائي"، المكتمل اللغة منذ البداية، ذي الموهبة الرائية، العارفة كعيني الصقر، والجارحة كطعم العسل المكثف، والحقيقية كصرخة اللحم الحي، والمغدقة بدون حساب وقواعد والمنبجسة انبجاساً، والنازفة كما الينبوع الذي ينادم لياليه، ضائقاً ذرعاً بكتماناته وبانتظارات الباطن، إلى أن يحل عليه فجر الخروج إلى سيولة اللذة والشبق!


لا أدري بأي لغة أقترب من شاعر كهذا الشاعر البدوي المقامر الذي يبذل روحه برمتها على الطاولة، كثروة لا ضرورة لها، وتواً، ودفعة واحدة بلا تمهيد ومقدمات، مضافة الى حياته التي يريقها إراقة من يتلذذ بمشاهدة أيامه مسفوحة بكامل همجيتها وحواسها ونزقها وهوسها وضحكتها الساخرة، مرارتها السوداء!


لا أدري بأي لغة أقترب من شاعر، كهذا الوحش البري، الآتي من أدغاله، أعاليه الى المدن والأوطان، بكامل فؤاده وجلافته وبربريته العذبة، ومعه لغة جمة ذات صور مذهلة لا تحتاج الى براهين كي تخترق، تمتلك، تأسر، بل تنتظر بالتنهدات والرغبات المكبوتة! ولا أدري أيضا وراء أي ذهول يحتمي القارئ عندما يقرأ شاعرا كهذا الشاعر المرصود لغرائزه القصوى، والمحقون بعواصفه، والمبدد بين نيازكه وغيومه ومبتسما كرجل ميت، نازلا كسيول جارفة، كجبال تمنحها براكينها أن تسيل بلا انتباه. كجحيم مفتوحة على لمناتها من دوت أن ترعوي أو تكف أو تتراجع لحظة الى الوراء في ارتدادة أو في إعادة نظر! فأي شاعر هو هذا الشاعر، لا تحول دونه حافات، هاويات، ولا يبالى بتنكيل الهواجس ولا بهول ما يجتمع بين ضلوعه وحنايا فؤاده، مغمضآ عينيه كي لا تفز منه الرؤى، برعونة طفل يرى في لحظة صعق واحدة، فيهجم بجسده ويديه وجميع حواسه، لينام على النار ويحميها، يحتمي بها، يحتويها ويصير تابعآ لها. ومعه في هذا الهجوم ا!ؤ! شهي، قلبه الجريح الخائن، حدس الطفولة، فطريتها، بداءتها، عبثيتها، سذاجتها، براءتها، شرائط أحلامها، خيالاتها!


يفد محمد الماغوط، هكذا، مدججآ بغاباته،وعوله، أنهاره كمن يحمل خياله المراق فوق بياض الصفحات شبيهآ بسرب أفراس وخيول . تجمح بالشعر والنثر معا، الى حيث لا حدود ولا حواجز. فهل من لغة تليق بمديحه سوى الاعتراف الذي يؤكد نبوغ الأشياء، اكتنازها بذاتها! شاعر هو محمد الماغوط، كفى. فلا شيء يزاد لتجميل هذه الكلمة أو لتكريمها والترويج لها. فمثله، شاعرا لا يريد شيئا ولا يلوي على شيء. ميزته أن يأتي الى الكلمات مرة واحدة، وفي قصيدة واحدة. صحيح أنه، طبع أكثر من ديوان ومسرحية وأنه لا يزال حتى الآن يشعل حرائقه منثورة، متأججة، صحيح أنها أعمال محمد الماغوط التي صدرت له عن "دار المدى" في عام 1998، في نحيم من 060 صفحة، لكن شاعرا كهذا من صفاته أنه يقول كلمته، بصت. وإذا استعاد تلك الكلمة، فكمن يعيد التذكير بأن قصيدة واحدة تكفي. فهو يدلق سيولة روحه وأثقال كتفيه، كمياه الشتاء أو كثلوج الأعالي، لتتكئ على السطور في أعالي الأنفة والكبرياء، أو لتنزل الى الأعماق وطيات الروح. بل أكاد أقول إنه يحتمل ما يفعل، نباهته الشعرية- الملائ حرفأ شعريآ، نثريآ،، سردآ، بلاغة، كما الملأى عدوانية وشراسة ورقة، جموح تشبيهات، مؤلم وخيال لا يخلو من هول الحكمة الباردة وفظاءتها، بل، من صلف العقل معا. واليوم، بعد اثنين وأربعين عاما على صدور ديوانه الأ ل، "حزن في ضوء القمر" (1959)، لا يزال محمد الماغوط حاضرا بيننا، حتى قعر هجسه وجسدانية لذائذه وأعماق بوهيممته وصرخات ولجلجات أنفاسه، مستخفا بما يراد للشاعر أحيانا أن يكون، كائنا عاقلا، أنيقا في (..-؟-.،هو حاض! في ها كئت أنمذاك)، إذ يكفي أنه كتب ليكون فحسب. فشعره لا يحتاج الى براهين دائمة، متجددة فبرهان واحد يكفي لأنه شاعر تلتهمه روحه ويلتهمها، لتروح تبدد نفسها فوق بياض كريم لا يوازيه في نصاعته إلا بياض كلماته وأنينها، وإن محمولة أحيانا على (تبلي!، توض!يع) وإنشاء، بحبوحة ألفاظ وإضافات وإفاضات. إنه من عهد الينابيع، بياض الفجر، فلا بأس إذا كان شعره هادرآ، فوارآ، هاجمآ بشراسة وحش جريح.


لماذا أتحدث عن محمد الماغوط بهذه اللغة؟ عن هذا الشاعر الذي يقول "عيناي زرقاوان من كثرة ما نظرت الى السماء وبكيت" ؟ عن هذا الذي يصرخ "آه كم أود أن أكون عبدآ حقيقيآ بلا حب ولا مال ولا وطن"؟ عن حارس الليل هذا، عن هذا الطفل الكبير، البدائي، الشرس، العاشق، الرقيق، الشبع، الغريب، المجهول، الساهر، المتسكع!، المسافر، المهرج، المعربد، الشتام، الصارخ، المعترف، السكير، المتشرد، الحزين، اليائس، المدخن، الباحث عن الحرية، العاهر، الحقيقي، العاري، المستشعر لغة اللحم الحي، الشرقي، البدوي، الوحيد، القاسي، الهاشل، الخائب، الثائر، المتمرد،، المتألم كالماء حول السفينة...؟. لان تجربته الشعرية ومنذ زمن الستينات الباهر، هو وأنسي الحاج (على ما لدى الثاني من وهج شعري كياني يرتبط بتجربته، ومن خصوصية كاملة في الهجس، الرؤيا، اللغة، الثقافة، ابتعاد المرمى)، - أكثر من أي شعر لبناني أو عربي، حديث، آخر! التجربتان اللتان جعلتاني آو من (وقبلهما، زمنا، بدر شاكر السياب من موقع شعري آخر، مختلف، موزون، مفعل) بأن الشعر العربي "الحديث"- وقصيدة النثر تحديدا- جدير الى هذا الحد بربط معنى الشعر به.، أعني أن هذا النوع من شعر الحداثة العربية بالذات، شعر التجربة الذاتية (حصه آ)، متمثلآ، هنا، لشعر محمد الماغوط، هو، فى العربية، الشعر الذي أراه يخرج من البكر الالثيذ ارتباطا بالرنا،، الأكثر ذهابآ في جو هر

التجربة الذاتية وتجذرآ فيها. أي أنه شعر ينبع في طبقات العتمة الداخلية، ينبجس منها، ممسكآ بتلابيب البداهات الروحية القصوى، آتيآ من فرادة الأماكن التي تجتمع فيها حقائق الباطن والأسرار واللالئ والدهشات. ثمة تجاوب شعرية عربية كبرى، أخرى، مختلفة وكثيفة ومتنوعة، "هذا النوع" من الشعر يؤتى له أن يكتب، مرة أو مرارآ، وأن يكتب مجددآ على أيدي رواده، وأن تنتظر جديده في السبعينات، الثمانينات، التسعينات الى ما شاء الشعر، على أيدي شعراء آخرين، جدد أيضآ، بلا تكرار، ليصيب، في رأيي الشخصي، في مكمن مختلف عن غيره، مقتل "الحقائق" التي أحمث أن يقترن بها التعريف بالشعر، التعرف إليه.، هي" حقائق" الشعر الكوني في كل لغة وفي كلى مكان وزمان.


" ولدت عاريا وشببت عاريآ كالرمح كالإنسان البدائي"،


يقول محمد الماغوط، و

"يخيل إلي أنني أكثر الأموات كلاما، لقد جئت متأخرا على هذا العالم

كزائر غريب بعد منتصف الليل"

" لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء"،

ف "أيها المارة

اخلوا الشوارع من العذارى

والنساء المحجبات...

سأخرج من بيتي عاريا لأعود الى غابتي".


فبمثل نزف هاتين الوحشية والبدائية، وبمثل هذا العدوان الزاخر بغريزة الشعر، يكتب الماغوط حياته، نثره، شعره، قد صعقني ما يكتبه فأحببته عندما قرأته للمرة الأولى، منذ ان كنت في الصفوف الثانوية، ولا أزال أحبه. فهذا الذي قال يوما:

"سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة

لبنان يحترق

يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء"

و

"ضمني بقوة يا لبنان

ألذ أكثر من التبغ والحدائق"

و

"لا أشعار بعد اليوم

إذا صرعوك يا لبنان

وانتهت ليالي الشعر، التسكع

سأطلق الرصاص على حنجرتي"

، مثله، شاعرا، لا يحتاج الى أن نستضيفه، لأننا ضيوفه على صفحات كانت ولا تزال- في عهد بيروت ولبنان وعهدهما- بيته وموئله. بل موئل المغامرة الشعرية والحرية.وحتى آخرهما.

******

ساعة مع محمد الماغوط

عباس بيضون


(لبنان)

محمد الماغوط لا اذكر أول من قال لي بأن محمد الماغوط لا يتحرك من بيته وانه لضخامة ما صار إليه لا يستطيع أن يشيل جسده. قال انه يشرب نبيذا مخلوطا بالجِن وانه يعرض على طاولته أصنافا كثيرة من القناني الفارغة. ولا يتوقف مع أمراضه عن الشرب والتدخين. لم أكن رأيت محمد الماغوط منذ زمن بعيد، كان حينها ممددا على كنبته يعاني الديسك، لكن فكرة أن يحبس نفسه بين قنانيه الفارغة كانت بالنسبة لي ذات نهايات درامية، كانت تستدعي هاملت ولودفيغ فيسكونتي وحتى طيار سكورسيزي المتأخر، وهم يتحررون من أنفسهم وحيواتهم ويمنحونها بلا حساب لنوع من الانتحار الآلي اللاواعي أو حتى الجنون الإرادي. تحت وطأة صور كهذه. تهيبت كثيرا لقاء الماغوط. لم اعرف ماذا يمكنني أن افعل مع شخص حسم أمره على هذا النحو، كان كل جدل وكل كلام بالتأكيد خلف ظهره، ولم يكن ممكنا ولا حتى أخلاقيا أن أشده من تلابييه لينظر إلى الوراء أو حتى ليسمعني.

في حفل ذكرى ممدوح عدوان رأيت الماغوط على الشاشة، وهو يلقي كلمته في ممدوح. كانت فكرة تصويره ذكية بلا شك لكنها مخيفة. أنها تعكس غيابا من نوع آخر، ليس موقتا ولا عرضيا على الأقل؛ غيابا أشبه بأن يكون طبيعة أو حتى مصيرا. كان التصوير إعلانا عن وجود مهدد، أو وجود معلق، بدا الماغوط في أول الشريط من وراء باب أو ساتر كأنه في مكان لا تبلغه الكاميرا، في داخل خاص، بدا وجهه وجسده ثقيلين ومتعسرين. ثمة صعوبة هنا تطغى على كل تعبير، قام بحركة قبل أن يبدأ القراءة، ربما أطفأ سيجارته وهو يتطلع من وراء عبوسه ونظارتيه السميكتين. بدأ يقرأ لكن الحشرجة ابتلعت أحيانا نصه، كان علينا أن نصيخ جيدا جدا لنلتقط الكلمات. نجحنا في أن نسمع لكن الحشرجة ظلت التي في ذاكرتنا وكأنها الهدير الذي يسبق مرور طائرة. بدت الحشرجة تقريبا الصوت الطبيعي لتلك الهيئة المقطّبة، سجينة مكان ما أو حتى سجينة شيء ما.

في الليلة ذاتها أسرّ لنا محمد ملص أن الشريط ممنتج. قال هذا على كأس، وفي عتمة الحانة جعل تصريحه الأمور أصعب. كان هناك فوق ذلك كذب التقنية، إلصاق ووصل. في ذلك كله ما يوحي أن في الأمر تركيب حياة.

حين تمت دعوتنا إلى زيارة الماغوط تلبكت، لكنني جلست مع جودت فخر الدين وسيد محمود وعبلة الرويني في الجيب وقفزنا في النهار العاصف.


صعدنا طابقا واحدا بحسب سيد محمود تكرر ثلاث مرات. مررنا مسرعين في الكوريدور. كانت تنتظرنا على الباب صبية سلمنا عليها من دون أن نتبادل معها كلمة أو ننظر إليها. تركناها تستقبل غيرنا وأسرعنا في الكوريدور. ها هو محمد الماغوط فارشا جسده على كنبة وقبالته محمود درويش مضغوطا في طرف كنبة أخرى. أيام طويلة انقضت، عشرون سنة تقريبا، لم يتغير. كان فقط في صورة مكبرة، كل ما فيه بالكبير. بدا ذلك أكثر من أن يكون حقيقيا. كان موجودا وكأنه عملاق نفسه. عيناه. عيناه الكبيرتان المسلطتان النافرتان في العادة غدتا هائلتين. كان من الصعب معرفة إذا كانتا بهذا الحجم تملكان النظرة ذاتها، كان وجهه بملامحه المتضخمة اقل هماً مما بدا في شريط ملص، بدا أن (الصحة) طردت كل هم. بلا تجاعيد بدا وجه محمد الماغوط معفيا من العمر، بل معفيا من الوقت، أن لم نقل معفيا من الحاضر، كأنه صار، هكذا، شيئا من الحكاية أو شيئا من السحر. كان بعيدا بهذه الصفة وكأنه في غير لحظتنا وغير نورنا، لم تكن أمامه القناني الفارغة التي سمعنا بها، ربما بالغوا في ذلك. ربما شالوها من أمامه لكنهم لم يشيلوا صينية الطعام الصغيرة الملأى التي ظهر في طرفها كرواسان في كيس بلاستيك. هل استعد لهذه الزيارة المزمعة سلفا. إذا كان استعد فإنه لم يهتم بأن يبدل ثيابه. بقي يرتدي ثلاث كنزات بارزة من تحت بعضها البعض بأي ألوان وأي نسق، أشبه في ذلك بمسني الضيعة الذين يكافحون البرد بكل ما في خزائنهم. لم يلق بالا بالطبع لسروال بجامته. كان مفلوشا على كنبته في تلك الصالة الضيقة نسبيا والتي يتقارب جداراها المليئان بلوحات أصلية نصفها، نصفها تقريبا بورتريهات متعددة الأحجام لمحمد الماغوط نفسه. البورتريهات التي تقدمه في أعمار مختلفة. من أوائل الشباب حتى الكهولة، وبدت شريطا صامتا لحياة محمد الماغوط وشهودا صامتين عليها.

مسرورا كان محمد الماغوط بزيارة ضيوف ذكرى عدوان. كان في هذا تكريم قبله بامتنان وقطر صوته حفاوة بالقادمين. كان هناك في داخل الغرفة درويش وحجازي وفخر الدين وبزيع وسيد محمود وعبلة الرويني وشبان سوريون بالإضافة إلى وزير الثقافة محمود السيد.

لم يقل الماغوط كلمة ترحيب لكنه لم يحتج إلى ذلك. بدت في وجهه.


شاء فقط أن يكلم ضيوفه، اختار أن يبدأ من مطارح حميمة ومجربة. قال انه جاء إلى الأدب بغير استعداد، لم يحلم بأن يكون أديبا، لولا المصادفة لكان تزوج بابنة عمه وبقي في بلدته. يسره كما أظن أن يقدم نفسه على هذا النحو، أن يبدو وكأنه لم يتقصد شيئا، أو انه أكثر فرادة من أن يأخذ شيئا بجد. حياته الطريق. هو ملك التسكع وطفل الحرية، والمصادفات تتكفل بكل شيء. أحب أن يروي مجددا قصته عن دخوله الحزب القومي الاجتماعي، حكاية لا تخطئ أبدا وقعها. روى كيف وجد مكتبه اقرب إلى بيته وكيف أغراه موقد المكتب بأن يدخل ليتدفأ. (لم اقرأ شيئا من أدبيات الحزب)، يصر ولا تعرف عندئذ إذا كان يتنصل من أدبيات الحزب أم من القراءة بجملتها، وتتساءل إذا لم تكن تلك الحكاية الذائعة عن فطرية الماغوط وبساطة ثقافته من صنعه أيضا. قال انه يكتب كل يوم ويملأ دفاتره بقصائد ستظهر بعد ذلك.

بدا أفضل بكثير مما رأيناه في شريط محمد ملص، كان هذا مجلبة لمزاح حول نظرة ملص ونواياه. انتبه الماغوط إلى كلامنا عن ملص لكن فاتته النكتة التي فيه، ظن أن المقصود هو بطء ملص المشهود وقال معلقا انه يفضل ملص لفيلم عنه، لأن فيلما كهذا لن يقيض له أن يراه وربما لن يقيض له أن يرى النور. رفع رأسه وقال لمحمود درويش انه كتب قصيدة عنه، طلب منه محمود أن يقرأها لكنه رفض ولم يلح درويش. نظر إلى أحمد حجازي وقال انه أحب قصيدته لاعب السيرك. قال أن خالدة سعيد نصحته بقراءتها، كأنه بذلك يحافظ على صورته الفطرية ويتجنب أن يظهر محترف قراءة. قال انه يكتب باستمرار. وضع كتابه الأخير الضخم (شرق عدن، غرب الله) على الطاولة وأشار إلى انه أفضل ما كتبه في حياته.


(اكتب للبسطاء والعاديين وهذا الكتاب كذلك). إذا كان هناك كتّاب كثر يفضلون أن يقولوا أن كتابهم الأخير أحسن ما أبدعوه، في إلحاح نرجسي على شباب موهبتهم وفنهم، فإن الذين يفكرون في أن محمد الماغوط تراجع باطراد عن مستوى كتبه الأربعة الأولى انصرفوا عن التفكير في أن ما يعانيه أزمة كتابية. سمع حجازي الماغوط يقرأ عنوان كتابه (شرق عدن) بفتح الدال. كانت هذه مناسبة للتفوق على الماغوط لغويا، سأله حجازي إذا كان يقصد عدن المدينة أو عدن الجنة القرآنية، استنتج أنه لا بد يعني الجنة ما دام العنوان يحوي أيضا (غرب الله). والمناسبة هنا هي بالتأكيد بين عدن الجنة والله، إذا كانت عدن الجنة فلا بد من أنها (عَدْن) بتسكين الدال. استمع الماغوط لكنه عاند في تغيير لفظه، أنها عدن الجنة لكنها بالفتح وستبقى بالفتح. كانت هذه مناسبة عصيان صغيرة، قال انه يعرف اللغة جيدا، قرأ القرآن وكاد يحفظه. لكنه لدى نشر كتبه في بيروت كان لا يتسامح في تصحيح أي شيء فيها ويصر على أن يحتفظ بكامل أخطائه اللغوية والمعنوية والإبداعية (لم يكن الفطري هينا في مواجهة المتضلعين والمعلمين).

سأله حجازي إذا كان يكتب سيرته. قال انه لا يهتم بها، يعنيه دائما الحاضر الذي هو فيه، كان هذا جوابا يقلب كل تكهناتنا.

قال أن أمل دنقل حفظ (الفرح ليس مهنتي) كاملا. كانت هذه مناسبة للحديث عن حافظة دنقل وشعره. وجد من ذكر (لا تصالح). قال درويش انه لا يفضلها ويؤثر عليها ديوان دنقل الأخير (الغرفة رقم 7). أثنى حجازي على رأي درويش لكنه قال أن شعر (العهد الثاني) أيضا رفيع ويزاوج بين (اللغة المقدسة) واليومية، كنا أيضا وبسرعة أمام قراءة أخرى لأمل دنقل.

في استطراد بلا مناسبة واضحة قال الماغوط انه تلقى من السياب رسالة من 18 ورقة كبيرة حبر على وجهيها مديحا مطولا لعبد الكريم


قاسم. قال متأسفا انه فقد هذه الرسالة ولم ادر فيمَ الأسف. أهو لغياب رسالة من صديق أو فقدان وثيقة في محاكمته.

فجأة قال الماغوط انه يريد أن يقرأ قصيدته عن محمود درويش. فتح على صفحة دفتر وقرأ شيئا عن أشجار يمكن أن تغدو قاسية. أفلتت في مواضع في القصيدة إيقاعات قديمة من شعره. كانت القصيدة قصيرة. سمعناها بدون تعليق تقريبا. كان هذا احترامنا العميق للشاعر الذي تربينا على قصائده.


حديث من حجازي عن شعر الماغوط والسخرية العميقة الصادقة في شعره. يدخل شابان يقول المفوه بهما أنهما لم يستطيعا صبرا عن اللحاق بهذه (النخبة من أدبائنا الكبار) وأنهما يستميحاننا عذرا في اقتحام هذه الجلسة واقتطاع بعضها لبث إذاعي. قالا أن الماغوط وافق فلم يجد حجازي ولا درويش بدا من الموافقة. بدا الحديث مع الماغوط اقرب إلى المناكدة. يجيب الماغوط وكأنه فقط يقطع دابر السؤال. أجوبة سريعة تتصنع الضيق (ماذا تحس بعد أن يغادرك الأساتذة) (إنهم معي لا يغادرونني، معي حين اشرب وحين اكتب، معي على الكأس والطاولة وحتى في التواليت). (أستاذ أخشى أن نكون أزعجناك) يصرفه الماغوط بلا هوادة (نعم أزعجتموني). انتقل الميكرو إلى حجازي. سؤال عن الماغوط وشعره. أشاد بما فيه من سخرية ضرورية لكل شعر رفيع، وفجأة سؤال يقطع الجو تماما (هل أنت هنا لتأبين مبكر للماغوط). وقف السؤال في الجو. بقي مسلطا هنيهة كبيرة، كان صدوره من الشاب المبالغ في تهذيبه غريبا للغاية. بدا نوعا من دوي صامت، من فضيحة معلقة. كان وقاحة صرفا، هل كان استعراضا، أم أنها علبة باندورا انفتحت في أعماقنا.


هل خفنا من السؤال لهذا السبب أم تحررنا منه فجأة. أجاب حجازي بأن الموت حق، لعل الشاب شعر بالورطة فغطاها بالهرب إلى الأمام. سأل درويش عن موته أيضا واستغرب درويش (ما لك تحمل تابوتا). قال الماغوط أن الموت فرح. قلل الجواب من الجنائزية التي صارت إليها الجلسة. الموت فرح. الموت حق.. كان واضحا أن الجلسة انتهت، وان على كل منا أن يتساير قليلا مع الشبح الذي خرج من داخله.

السفير- 2005/02/05

********

صوت من سلمية

محيي الدين اللاذقاني


(سوريا/لندن)

صوت من سلميةبعد خروجه من الإبرة يظن الخيط انه هو الذي ثقبها، وبعد مغادرتنا للأمكنة التي نحب نكتشف أنها لم تغادرنا وأننا ثقبنا بفراقها دون ان نبرحها، ولم يكن في الشعر الإنساني كله أرشق من كافافيس، وهو يعبر في "اسكندرياته" عن ذلك المغزى العميق لأمكنة تتغلغل فيها أرواحنا وتأبى ـ وان غادرتها ـ ان تفارقها.

لقد كانت "سلمية" السورية في شعر محمد الماغوط قبل ثلاثين عاماً ونيف، آخر دمعة ذرفها الرومان على أسير فك قيوده بأسنانه، وها هي تعود اليوم في شعر أسامة الماغوط على شكل قبيلة آسرة تظن انك خلعتها فتلبسك عباءة تحت الجلد وليس فوقه وهنا خطورتها.

ها أنت عار من كل قبيلتك ان أردت


تدنو من الخيمة التي تريد


معك رجولة ترفعها كسارية


لكن حين تخرج سأراك تجتر قصة عن أبيك


أو تبحث في الرمل عن صلاة الأم البعيدة

ولم ينس الماغوط الصغير ان يستلف من الماغوط الكبير عبارته المضيئة في الحنين الى سلمية "إنني راحل وقلبي راجع مع دخان القطار" وبهذه العبارة استدعى المقارنة بين سلميته، وسلمية محمد الماغوط وسلمية صاحب الناقة القرمطي الذي دمرها ليتخلص من حبها، وما استطاع الى الفكاك منها سبيلا، فسلمية واحة من العيون الخضر على كتف صحراء عطشى، ولا شيء يغري المخيلة مثل تجاور العطش والري وصراعهما قبل استسلام أحدهما.

ومشكلة أسامة الماغوط في ديوانه الجديد "بوح الحكايا" في كثرة الاستشهادات العميقة ذات المدلولات الوجودية الرهيفة في الشعر والحياة، فهو يستعير لقصيدته "سطور في بقايا دفتر" عبارة ابن عربي:

"كل سفينة ريحها ليست منها فقيرة"

وبعد عبارة بهذا الاختزال والتكثيف ماذا يستطيع أي شاعر ـ وان كان فحلاً ـ ان يقول أو يقرزم..؟

وفي قصيدة "حكاية الشهوة" يستعير من ابن عربي أيضا قوله "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه".. أما من


إليوت فيأخذ لقصيدة "حكاية الحكاية" عبارته التشريحية الموفقة:

"الكتابة تحويل الدم الى حبر".

وفي قصيدة أخرى يستلف عبارة ريلكة "اللغة مسكن الكائن" مع استشهادات وأقوال كثيرة أخرى خلقت له ضمناً مشكلة المقارنات، فمع أقوال من هذا النوع يرتفع سقف التوقع عند القارئ ولا تكون النتيجة لصالح الشاعر مهما كان مجيداً، وأسامة الماغوط من الشباب المجيدين، والإحساس بقصائده وشاعريته سيكون أفضل لو لم يزرع على بواباته تلك المفاتيح التي صكتها القمم من أرباب صناعة الكتابة وأخدان القلم والألم، انه شاعر مميز ذاك الذي يقول:

يا شيئاً من الرمال


وشيئاً من البحر


احترت ما سأكون


فتمددت شاطئا


والذي يقول أيضا:


كل ساعة تمر


تحمل ستين دقيقة معها وتمضي


إلا ساعة حضورك


تحمل ستين حكاية


تبقيها وتمضين

وفي الديوان الصادر عن دار الطليعة الجديدة بدمشق مفارق مشعة كثيرة تنبئ عن شاعر أدرك حكمة كيركهارد:


"تعاش الحياة باتجاه الإمام لكن لا تفهم إلا بالعودة الى الوراء". ومن شأن فهم وجودي يستند الى كيركهارد وابن عربي ومحمد الماغوط ان ينتج شعراً مثقلاً بالبصمات الخاصة والبراعم المتفردة التي وان لم تزهر كاملة في هذا الديوان ـ ولعله الأول ـ فإن الأفق الفسيح ما يزال أمامها لتتفتح على مهلها مالئة فضاء سلمية ودمشق بما يليق بتاريخهما الساحر من العبق والشذى.

المصدر : جريدة الشرق الأوسط 27 نوفمبر 2001

* * *

ما زالت رائحة صوته تتردد في كثير من الوالهين بالكتابة الشعرية

غازي الذيب


(الأردن)

تشبه لحظة اكتشافي لمحمد الماغوط شاعرا وناثرا، سفرا جديدا ورحلة خاصة، لهما طعم الاختلاف والغرابة الممزوجة بالدهشة المثيرة للأسئلة، فهذا الشاعر الخارج للتو من بر الطزاجة اللغوية، والعفوي، صاحب الوقع المفاجئ في الكتابة الشعرية والنثرية، والمتمرد الصاخب، والمندفع في ذهابه للحرية، يمتلك طاقة غير عادية على الجاذبية، بلغته المشفرة والعميقة والبسيطة التي تمنح قارئها خلوصا الى المعنى، وتذهب بالنص الى مناطق ما كان منشغلا بها قبل محمد الماغوط.


كانت الأسئلة وما زالت تتردد في داخلي، حين أصاب بوله ما، وغالبا ما كانت الكتابات الفاتنة هي التي تثير حاستها تلك في ّ، وتمنحني ولهها الفريد، الذي يتمكن من وضعي في دائرة الانشغال بها دون توقف.


ومحمد الماغوط هو الاسم الحركي لبعث هذه الدهشة.


السفر الخاص وطعم الاختلاف.

***

مثل ومض حاذق ينصب فخاخه، يدفعك الى قراءته بنظرة تبدد السكون فيك، تحرضك على أن تخرج على صمتك وسكونيتك المريبة، يدفعك الى الاحتجاج على الصمت، والاحتجاج على الوقوف في متاهة البلادة والبله، يخرج بك من كينونتك الصغرى الى فضاء تسبح فيه طيور زرقاء وخضراء وحمراء وبنية، طيور مشغولة بالتعدد والألوان والتحليق والخروج على الرمادي.


انه شاعر ممتلئ بالقلق، وقلقه معد، يجتاحك، ليعبئك بوجوده الكامل، تقرؤه لتصاب بالألفة، ولتذهب الى مكان جديد، تستطيع أن تصرخ وتضحك وتميل برأسك فيه، ولتقول أنك لا تفهم شيئا منه، أو أنك تفهمه، أو أنك لا تريد أن تفهم أو تريد أن تفهم، فالأشياء تصبح مثار توتر عال حين يكون الماغوط حاضرا، وهذا التوتر يفصح عن حاجة ملحة فينا للانعتاق والذهاب بعيدا في غواية الحرية وذهبها.


قصائده المتناثرة في أعداد مجلة شعر اللبنانية أو السورية ـ لا فرق ـ تشبه الغرابة في امتحانها الأول، الغرابة وهي تحاول قنص مكانها في المفاجئ والمثير والمحمل بالاختلاف، أوقفتني بهدوء عند ومضها الحاذق، ثمة سحب جديدة، وفضاءات ذات لون لم أره بهذه الكثافة من قبل، وعند هذا النوع الجديد من الكتابة التي تسمي نفسها شعرا، ولكنها بلا وزن وبلا قافية وبلا إيقاع مباشر، كنت أمضي باتجاه الاكتشاف، كان هذا في ثمانينيات القرن العشرين، ولم أكن بعد قد قرأت كتابا كاملا الماغوط، الشاعر والمسرحي وكاتب المقالات الإشكالي والروائي لاحقا، فقد كانت كتبه شبه ممنوعة من الانتشار في أمكنة عديدة على ما بدا، ربما لأنها مشحونة بكمية هائلة من الهواء النظيف، مما يفقد الذين أدمنوا تنفس الهواء الوسخ أعصابهم، ويجعلهم يشدونها من الغضب على من يفضحهم،


ويعريهم أمام ضحالتهم، حين يمنعون كتابا أو قصيدة أو مقالا، أو لوحة فنية، كما كان يحدث وما زال، وحتى أجمع أجزاء صورته التي صارت تتقاطع كلما تعرفت نصا أو مقالا له، بدأت أبحث عن كتبه فيما تيسر لي من مكتبات ولدى الأصدقاء، ثم عرفت أنه مؤلف مسرحيات: " ضيعة تشرين " و" كاسك يا وطن " و"غربة " وكان صدى عروضهن يتردد في أنحاء العالم العربي، ومن ثم صنعن شهرة غير عادية للممثل دريد لحام الذي كان يقوم دائما بأدوار البطولة فيهن، وظلت الصورة ناقصة، غير مكتملة، تبحث عن قطع مفقودة في اللوحة، فمحمد الماغوط على ما استطعت أن أعرف من خلال الأجزاء القليلة التي قرأتها آنذاك من كتابته، يصيب بالدوار، كتابته مستفزة وغامضة، حد إثارة السؤال وتعميق السجال فيه، إنها أيضا، كتابة جميلة حتى الألم، مبهرة، تأخذك منذ لحظتها الأولى الى تقليدها، لكنها صعبة الانقياد، جودتها عالية، ونبرتها الإنسانية حقيقية، فبطلها شاعر يعترف فيما بعد أنه كتب وسيظل يكتب، وغير معني بتسمية أو تصنيف ما كتبه كثيرا، المهم أنه كتب وما زال قادرا على الكتابة.

***

توقفت كثيرا عند ما أصابني بسبب مسرحياته التي أثارت جدلا واسعا حين بدأت تعرض في البلدان العربية في السبعينيات والثمانينيات ، وتساءلت عن سر هذه الشعبية العريضة لما يقدمه هذا المسرح ، الذي استحق وعن جدارة أن يكون جماهيريا ، محملا بنبرة صاغها نقاد متعبون من البحث عن مصطلح لائق به واستعاروا تسمية المسرح الملتزم ، ليشيروا إليه دون التباس ، ولأنه يحمل هوية ماغوطية سحرية ، ولم تكن هذه الهوية ، ليلة عرض أحدى مسرحياته في قاعة العرض تترك مقعدا فارغا ، ولم نكن نلمح إيماءة منه في مسرحية لم يكتبها ، حتى نقول : محمد الماغوط هنا أو هناك ، واستطاعت مسرحياته القلية التي عرضتها تلفزيوناتنا العربية بمناسبة وبدونها ، أن تقدم نوعا جديدا من المسرح ، له مفرداته ومضامينه الجادة والجذابة ، لكن هذه المسرحيات التي كنا نشاهدها ، كانت بعيدة عما ضمنه الماغوط بين دفتي كتب ووضعها في مجموعة أعماله الكاملة ، لتقدم لنا مسرحا آخر مختلفا ، يقرأ بطريقة أكثر سبرا لفهم الماغوط عن المسرح ، غير أن الروح الفائضة بالسخرية والتهكم والنقد التي رافقت مسرحياته التي عرضت على خشبة المسرح وشارك فيها دريد لحام ، ظلت تطارد مسرحه المكتوب والأكثر قربا من الجدة ، فحين قرأت مسرحيته " العصفور الأحدب " مثلا ، أصابني بوجع في ظهري لبعض الوقت وجعلني أمتلئ بالضحك المر لوقت طويل .


ان كتابته المؤثرة والعميقة تقرأ الذات، وتتمكن منها بسهولة، حتى وهو يقدم نصا غير شعبي، أو نصا مثقفا جادا ومتزمتا لقوانين اللعبة المسرحية، ويمتلك تلك الصيغ المحمومة بالتناسق والتناغم الهارموني، لكن مسرحياته الشعبية التي كان التلفزيون يعرضها بعد تسجيلها في عروضها على المسرح، كانت تثير رغبتي لمشاهدتها و كانت مع مسرحياته " المثقفة " تجعلني حائرا متسائلا: لماذا يكتب الماغوط نصوصا جارحة كهذه ؟ من أين يبتكر هذه الأحداث ؟ وشخوصه الذين يفرون من جلودنا، لماذا يستلهم من أجسادنا ليعيد صياغتهم بأرواحهم المتمردة والمدمرة بسبب العسف والطغيان والقمع ؟ كيف تمكن من رصد حيوات هذا العالم المريب والقاهر والأسود، بهذه الروح السلسة والبسيطة والبعيدة عن السوداوية المخربة ؟ ما الذي يريدنا أن نفعله من وراء إثارة حاستي التساؤل والتمرد فينا ؟ نعم.سرح هذا الذي يبتكر نظامه من إعادة تشخيص الواقع دون رتوش كثيرة ؟


نعم .. محمد الماغوط معلم كبير في كتابة الحرية والألم والحياة والواقع، سجل اسمه بريشة هذه الحيوات، وهكذا بدأت أتعرفه شاعرا ممتنا للحرية أكثر المساحات توقا لبحثه الإبداعي وانطلاقا في ذاته المتمردة والضاجة بالغناء لها، فهذا الطائر المجروح في الوطن العربي والذي يحمل اسم الحرية، ما هو إلا ابن حلمنا المصاب بالسجون والطغاة، ولأجله يخبط الماغوط أجنحته باتجاهه في حرقته العالية، حرقة كسر القيود التي عرفت لاحقا أنها نهشت الماغوط.

***

علي أن أعترف أن قصيدة النثر التي شغلني الماغوط بها الى جانب عدد من شعرائها العظام، لم تكن تحمل في هوائها غير جهة طلقة وحيدة حين انعتقت في سماء الشعر العربي في الخمسينيات، هي جهة الحرية والتحرر، فما أنتجته تلك الحقبة، وما تلاها من نتاج في هذا الفضاء الفسيح الذي أطلقنا عليه فرحين ومرتبكين اسم قصيدة نثر، كان بفعل توهج الرغبة العربية في اتجاه الحرية، حيث كانت الاستعمارات آنذاك تأكل أيامها الأخيرة، وكانت الحاجة تلح لكي تبني إنسانا عربيا يدرك معنى أن يكون مستقلا، بعدما نسي في حمأة الاحتلالات لأوطانه كينونته ككائن له حقوقه.


الحرية إذن هي التي دلت على قصيدة النثر، في انشغالاتها العظيمة، وفي ترجمتها لهموم الذات ا لعربية، الذات التي تستشعر كمية هواء كبيرة في رئتيها، وعليها ان تتعامل معها برحابة وطلاقة، الحرية التي كانت قصائد ومسرحيات الماغوط تتنفسها بحرية جميلة، حرية، تكون الكتابة فيها تعبيرا خالصا عن الإنسان في تحولاته وتبدلانه وحاجاته.


مجرد قصائد متناثرة في مجلة شعر التي كانت ضمن مجلدات لما صدر من أعدادها، عرفتني بمحمد الماغوط.


لقد حيرتني هذه الكتابة / القصائد، وأمام هذا النوع الجديد منها، حتى في شكله الهندسي، وأمام هذه الانقلابة المريبة التي صارت تذهب بي الى هؤلاء الذين يكتبون بطلاقة لا قيود فيها، محملين بعيون الناس في شوارعنا وهمومهم وآلامهم وغموضهم وانتكاساتهم ( كنت آمل أن أقول أيضا: وانتصاراتهم، لكن.. ) استطعت أن أشعر بالارتباك والحيرة والدهشة في آن واحد. انه عالم جديد.. عالم أوسع مما تخيلت، ومغامروه ليسوا خارج منطقة الحلم الذي أتطلع إليه: التغيير.


أصابتني هذه الكتابة الماغوطية بمسها ، الى جانب كتابات شعرية لـ : فؤاد رفقة وسعدي يوسف ونزار قباني وأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وخليل حاوي والسياب ، وكل كتيبة مجلة شعر التي دفعتني الى أن أقرأها منذ المجلد الأول وحتى الأخير ، وحضتني على القراءة في مداراتها الجديدة والغريبة على ذائقتي التي تعرف الشعر في صورته السائدة آنذاك ، كان هذا الشعر الجديد مبعد عن السياق العام للشعر العربي الذي أعرف شكله وأوزانه ومواضيعه المنشغلة بالهجاء والمدح والوصف والحماسة والغزل والمباهاة وغيرها من التصانيف التي كان يضعها مؤرخو هذه الأنواع ، وعلى ما كنت أظن ، اعتقدت أنني صاحب هذا الاكتشاف الخارق والوحيد لهذا المجال الحيوي من الكتابة التي أسمح لنفسي أن أسميها كتابة حرة ، واعتقدت كذلك أن الماغوط أحد أسراري الخاصة ، الذي ما إن ذكرت اسمه أمام بعض الأصدقاء ، حتى تحسسوا ما يحملونه من كتب ، لكنني لم أهتم لذلك ، ذهبت الى كل تلك الكتيبة ، وبدأت أنحرف عن الكتابة السائدة بفضلها ، وبدأت أعي أن الماغوط واحد من قلة يستطيع تطويع الكتابة الى أن تصبح في متناول الجميع ، ودون أن تظهر على وجهها تلك الثقوب المميتة .


لقد كان محمد الماغوط.. شاعرا نوعيا ، منذ أطلق قصائده الأولى في مجلة شعر وغيرها من الدوريات ، لم يكن عاديا ، ولم يكن منمطا ، أو خاضعا لسيرة " شعر" التي شكلت ما يشبه النهج الكتابي الجديد عندما أصدرتها جماعتها ، لكن كل من كتب فوق صفحاتها كان يحمل حنجرته الخاصة ، يصرخ أو يغني بأوتاره الصوتية هو ، لا بأوتار غيره ، وقد راحت كتابات الماغوط لصناعة مثل هذا التوهج ، الذي شدني ببساطته وغموضه وغنائيته الرفيعة وجموحه وتوقه الحميم للتحرر من فضاء العادي ، والمضي في تمجيد الحياة واحترام المهمل ، ونبش المسكوت عنه وإماطة اللثام عن التفاصيل ، وقراءة اليومي بطريقة تثير الحب واستخدام المفردات الممنوعة دون خوف أو تربص ، وتأنيق النص كما لو أنه زهرة الجمال الفريدة .


ومثل أي مفاجأة حارة، قرأت الماغوط، ليخلف فيّ انقلابا نوعيا في التوجه الى الكتابة الحرة، كتابة العالم والحياة، بكامل بهائهما وغضبهما ونزقهما وتفجرهما وترددهما، وللحق كان شركاؤه في التأثير علي كثر في هذا المدى المؤرق، لكن أثره العذب جعلني أمتن لمنجزه في الكتابة، وأنحاز الى مغامرته التي لم تتوقف حتى وهو يمارس بعض كتابة المقالات في مجلات متناثرة مؤخرا، من باب استعادة الصوت لا أكثر ولا أقل، لكنها استعادة ملتبسة.

****

لقد تسنى لي أن أقرأ بكثافة مبالغ فيها أحيانا، أو ـ ربما مضرة ومسببة للتزمت ـ ما توافر في مكتبة أمانة عمان الكبرى وسط العاصمة، من كتب ونصوص الشعر العربي القديم بفترته الواقعة ما قبل الإسلام وما بعدها، وفي دهشة الاكتشافات الكثيرة التي ارتكبتني حين اقتربت من طرفة وأبو نواس وامرئ القيس والأعشى والنابغة الذبياني ولبيد والأخطل والفرزدق وجرير والمتنبي وأبو تمام وحسان بن ثابت والبحتري وعروة بن الورد وعنترة، وغيرهم ممن هجمت عليهم واحدا واحدا، كي أربي قريحتي على الأصالة، وجدتني ألتفت الى مساحة أخرى، أريد من خلالها أن أتعرف على الكتابة، ليس بمفهومها الذي عودتني عليه قراءاتي تلك، بل بما هو جديد ومغاير، ولكن أين سأجد ذلك، أين سأمسك بنصوص تربكني كالتي قرأتها للماغوط وأنسي الحاج والسياب ؟ أين ؟ وترددت في أسئلة مرتابة تبحث عما هو مختلف: هل شعرنا العربي كامن فيما قرأته من النصوص العربية القديمة والمنشغلة بالفخامة الأسلوبية، الذاهبة في تقاليد القصيدة الكلاسيكية الى أقصى عنايتها بالإيقاع والوزن والمعنى والتركيب والصورة ؟ أين المختلف من هذا الشعر المتفارق والجديد مع الشكل الهندسي والروح للقصيدة العمودية ؟ لم يكن هذا هجاء للكلاسيكي بقدر ما هو بحث مضن عما يمكنني من ممارسة ما قام به الكلاسيكيون أو القول. بعض مراحل توقدهم من بحث وخروج إلى مناطق جديدة في تصوراتهم عن الشعر والكتابة والقول.


لم أكن بعد قد وعيت أن مثل هذه الأسئلة ستقودني الى معركة عنيفة: التمسك بالشكل الذي عرفته للقصيدة والشعر العربيين أم التحلل منه، والبحث في مناطق أخرى تساعدني على قراءة تشبع حواسي المدربة على فخامة القصيدة الكلاسيكية، وآنذاك كنت قد بدأت أعنى بقراءة الكلاسيكيين العرب الجدد أمثال عمر أبو ريشة والجواهري وأحمد صافي النجفي والزهاوي وإبراهيم ناجي والياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي وإبراهيم طوقان وأبو سلمى وغيرهم، لكن تلك القراءات ما دفعت بي الى الاسترخاء في هدأتها، فالنفس أمارة بالخروج الى مناطق لم أعرفها من قبل، والنفس مشدودة الى المغاير، الذي كنت أقرأ بعضه لماماً في هذه الصحيفة أو ذاك الكتاب، والمغاير هو تلك النصوص كان تعرفي عليها، محروسا بخوف شديد من أن تتسرب إلى، بحكم التقاليد التربوية في مدارسنا، لذا اقتصرت قراءتي لها على التعرف على هذا النوع الكتابي الذي حاولت أن أرغم نفسي على عدم الاقتراب منه كثيرا، وبقليل من الجرأة تقدمت الى أرفف المجموعات الشعرية العربية الحديثة، قرأت نزار قباني في غزلياته الفاتنة، وهجائياته، قرأت السياب في أساطيره وانشغالاته التموزية، قرأت خليل حاوي الخارج على أعراف القصيدة العربية السلسة، قرأت بعضا من محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو، قرأت لكتاب قصيدة التفعيلة الذين مر بعضهم علي في مجلة شعر سابقا، لكن محمد الماغوط لم يحضر في مجموعاته الشعرية بعد، وكنت بحق أتشوق لكتاباته الشعرية والنثرية، وأتحين الفرصة لأجد شيئا منها، لكن ذلك لم يحدث إلا في وقت متأخر، فمع نهاية الثمانينيات، بدأت أحصل على كتب هذا الشاعر الذي حين قرأته أول مرة، فاجأني باستخدامه لبعض المفردات الضالة في الكتابة العربية، فأعاد لها رونقها، ووضعها في سياقات ارتاحت الكلمات لها، فبدت وكأنها جديدة، ابنة اللحظة الراهنة.


وبعدها تسنى لي قراءة ما صدر من أعماله الشعرية والمسرحية والمقالات، وعرفت أن صورة محمد الماغوط لا يمكن أن تكتمل بقراءة شعره ونثره وحدهما، وستظل ناقصة الى حين أن أراه، لكن محاولاتي لرؤيته باءت بالفشل، فحين زرت دمشق ليوم واحد، بحثت عنه في مقهى الهافانا كما قالوا لي، لكنه في ذلك اليوم الذي نسيت تاريخه من عام 1993لم يكن حاضرا، ثم غادرت الى اللاذقية، لأقيم فيها بعض الوقت، لكن الماغوط ظل ماثلا، ابحث عنه في مكتبات اللاذقية، وهناك وجدت بعض أعماله التي رافقتني أثناء زيارتي القصيرة والوحيدة لسوريا، فقرأتها مرة أخرى.


وحين صدر له رواية " الأرجوحة " وكتاب " سأخون وطني " عن دار رياض نجيب الريس، بعد غياب طويل نسبيا عن النشر والكتابة، كان محمد الماغوط هو هو، لم تتغير نبرته الفذة في اقتفاء أثر الحرية والمعادن النبيلة في الحياة وفي الكتابة، كان صوته رغم سني عمره المرهقة، ورغم المرض الذي أخذه الى أحد مستشفيات باريس قبل أعوام، عاليا ونقيا، لا تشوبه ارتجافة الوهن ولا سنوات الكهولة، كنت أتلمس فيه ذلك الشاب الذي قرأته قبل سنوات بعيدة، والذي أدهشتني حكايته حين كتب مسرحيته العصفور الأحدب في قبو، وكان متخفيا عن الأنظار لأنه مطارد ومطلوب لأسباب سياسية.


على يديه تعرفت طويلا على الهواء الطلق للكتابة المفعمة بالحنكة والجرأة والبعيدة عن المباشرة الفجة، وعلى يديه تمكنت من تذوق فاكهة جديدة من شعرنا العربي، فهو واحد ممن شكلوا وعي أجيال من المثقفين والشعراء والكتاب العرب، وما زالت رائحة صوته تتردد في كثير من الوالهين بالكتابة، ولن اغفل أثرا له في كتاباتي إذا ما دققت فيها قليلا.

ملف جريدة (الرأي) الأردنية

**********

Saturday, July 4, 2009

مسرح الماغوط: الكتابة بالسكين ...

صلاح حزين
(الأردن)

محمد الماغوط

السكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).
تكاد هذه الأفكار أن تكون قاسما مشتركا في أعمال الماغوط جميعا من شعر ومقالة ومسرح، ولكن بسبب الطبيعة الخاصة بالمسرح، باعتباره الفن الذي يطرح القضايا الكبرى للإنسان والمجتمع فإن السخرية تصبح أكثر حدة وتتسع مساحتها لتشمل الحاضر والماضي ولا تترك فسحة من الأمل للمستقبل في لوحة سوداء قاتمة لا تخترقها سوى أغنية شجية تنبعث من عمق المشهد أو نشيد حزين تتردد أصداؤه في جنبات المسرح.
مسرح محمد الماغوط مسرح أفكار أساسا، ولكنه لا يعبر عن هذه الأفكار من خلال أحداث متسلسلة تتطور دراميا نحو ذروة تحل في نهاية المسرحية، وعلى إيقاع هذه الأحداث تتطور الشخصيات وتتحدد مصائرها كما هو شأن المسرح التقليدي، بل من خلال معادلة مختلفة تماما، معادلة تتوالي فيها المشاهد واحدا إثر الآخر لترسم في النهاية صورة المجتمع الذي نعيشه وموقع المواطن فيه، وهي في العادة صورة داكنة لمجتمع منخور، أما موقع المواطن فيها فأكثر المناطق سوادا.
المعادلة المسرحية لدى الماغوط تبدو بسيطة لا تعقيد فيها، فهي تنطلق من وضع المجتمع أمام تناقضاته مباشرة، من دون أي محاولة للتنميق أو التجميل أو التزيين. تناقضات اجتماعية وسياسية وثقافية وقيمية تبدو في كثير من الأحيان مضخمة في صورة كاريكاتورية تستثير ضحكا أسود كالبكاء. والشخصيات في مسرحياته تنتمي إلى ذلك النوع المعروف بالشخصيات المسطحة(Flat Characters) ، وهي الشخصيات التي لا تتطور دراميا على مدى زمن المسرحية، ليس لعيب في تركيبها الدرامي أو في رسمها، بل لأنها تمثل قيمة ما أو طبقة أو فئة اجتماعية؛ في مسرحيات ضيعة تشرين وغربة وكاسك يا طن وشقائق النعمان، تقف كل شخصية فيها لتمثل فئة اجتماعية أو قيمة إنسانية ما. في "ضيعة تشرين" و"غربة" هناك المختار الذي يمثل السلطة، وهناك سكان الضيعة الذين يتوزعون على الفئات الاجتماعية المختلفة، وبعضهم يمثل قيما إنسانية نبيلة أو قبيحة؛ المدرس الذي يريد نشر التعليم بين جمهور الضيعة الجاهل، والعجوز غربة، التي تمثل الجانب المشرق والإنساني في مجتمع القرية، وفي "كاسك يا وطن" هناك المواطن المسحوق الذي يجاهد يوميا حتى "لا يبقى لديه من الوقت ما يمكنه من شكر الحكومة على كل ما تقدمه لمواطنيها" كما يقول. وفي المقابل هناك عشرات الانتهازيين والوصوليين، وهناك الجلادون بالمعنى الحرفي للكلمة، وهناك الناس العاديون الذين يعانون من الجهل والمرض والفقر من دون شكوى أو تذمر مستسلمين لها وكأنها قدر كتب عليهم، وفي شقائق النعمان هناك الشهيد الذي يفترض أن يمثل في بلادنا قيمة سامية، وهناك السكان العاديون الذين يتوزعون على الوطن العربي بأكمله.
على المستوى الفني تتحول هذه الشخصيات إلى شخصيات رقمية يلعب كل ممثل عددا كبيرا منها في محاولة لكسر الإيهام وتحويل الانتباه إلى خشبة المسرح للحؤول دون الاندماج مع ما يجري عليها بل اليقظة تجاهها، بطريقة تذكر بأسلوب بريخت الشهير القائم على التذكير بأن ما يجري على خشبة المسرح ما هو ألا رواية تروى. وقد مكن ذلك الماغوط من أن يوظف أكبر عدد ممكن من الأساليب الفنية لتعزيز أفكاره تلك من الميلودراما التي كثيرا ما نراها في قصة حب تنسج بين شاب وفتاة على هامش أحداث المسرحية، وحتى الفنتازيا التي تأتي من خلال مزج الأزمنة في مشهد واحد، في مسرحية "شقائق النعمان" يظهر أحد الخلفاء العابثين وهو يدندن بأغنية حديثة، أو من خلال مشهد يقف فيه المواطن البسيط في "كاسك يا وطن" على قارعة الطريق عارضا أبناءه للبيع. أو من خلال شخصية المرحوم، ذلك الميت الذي يشكو من الظلم الذي يلاحقه حتى بعد أن رحل من الدنيا إلى الآخرة.
في مسرحية "المهرج" يلجأ الماغوط إلى حيلة مسرحية مختلفة عبر مقابلة الماضي بالحاضر وهي حيلة أصبحت أثيرة لديه فكررها في معظم مسرحياته اللاحقة، وتقوم المقابلة في "المهرج" عبر استحضار شخصية "صقر قريش"، تلك الشخصية المبجلة في تاريخنا العربي ويحكم عليها بالعيش في زمننا الحاضر لتبدو المفارقة ليس بين مستويات اجتماعية مختلفة هذه المرة، بل بين ماض نعتبره مجيدا وحاضر لا مجد فيه على الإطلاق. والأوضاع المريرة في مجتمعاتنا الراهنة ليست نقيضا لتاريخ عربي مشرف ومضيء كما تذهب الأفكار الإنشائية المتداولة بكثرة في بلادنا، بل هي استمرار لذلك التاريخ، وهي منبثقة عنه. وهذه الأوضاع المهلهلة اليوم ما هي إلا تعبير حديث عن أوضاع أكثر هلهلة كانت سائدة في بلادنا في الماضي، وهي بالتالي الابنة الشرعية لذلك التاريخ الذي لم يكن مشرقا ومضيئا كما يقال، فهو في الحقيقة ممتلئ دما ورؤوسا مقطوعة وجثثا ممثلا بها، وأسلافنا العظام لم يكونوا في الواقع شجعانا عادلين مؤمنين بالضرورة بل كان فيهم المتهتكون والماجنون وعبيد الشهوات والملذات وصرعى الغواني.
المقابلة بين الماضي والحاضر موضوعة أساسية في مسرحيات الماغوط. ففي "ضيعة تشرين" يشير المواطن البسيط الذي يؤدي دوره دريد لحام إلى الأندلس باعتبارها وطنا سليبا، وإلى القصائد التي تقال في استرجاع فلسطين قائلا "إن لديه شعرا يستطيع أن يسترجع به الأندلس". وفي "كاسك يا وطن" تحضر الأندلس حين يتذكر ذلك المواطن أن العرب هم الذين كانوا يمثلون الاستعمار هناك.
في مسرحية "شقائق النعمان" يرسم الماغوط مقابلة الماضي مع الحاضر على مستويين مستوى مقابلة الحاضر البائس مع الماضي القريب الذي يتمثل في عودة الشهيد (دريد لحام) ليكتشف أن أخاه قد استولى على إرثه ولم يبق له شيئا فيضطر للسكن في المقابر، ومقابلة الحاضر مع الماضي البعيد حيث الخليفة يلاحق غانية في مشهد ويأمر بقطع رأس أحد المعارضين في مشهد آخر لتكتمل صورة الماضي الذي لا يقل بشاعة عن الحاضر.
لكنه في مسرحية "المهرج" يسترجع الماضي ليقول شيئا مختلفا، فهو يسترجع الماضي في صورة شخصية عبد الرحمن الداخل "صقر قريش"، الذي يجد نفسه في مواجهة آلة القمع في الوقت الراهن بما فيها من حداثة وقسوة فيضعف أمامها ويتحول، هو البطل التاريخي الهارب من بطش العباسيين وفاتح الأندلس ومؤسس الخلافة فيها، إلى جبان رعديد غير قادر على الصمود أمام آلة القمع الحديثة الجبارة.
لقد نظر الماغوط حوله فرأى القتامة والسواد والخراب. لم يهمل الناس البسطاء الذين يجابهون كل هذا الظلم بالصبر وبالأغاني الجميلة، ولم يتجاهل وجود أوجه للخير في مجتمعاتنا، ولكنه الخير المسروق دائما حيث يكافأ الشهداء بالطرد والزجر والإقصاء، و يكون مصير أبنائهم الإهمال والحرمان والتجاهل. ولم ينس الماغوط أن هناك كوى للأمل في هذه الصورة السوداء، لكنها بالنسبة له مجرد كوى متناثرة هنا وهناك، أما مجمل الصور فقتامة تشمل الماضي والحاضر وتلقي ظلالها على المستقبل، لذا فقد اختار الاستفزاز والكتابة بالسكين، فمن غير الماغوط يمكنه أن يعطي أحد كتبه عنوانا مثل "سأخون وطني"؟ أو لمسرحية عنوانا مثل "كاسك يا وطن"؟

ملف جريدة (الرأي) - الأردن

***********

كأن الزمن لم يبرح مكانه ....

سيف الرحبي
(عمان)

سيف الرحبي

لم يكن محمد الماغوط، في انطلاقته الأولى ذات النزوع المغامر، يتبين خيطا من وضوح، لما ستؤول إليه تجربته الشعرية، وربما من هنا تأخذ صفة المغامرة جدارتها، في مناخ شعري يسود فيه ما هو مخالف لذلك الصوت الملتبس القادم من ضباب التخوم النثرية التي ستكون لها سطوتها وحضورها.
حين قدم أدونيس، الماغوط في إحدى مناسبات مجلة (شعر) وقرأ بعضاً من شعره من غير ذكر اسمه، ذهب التوقع الى أسماء ومرجعيات أجنبية، فرنسيه على الأخص، ولم يذهب الى ذلك الشاب المرتبك، القادم من الوهاد السورية الذي كان يجلس بينه (الحضور) والذي كان مسلحاً بموهبته وثراء أحاسيسه الفطرية والغريزية، التي ستكون وقوده الشعري في مقبل الأيام...
هذا الحدث الدال لهذا القادم الى بيروت، أسوة بأدباء ومبدعين سوريين، هذه المدينه المختبر، المحتدمة بالسجال الثقافي والفكري والشعري. لم يكن هذا القادم يمتلك تحصيلا دراسيا وأكاديميا يعين موهبته على فرض نفسها على نمط أقرانه، في هذه الأجواء المعبأة بالمشاريع والأحلام.
لكن الماغوط بموهبته وبذلك المناخ الليبرالي الفريد، خاصة مناخ مجلة (شعر) وجماعتها ذات المنابت والوجهات المختلفة، التي كانت تأخذ بمثل هذه المواهب الباحثة عن أفق، عن موطىء قدم في غابة القمع والسحل والإلغاء، من أقطار عربية مختلفة متجاوزة (دوغما) التصنيفات والتصورات القطعية التي كانت مزدهرة مع صعود الإيديولوجيات السياسية التي لم تكن تعتبر الأدب والشعر ذا أهمية إلا إذ كان متطابقا مع تصوراتها وبرامجها حول المجتمع والتاريخ.
لم يكن محمد الماغوط من الأساس، معنيا بتلك الأيديولوجيات يسارها ويمينها، التي مر عبر (مطهرها) اليسارية خاصة، معظم الأدباء والكتاب، فتكوينه الشخصي والشعري مفارقا لذلك التأطير والقولبة ولتلك التصورات الجاهزة السهلة، هناك آخرون بالطبع يندرجون في هذا السياق لكن الماغوط كان أكثر حديه ومزاجية وأكثر ميلا الى التحرر من أعباء تلك المعايير الناجزة في السلوك والشعر..
وهو لا يخفي تبرّمه وضجره البالغين من ذلك حتى فترة متأخرة من عمره، أي مطلع الثمانينات على ما أذكر، حين كنت أعيش في دمشق وسألته إحدى الصحف السورية في سياق مقابلة معه، عن ما يزعجه في تلك الأيام فقال (الضجر والشيوعيون) مثل هذا الكلام في ذلك المناخ المحتدم برايات اليسار وتطلعاتهم، يعتبر جرأة تصل حدود الانتحار الثقافي.

***

لم يكن الماغوط بحكم حدية مزاجه الشعري يمكنه الاندراج ضمن مشروع جماعي، ليس في السياسة التي لم تعرف عنه أي محطة مر عبرها، تبشّر أو تدعو الى يقين مستقبل ما، لفكر ضمن منظومة أفكار تلك المرحلة التي تبينت هشاشتها أمام أي ارتطام بالوقائع والتاريخ.
كان ذلك المزاج بنزعته الكارثية بمثابة حصانة، حصانة اليأس. واستشراف الشعر من غير تنظيرات ولا مقدمات منطقية ...
لم يكن الماغوط يندرج حتى ضمن تصور شعري جماعي، حتى قصيدة النثر التي يكتب في إطارها. لم يكن يهمه الدفاع عنها والذود عن حياضها المنتهكة من أكثر من طرف وجهة. كان يعبر صراحة وضمنا عن رأيه، بأن المسألة لا تعنيه كون هذه الكتابة تندرج ضمن ما يدعى بـ(الشعر) أو (النصوص) أو غيرهما.
كان حدْسه يقوده إلى جوهر الشعر، إلى روحه وحقيقته الداخليّة. كان ابتعاده عن السجال الدائر بهذا المعنى؛ جزءا من قناعة ضمنية بلا جدوى مثل هذا السجّال، وأن الشعر يقع في مكان آخر، بلا جدوى مثل هذا النقاش الذي ما زال على أشدّه حتى اللحظة الراهنة، أي ما يربو على الأربعة عقود. ما زالت مفردات وآليات الكرّ والفرّ والهجوم والدفاع قائمة فكأنما زمن الثقافة العربية لم يبرح مكانه، جامد ومتخشبّ كالحياة نفسها.

***

لم يبتعد كثيرا حضور ندوة (شعر) في إشارته إلى أسماء أجنبية، حين كان أدونيس يتلو مقاطع من شعر الماغوط، في انطلاقته الأولى، لأن تلك الأسماء كانت حاضرة في شعره بطريقة ما.
ربما لم يسمع الحضور أو بعضه من الشعر الذي يتوسل السلف الغربي بمثل هذه الخصوصيّة والفرادة وهذه النكهة الشخصيّة والتحرر، فالذين حذوا قبلاً حذو ذلك السلف كانوا مشدودين إلى أشكال وإيقاعات خارجيّة غالبا. لم يطرقوا بوابة النثر. بوابة التعبير الأرحب، والأشدّ إلتصاقا بالحياة والواقع مثل الماغوط.
السلف الغربي في الشعر العربي، حاضر في شعر الماغوط عبر الترجمة، لكنه حضور مُذاب في التجربة الشعريّة الخاصة التي لم تقع في التقليد الفج والمحاكاة. وبحكم ثراء مخيّلته وتلك النزعة الوحشية، المضطربّة، كانت استفادته من أفق الترجمة وهضمه، أفضل من كثيرين قرأوا بلغة أصليّة، مثلما أشار أحد النقاد الإنجليز، إلى استفادة (شكسبير) من (تحولات) (أوفيد) عبر الترجمة، هو الذي لم يكن ملماً باللغة اللاتينيّة مثلما كانت عليه النخبة الكاتبة في تلك المرحلة، فكانت استفادته عبر موهبته الخارقة، تحوّلت إلى كشف إبداعي في التاريخ.. المقارنة هنا لا تتعدى الإشارة إلى الأهميّة الحاسمة للموهبة والاستعداد الأولي في هضم المرجعيّات الأخرى في سياق أفق الشاعر والكاتب.
حضور، (شعر) لم يبتعدْ في توقعه، لكن الماغوط كان يساهم بصمت في رسم أفق آخر للشعريّة العربية.

***

وكمتشرد أصيل في الحياة واللغة وإن كانت الأولى لم تتعّد بيروت ودمشق كإقامة ومعيش، لكنها كهاجس وحلم شملت العالم بأصقاعه وقاراته، انطلاقا منهما؛ من الشوارع والأزقة، والحانات، والمقاهي، لفافات التبغ، العرق، العاهرات، الخيانات، الموت، الإحباطات الجاثمة والثورات المجهضة وذلك النسر الهرِم... الخ. كمتشرد أنزل اللغة من علياءها البالغ التجريد، إلى مفردات الواقع والأشياء المبعثرة، البسيطة المهملة للحياة اليوميّة وبشريّتها السارحة على بركة الله، تحت سقف أنظمة قاسية.
بساطة تلك المفردات التي توحي بأنها متداولة وعاديّة، لا تفتأ أن تتغير، طبيعتها في الدلالة والنبرة، بدخولها إلى مناخ النص الماغوطي، لا تفتأ أن تهجر عاديّتها إلى أفق آخر يسِمه بعض التعقيد، أفق الشعر والعزلة واليأس وانكفاء التاريخ على نفسه كقدِر من اللبن المتخثرّ في مواقد البدو.
تدخل تلك المفردات العاديّة إلى الأفق الشعر الكلي.
تكثر أداة التشبيه في شعر الماغوط وكتاباته، من بين تقنيات أخرى، تنتشل المفردات المتداولة إلى أفق الكثافة والتغريب. وان كانت في أماكن كثيرة تصيب النص بنوع من الوهن والتكرار. كلمة (تقنية) نستخدمها إجرائيا في شعر الماغوط، أي لا تذهب بنا المفردة- المصطلح إلى كون الماغوط يخطط ويبني ما يشبه المعمار الهندسيّ الدقيق. فشعره اقرب إلى صرخة الألم والاحتجاج وأقرب إلى العفويّة والتلقائية.

(ياعتبتي السمراء المشوهة،
لقد ماتوا جميعا أهلي وأحبابي
ماتوا على مداخل القرى
وأصابعهم مفروشة
كالشوك في الريح
لكني سأعود ذات ليلة
ومن غلاصيمي
يفور دم النرجس والياسمين)

تلقائية وعاديّة لكنهما يندرجان ضمن مناخ شعري مشترك الأواصر والسمات للجو الكليّ للقصيدة.
من هنا أعتقد أن الماغوط أثر في الشعر العربي الجديد على غير مسلك أو طريقة واضحة تماما فهو ليس صاحب معمار هندسي تنبني على أساسه قصيدته وتسطع أفكارها في دروب المخيلة على نحو من ضبطٍ وحساب وعقلنة في العبارة والصورة، إنه أقرب إلى التفجر الجوّاني والانفلات، وربما من هنا خطورة تقليده ومحاكاته من قبل شعراء في بداياتهم، الماغوط يستقطب قارئه المشغوف بقراءته عبر لعبة فنيّة خادعة في بساطتها وجاذبيّة هذه اللعبة وبريقها البراّني يخفيان منحا دلالياً أكثر خطورة خاصة في نصوص وقصائد بعينها. والمسلك الثاني، ذو القيمة الفنيّة يشبه مسلك الماغوط التأثري الذيّ أحاطه بذلك الضباب من الالتباس في مناسبة (شعر) وجعل الأصابع تشير إلى رامبو بودلير وإليوت ولماذا لا فهذا موجود في بعض نصوص الماغوط الجميلة؛ وهو المسلك بجانب موهبته الأكيدة، قد تخففّ من ضغط البدايات واندهاشها بالآخر، وفي هذا المسلك يتم هضم إنجاز الماغوط في سباق خاص، ربما أقوى وأكثر قيمة وربما أقلها، وهو يحاور النص الماغوطي من موقعه الخاص مستثمراً بعض إنجازاته الفنيّة وهو يحلّق نحو أفق آخر، تمليه لحظة تجربة شخصيّة وتاريخيّة مختلفة، وعبر تأمل آخر في الأسلوب وعناصره وتعدد منطلقاته وزواياه.

***

(مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير
أناشدك الله يا أبي:
دع جمع الحطب والمعلومات عني
وتعال لملم حطامي من الشوارع
قبل أن تطمرني الريح
أو يبعثرني الكنّاسون
هذا القلم سيقودني إلى حتفي
لم يترك سجناً إلا وقادني إليه
ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه)

هذه النبرة المأساوية، هذه الصرخة الملطخة بدم الاستغاثة هي من السمات الجوهريّة الأصيلة في شعر الماغوط ومسرحه وخواطره، لكن الزمن العربي خاصة والكوني، مضى ويمضي في قلب صيرورة احتشدت فيها كل عناصر التراجيديا وعتوّ قدرها ورعبها، بحيث أن أنبياء (التشاؤم) واستبطان وحشيّة الوجود والشر، ومن نُعتو بذلك، سيصيبهم الخَرَس أمام هذا المشهد المكتظ بأنقاضه وفنائه، والمكتظ بغياب القيم الروحيّة والمشاعر... وسوء طويّة الكائن البشري الحديث.
لم يعد هناك ((الأب)) الذي يتوجه إليه الماغوط أو غيره بالنداء، بالاستغاثة ورغبة الإنقاذ، صار الهلاك شهية الكائن وطعامه اليومي.
لقد توارى (الأب) تماماً، فرّ من هول المشهد أو داسته الأقدام وسط هذا الزحام العنيف.
ما الذي يشعر به قارئ الماغوط في هذه اللحظة بعد كل هذه التحولات والمجازر، ما الذي يقول ويشعر قارؤه بعد أن أوغلنا في قلب النفق، وما كان نبوءة واستشرافاً شعريا، أصبح واقعا عاديا مفرطا في عاديّته وألفته التي ينكسر أمامها ذلك الحزن الغنائي الشفيف في ضوء القمر، ليتحول إلى حزن سمكة القرش الأسطوريّة وهي تفترس صغارها وبشرها في مشهد قيامي بالغ القتامة والحلكة؟
ما الذي يشعر به قارئ الماغوط أمام تطور العبارة الشعريّة العربيّة أمام تلك التركيبات والثنائيات المبنية غالبا على المفارقة، نحو أفق أكثر تركيباً وتعقيداً بالمعنى الفني والدرامي للشعر والكتابة والزمن؟
ما الذي يتبقى من تلك القصائد التي هي ليست أفضل ما كتب، الماغوط، والتي تتبدى كألبوم تجميع لصور الحزن والألم والغربة والقمع والقدر الجبْري المظلم، التي تتبدى تجميعا شبه معلب برؤية مسبقة، وليس بحثا مضنيا في أحشاء الوجود واللغة؟؟
ما يتبقى من الماغوط الكثير.. وكما أشارت الشاعرة سنية صالح بأنه من أوائل من حملوا بوادر قصيدة النثر.. وأعتقد أنه وصل إلى أبعد من هذا الحمل، الى مناطق مدهشة في ضواحي هذه القصيدة التي باتت تشكل ما يشبه (سنترا) أو متناً إذا كان لهذا من أهميّة.
أشير في هذا المقام الإحتفائي برموز وعلامات في تاريخ الشعريّة العربية الحديثة وقصيدة النثر بشكل خاص، إلى أهمية الاحتفاء والكتابة والتقييم لواحد من أهم هذه العلامات وأكثرها بحثا وعمقا واستيعاباً للمنجز الثقافي العالمي وسطوعاً في سماء قصيدة النثر، هو توفيق صايغ الذي عانى الإهمال والقمع في حياته التي أفضت إلى الانتحار وما يشبهه وما زال يعانيه بعد موته بقدر كبير من التغيب والتهميش بقصد أو بدون قصد.

ملف جريدة (الرأي) -الأردن

****


لكن الحياة تتغير يا أبانا محمد ...

شاكر الانباري
(العراق/سوريا)

شاكر الانباريسلمان تمام، ينتمي الى قبيلة بني لام، التي ينتسب إليها أيضا جمعة اللامي، هو من كتب الروايات والقصص عن تاريخ هذه القبيلة المنتمية الى طائفة الشيعة، وتسكن الأهوإر جنوب العراق، وفي مدينة الناصرية تحديدا. سلمان تمام كان واحدا من زملائنا في جامعة السليمانية، وهي من مدن كردستان العراق. كان يدرس الهندسة الزراعية،، هو شاب اسمر يشبه إلهاً سومرياً. قصير وسمين قليلا، صعلوك حقيقي من صعاليك الجامعة. أما أنا فكنت ادرس الهندسة المدنية، أيام كان المهندس واحداً من نخبة المجتمع. ما كان يميز سلمان تمام أكثر من غيره، ليس مواصفاته الجسدية، ولا شبهه بالسومريين، وإنما حفظه لكل شعر محمد الماغوط تقريبا. كان مهوساً بمحمد الماغوط. يفطر على قصائده، يتغدى بطرائفه، يتعشى بذكره.ولم نكن نعرف لماذا. كان يترنم بقصائده في المقاهي، في جلسات الشراب وعند أروقة الكلية، وفي السفرات الجامعية، حتى أوشكنا نؤمن ان سلمان تمام القادم من الهور، وكيل الماغوط الثقافي في جامعة السليمانية. ليس هنا الغرابة أيضا. المسألة ان سلمان تمام راح يعيش حياته اليومية طبقا لفلسفة الماغوط، المتشائمة من الواقع العربي، المتشكية من الحظ البائس، غياب العدالة السماوية،، الكفاف البشري في الحياة. لازمة سلمان الدائمة هي: أنا سأرفع رسالة الى الله، ممهورة بعذاب البشر، لكن كل ما أخشاه ان يكون الله أميا. ربما لم تكن القصيدة هكذا بالضبط، لأني اعتمد الآن على ذاكرتي، إلا ان جوهر القصيدة هو ذاك. يردد تمام هذا المقطع كلما رسب في الامتحان أو غابت عنه محاضرة مهمة أو أفلس وبدأ الجوع يعضه ولا يجد من يستدين منه.

اعتقد ان سلمان تمام استسهل قصائد الماغوط، لذلك كان يقف الى جانبه ومعجبا ومحازباً، وكلما جاءت المساجلات لتقارن بين أدونيس ومحمد الماغوط، في جلساتنا الخمرية التي كنا نجريها في نادي نقابة المهندسين، وهو ناد يقع وسط المدينة. والسليمانية لمن لا يعرفها، مدينة محاطة بالجبال، أسماء جبالها هي بيره مكرون، كويجة، قرداغ، وكانت في ذلك الوقت تشتعل بالنار ليلا. نراها ونحن جلوس الى كأس من العرق المستكه، نتجادل حول محمد الماغوط ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وقصيدة النثر الوليدة آنذاك. ذات مرة حرف سلمان تمام واحدة من قصائد الماغوط التمردية، قال بصوت عال: " أنا الشاعر من جبل بيره مكرون الى قرداغ". فما كان من أحد الشعراء الأكراد، الجالسين الى طاولة قريبة منا إلا ان رد عليه بصوت أجش: اخرس أيها الصعلوك. وكادت ان تقع مشاجرة حول قصيدة الماغوط في الظاهر، لكن الحقيقة هي وجود الحساسيات القومية وتوتر الوضع في كردستان العراق، التعريب الجاري على قدم وساق. وكاد ا المسكين سلمان تمام ان يذهب ضحية الماغوط الذي كان وقتها يعب العرق إما في بيروت، أو في دمشق، من دون ان يعرف ان شبابا لم تصل أعمارهم الى الخامسة والعشرين، في مدينة تختبىء وسط الجبال، يخوضون حروباً حول قصائده. وما كان يشعل النقاش وقتذاك سؤال هل ان قصائد الماغوط يمكن اعتبارها شعرا أم لا؟ كونها ليست موزونة، لا تتكىء على تراث القصيدة العربية؟ وهل يكتب الماغوط بهذه الطريقة لأنه لا يعرف الأوزان ليس إلا؟ أو هل يمكن كتابة القصيدة من فكرة عارية فقط؟ ولما كان معظم أصدقائنا وفي مقدمهم سلمان

تمام، لا يعرفون الوزن لكنهم يحبون الشعر، فقد هبوا يكتبون قصيدة النثر على شاكلة محمد الماغوط. يكتبونها في مقهى الجامعة، وفي الحدائق العامة، وقبل النوم على الأسرة، وفي المراحيض قبل ان يستمنوا. ومادتها كانت الجوارب والتبغ والنساء والجوع والبذاءات اليومية والشعارات السياسية التي تنتقم من خنوع ما هو سائد وعاهر. تركنا محاضراتنا ودروسنا وكتبنا، وانغمرنا حتى الآذان بقصائد الشعر. وكان الماغوط عملاقا بيننا. شيء يشبه الأسطورة، غامضا وعنيفا، يفتح نيرانه على الأرصفة والشوارع والمدن والحكام والفسق والسأم اليومي الضارب الإطناب على المدن العربية. تبغ وأرصفة وخمرة وموت، يخول بروح متصوفة شيئا من هذا القبيل. وكنا ندخن علبتين في اليوم، ونجلس على الأرصفة، وننظر بريبة الى العسكر والحزبيين والجرائد الصفراء بمحرريها الذين يركلهم رئيس التحرير على أقفيتهم من دون ان ينبسوا بحرف. الماغوط هو المتمرد الأوحد في تلك الشلة، بتلك المدينة. وكان سلمان تمام بكرشه الصغير، سنة بعد سنة، يروم بلوغ مرتبة محمد الماغوط. تحول سلمان الى ماغوط صغير، فهجر كتبه ودراسته، ولم يعد يأتي الى المحاضرات. سحره الماغوط بقصائده وعبثه وحياته المنفلتة، فكتب على غرفته في القسم الداخلي شعار رامبو: "من الغباء ان تبلى سراويلنا على مقاعد الدراسة". وحين رسب تمام سنتين متتاليتين، ولم تنفع قصائد الماغوط في معالجة الإحباط البشري، الذي غير العالم، سحب تمام الى الخدمة الإلزامية من شاربيه. صار جنديا مكلفا، يأتمر بأوامر عريف بالكاد أنهى دورة محو الأمية، يعاقبه أكثر الأحيان بالزحف في الطين أو حش الحلفاء في ساحات المعسكر.

زارنا ذات يوم في نهاية عهدنا بالجامعة، سهرنا في 5 نقابة المهندسين. صار سلمان شخصا مهدما، مروضا، وقال لنا بعدما سكر، ادرسوا، ادرسوا حتى لو أكلتم الحجار، فالحياة معقدة أكثر من الشعر. سمعت بعدما قامت الحرب العراقية- الإيرانية ان سلمان تمام قتل في واحد من الهجومات الصيفية على عبادان.وكان ان أكلت أنا الحجارة لكنني لم انس الشعر،و لا الماغوط. طوفت في ارض الله الواسعة، وتعلمت لغات عديدة، وعرفت نساء، وشاهدت مدنا، وكدت إلا قليلا ان أنسى الماغوط، أحزانه في ضوء القمر.، لم اعد ارفع رسائل الى احد، فلم أجدني بحاجة الى احد حتى لو كان ذاك الذي "صكئ!8 الماغوط. اشتعلت حروب وماتت حروب. وحفرت دهليزي الخاص الذي أعادني الى الشرق. عام 1997 رجعت من تطوافي الأبدي لاستقر في دمشق الشام، محبا لنسائها، خمورها وأنهارها، شبابها المتصعلكين، أحفاد الماغوط. وكان ان اشتغلت سكرتير تحرير ل"دار المدى للثقافة، النشر"، وكان احد واجباتي الإشراف على القراءة الأخيرة للكتب التي تطبعها الدار. وقع بين يدي "الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط"، التي أصدرتها الدار لاحقا. مسرحيات، أشعار، مقالات. التقيت ثانية بمحمد الماغوط، بعد أكثر من عشرين سنة. لم أعد فتى كما السابق، كما لم يعد محمد الماغوط، فارس الساحة الشعرية.ولدت أجيال جديدة من الشعراء،وغابت قمم، وامحت قسمات ظن أنها واعدة. بدأت اقرأ مخطوطات الماغوط بدقة! حاملا رائي ثقافة لا بأس بها، خبرات حياتية جيدة، ودلتني الأيام على دروبها المعتمة، الخفية، المواربة. أسفر لي الماغوط عن شخصية أخرى. لم أجد الشخص نفسه الذي كان في خيالي وأنا اجلس مع سلمان تمام، جنان جاسم حلاوي، شيركو بيكيه وسط تلك المدينة الجبلية. لم استسهل الإنشاء، في جملة الماغوط، وهو الوباء الذي خلفته لنا قرون من الركود الحضاري في الروح العربية، لغة وعمقا وطزاجة. وكان هناك خلل في إمساك المعنى، يغطي عليه الضباب الكثيف الذي يثيره الشاعر ليستر ضياعه الشخصي. إما الاشتطاط والسرد المنفلش والتيه في التفاصيل، أو السباحة في عموميات الأفكار، فيمكن ملاحظتها بوضوح.
هناك أيضا السهولة المجانية، وهذا ما يؤول إليه شاعر لا يتمتع بعمق ثقافي ربما. كما لاحظت في شعر الماغوط ذلك الهروب الكبير من نبض الواقع. ناتج من العيش في أبراج الثقافة العاجية. أبراج مصنوعة من كتب، أفكار، شعر، روايات... الخ. لم أشم رائحة العرق، الأرصفة التي تكلم عنها. كما لم اقرأ ملامح المرأة التي أحبها شعريا، فكان يتمرد في فضاء اللغة، يحب في فضائها أيضا. يكفر في اللغة، يهاجم السلطة في اللغة، وظل شعره وليد لغة عربية مليئة بالإنشاء والتضخيم والادعاء والصنعة. وكان ان عرفت ان هذا ربما ناتج من بعد الشاعر عن إيقاع الحياة وعن إيقاع اليومي الذي يجده المرء في ساحة المرجة، عند سوق الحرامية في جسر الثورة، وفي أصقاع الريف بفلاحيه، بقره، حقوله. بحانات المدينة السفلية، هي تغص بالشاربين من كل صنف ولون. من الذين أنهكهم الدين واللصوص و القوادون، الصحافيون المحبطون، العمال المياومون، النساء العاهرات. كل ذلك الفرن المتوهج لم أجد صداه في شعر الماغوط.
وكان ان جاء الماغوط الى مكتب "دار المدى" في ركن الدين، وسط دمشق، شيخا يدب على عكازه، تلف سماءه غيمة من الارتباك، الهزيمة والوحدة. الزمن يبتلع ما عداه. لم اشعر بالرهبة منه. لم اعد صغيرا، صرت اعتز بتجاربي حتى لو كانت ضئيلة. شعرت بالاحترام العميق لهذا الرجل. هذا الكائن الذي ترنمنا بشعره بين قرداغ، بيره مكرون. هذا الذي تمردنا معه على الأرصفة، دخنا أحزانه وتشرده ويأسه، ونحن نحتسي الشاي الكردي، نتحدث عن ثورة البارزاني. محمد الماغوط اليوم يعيش في وحدة قاتلة، بعدما فارقته سنية صالح، وثقل سمعه وأرهق بصره الضوء. انه زمن الصحافيات الصغيرات، اللواتي يشتغلن مخبرات. لا زمن المتمرد العملاق محمد الماغوط. ربما أدرك الماغوط بؤس السلطة،وبؤس الزمن، وتفاهة مدعي الثقافة، لذا انتحى جانبا. كلما رأيته يسير نحو فندق الشام ليحتسي قهوته الصباحية، أندب حظ الثقافة في هذه الأمة. لكني مع نفسي أقف وأقول: أنحنى لك إجلالا أيها الشاعر، الذي أشعلت فينا جذوة التمرد منذ ربع قرن. وأتذكر أيضا الماغوط الصغير، المدعو سلمان تمام الذي شطرته الحرب شطرين، دفنته في مستنقعات الناصرية. أنحني لك أيها الشاعر الذي لقمتني التمرد. لكن الحياة تتغير يا أبانا محمد.

****************


كسر التفائل الرومانسي بيأس كاسر ...

قاسم حداد
(البحرين)

1

في ذروة مكتشفات شعراء مجلة (شعر) لمقترحات الحداثة الشعرية الأوربية، وفي غمرة انهماك شعراء العربية المحدثين في مشروعهم التموزي المتألق في تفاؤله، وبمعزل عن ورشة الشعر العربي المفعم بمكتسبات هواء العالم الثقافي (فكراً ورؤية ومبتكرات)، طلع علينا محمد الماغوط، من الركن القصي للمشهد، مجترحاً حزنه ولمسته الجارحة للعتمة المسكوت عنها في سياق مشروع الحلم العربي الناهض، ليفجر ضوءه الأسود في (غرفة بملايين الجدران) معلناً علينا حزناً صادقاً جريئاً يمسّ الشغاف (الفرح ليس مهنتي).

2

الآن، أريد أن أرى في تلك اللحظة المفصلية منعطفاً رؤيوياً، ليس على صعيد التعبير الشعري، منفلتاً عن تخوم التفعيلة وأقفالها، ولكن، خصوصاً، على صعيد الرؤية الشعرية النقيضة لمشروع التفاؤل العام الذي يكاد يطوي مجمل المتن الشعري العربي في تلك اللحظة، من كان مع تلك الأحلام (أيديولوجيا) ومن كان بعيداً عنها (سياسياً)، فقد كان الجيل العربي كله منهمكاً في ورشة ذلك الحلم، معتبراً مجرد الغفلة عن ذلك الحلم وتأكيده هو بمثابة النظر والفعل القاصر عن (المستقبل). هكذا كان المشهد الذي صار التفاؤل الفظ عنوانه الأول و الرئيسي و الغالب.
وهنا نستطيع أن نكتشف قوة الصدمة وعمق الدلالات الإبداعية التي أحدثتها نصوص محمد الماغوط في تلك اللحظة. و أريد أن أقترح، هنا، بأن هذه الخاصية المتميزة في جرأة الرؤية الحزينة الجارحة والأبعد من التشاؤمية، هي العنصر الجوهري الذي منح تجربة الماغوط أهميته الكونية في سياق حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، وأظن أن خروجه عن التفعيلة لم يكن هو (فقط) ما ميز شعريته عن جيله (قبله قليلاً، وبعده قليلاً). خصوصاً إذا لاحظنا أن ثمة تجارب رافقت السياب أو ربما سبقته قليلاً في كتابة القصيدة الحرة، لكن دون أن تخرج عن سكة التفاؤل التي تطلبها مشروع نهضة الحلم العربي في تلك اللحظة.

3

غير أن حزن الماغوط لم يكن حزن الرومانسيين المتثائبين على جسر التنهدات. لقد كان يضع أحداقه في الدم الفائر فيطفر حتى صدغيه. وهذا ما جعل كتابته تفتح أرضاً غير التي فتحتها مجلة (الآداب) أو التي ذهبت إليها مجلة (شعر)، كان محمد الماغوط كائناً وحشياً (طافراً) من غابة تغرس جذورها على أجسادنا وأرواحنا، دون أن يعبأ أو يكترث بالكلام عن البدائل، بمعنى أنه لا يطرح خطابات أحلام، كما كان يفعل شعر الآخرين، الأمر الذي لفت نظر الشعراء العرب محاولين أن يجدوا في عالمه نافذة على أفق مغاير.
وكنت عندما أجلس إلى كتاب (غرفة بملايين الجدران) أشعر برهبة غامضة لفرط المسافة التي كان يتوجب عليّ أن اقطعها بعد (أنشودة المطر)، أو (أوراق في الريح) أو أباريق مهشمة) أو (أحلام الفارس القديم) لكي اصل إلى الأرض التي يحرثها نص الماغوط بعظام أطراف الكائن البشري.
فإذن، كانت المسالة لا تتصل بالشكل دائماً، وأخشى أنها لم تتوقف عليه أبداً. لأن الروح الجديدة عند الماغوط هي ما ميزته بقوة، ومرة واحدة، عن رفاقه. وهنا تكمن أهمية التجربة الشعرية.

4

لكن، بعد ذلك كله، وبعد حوالي جيلين من الشعراء العرب، هل يمكننا الزعم بأن الأجيال الجديدة، وهي تطرح علينا الصوت عن الحداثة و التجديد في الكتابة الشعرية، منافحة عن حقها في التجديد، محتجة بمن سبقها من الشعراء، ومن بينهم محمد الماغوط خصوصاً، أقول هل نستطيع القول ، بدون قلق، أن الأجيال الجديدة قد قرأت حقاً تجربة الماغوط الشعرية بالشكل الذي يتوجب على الشاعر أن يكتشف تجربة شاعر آخر؟
أطرح هذا السؤال، ليس ترفاً، ولكن لأن قلقاً ينتابني وأنا أرقب العديد من الكتابات الشعرية الشابة وأعيد تأملها باحثاً عن ملامح تشي بأن ثمة وعياً لمجمل الإنجاز الشعري العربي الحديث، وأعني الإنجاز بالمعنى التقني و الفيزيائي المباشر، بحيث يمكننا أن نشعر بأن الشاعر الراهن، فيما يعمل على تجاوز النص السابق، قد أحسن القراءة و الدرس قبل وبعد الكتابة.
هذا السؤال من بين أسئلة أخرى لابد لنا، لكي نحسن التعاطي مع راهن ومستقبل كتابتنا الشعرية العربية، أن نتوقف عنده برحابة الصدر وجمال الأحلام. @

********


أسير بلا نجوم ولا زوارق ...

عمر شبانة

أولاً: هذا الملف
بداية، نسأل: محمد الماغوط الآن.. لماذا؟
هل ثمة مناسبة تقضي بنشر "ملف" خاص بهذا الشاعر تحديداً؟
وهل نستطيع الادعاء برابط ما بين الماغوط، أعماله الشعرية والمسرحية ومقالاته النثرية، وبين ما يجري في عالمنا اليوم، في زمن العولمة، زمن أمريكا وتابعيها، ونحن نقرأ ما يقال عن كون الماغوط ينأى بنفسه عن القضايا الكبرى، ويركز الضوء على التفاصيل والقضايا الصغيرة؟ فهل هو حقاً كذلك؟ أليس هو القائل "سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت/ مع دمشق القديمة كملامحي"!
وهل القضايا الخاسرة سوى قضايانا الكبرى؟
لعل الماغوط من أكثر من أثاروا القضايا الكبرى في تاريخ كتابتنا الشعرية المعاصرة، حتى لو قال هو غير ذلك. فحين يكتب شاعر، في الستينات، عن العدالة الناقصة "العدالة التي تشمل الجميع وتستثني فرداً واحداً ولو في مجاهل الأسكيمو، هي عدالة رأسها الظلم وذيلها الإرهاب. والرخاء الذي يرفرف على موائد العالم ويتجاهل مائدة واحدة في أحقر الأحياء، هو رخاء مشوه".
وحين يطالب ب "الكل أو لا شيء، طالما أن الشمس تشرق على الجميع، طالما أن السنبلة الأولى لم تكن ملكاً لأحد"، حين يكتب مثل هذا، فهو يجعلنا نتساءل، ونحن نقرأ روايته "الأرجوحة" (كتبها عام 1963، ولم تصدر طبعتها الأولى إلا عام1974)، عن أي إرهاب كان يتحدث الماغوط في ذلك الوقت؟
وهل كان- آنذاك- ثمة "إرهاب" ناجم عن نقص العدالة، كما يحدث الآن، أم أنه كان حينذاك يرى إلى المستقبل الذي هو "الآن" حقاً؟
أهي نبوءة الشاعر الرائي، أم ربما كانت القضية مرتبطة بجوهر الصراع في العالم، فهو صراع بين عالمين، صراع تلخصه عبارة في قصيدة، أحياناً، كما في قوله "نزرع في الهجير ويأكلون في الظل"، أو محاورة في مسرحية، أو مشهد في رواية. وهنا يكفي أن نعود إلى قصيدته "الظل والهجير"، ففيها صراع بين "هم ونحن.."، حيث يخاطب الشاعر حبيبته:

حبيبتي
هم يسافرون ونحن ننتظر
هم يملكون المشانق
ونحن نملك الأعناق
هم يملكون اللآلئ
ونحن نملك النمش والتواليل
نزرع في الهجير ويأكلون في الظل

(من مجموعة "الفرح ليس مهنتي").

كان رائياً كبيراً، لأنه كان شاعراً صادقاً وحقيقياً وشرساً، وهذا ما نفهمه من شهادة الشاعر نزار قباني، حين قال له "أنت، يا محمد، أصدقنا..أصدق شعراء جيلنا. حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنفس البريء، البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينات. كان حزنك وتشاؤمك أصيلين.. وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعاً".
أما شراسته، شراسة لغته وكلماته، فيصفها الشهيد غسان كنفاني بأنها "كلمات مسلحة بالمخالب والأضراس. ومع ذلك، فإنها قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومدهش، وأحياناً مفاجئ. كأن يتحول صليل السلاسل إلى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة".
فالماغوط، الناثر، لم يترك قضية، كبرى كانت أم صغرى، إلا وراح يُجري جرداً لها في واحد من مقالاته التي درج على نشرها في مجلة الوسط بين 1998و2001، ثم جمعها في كتابه "سياف الزهور" (افتتح الكتاب بقصيدته التي تحمل العنوان نفسه، والموجهة إلى رفيقة دربه سنية صالح). نأخذ من مقال "اغتصاب كان وأخواتها"، مطلعها على سبيل المثال "فجأة، ودون سابق إنذار، ركنوا جانباً قضية فلسطين، وتعثر المفاوضات على المسارات كلها، واستمرار قصف الجنوب، وحصار العراق، واحتمال تقسيمه إلى حارات وأزقة، والحلف التركي- الإسرائيلي، ولوكربي، والمذابح في الجزائر، والوضع المتفجر في البلقان والقرن الأفريقي، وقضية أوجلان.."، فهل ثمة، في الكون، قضايا أكبر من هذه؟
وهو حين يسخر من السياسة، يحن إلى "الدفاتر المدرسية القديمة.. خاصة تلك التي على غلافها الأخير صورة جدول الضرب، وعلى الغلاف الأول صورة الكشاف أو الطالب المجد بكتابه المرفوع في الهواء، وخطواته الثابتة الواثقة وقد كتب تحتها: إلى الأمام.. لا إلى: مدريد.. وأوسلو وواشنطن وتل أبيب!!". كما أنه لا يجد أغرب من العرب، يلخص حالنا في أن "بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعمالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع، ونحن مشغولون بغرق تيتانيك". (سياف الزهور، دار المدى، أواخر عام 2001).
ومن هنا، ولأن القضايا التي يثيرها الماغوط، في شعره وفي نثره ومسرحه، كما في حياته وشخصه وسلوكه، كثيرة وتستحق إعادة النظر، خصوصاً الآن، في ضوء ما يجري في فلسطين، فقد حرصنا على أن يأتي هذا الملف، الذي اقترحه موسى برهومة، ليطرح تلك القضايا. وكانت محاولة الحوار مع الشاعر، تلك المحاولة التي تصدى لها هو ورفضها، كما تصدى للكثير غيرها، بشراسة وبسالة، فكان اللقاء الحميم معه أغنى من أي حوار.

ثانياً: قصة لقاء
مع أن اللقاء الذي جمعني بالماغوط، قبل شهرين، لم يكن الأول بيننا، إذ سبقه لقاء قبل أعوام في مقعد الشاعر/ ركنه الذي كان مستقراً يومياً له في مقهى فندق الشام، مع ذلك، شعرت وأنا أتهيأ للقائه هذه المرة، كما يشعر تلميذ مقبل على اختبار نهاية العام، أو كما يحس جندي ذاهب إلى معركة فاصلة. وهذه سمة من سمات علاقاتي بالآخرين جميعاً، فما بالك بلقاء الماغوط الذي أعرف، من لقائي الشخصي الأول به، كما من لقاءاتي المبكرة مع مسرحه وشعره، أنه لا يمكن أن يكون لقاء عادياً، وأن يمر هكذا دون مقدمات وحسابات.
أنا، حتى الآن، قلت لنفسي، لست صديقه الذي يزوره، في أي وقت، بموعد أو بلا موعد، بلا غايات ولا أهداف. كان ثمة غاية لم أحاول إخفاءها عنه في الهاتف، لأنني أعلم مدى حساسيته، فمجرد أن تنطق بأي كلمة، تكون نبتت في رأسه أشجار من التساؤلات حول؛ من تكون وما تريد؟ لذا كان لا بد من الصراحة منذ البداية. كان لا بد من الوضوح، علامة أولى لعلاقة لا أدري أين تقودنا! فأنا لا أحب العلاقات التي تقوم لهدف وتنتهي، وأسعى الآن لبدء علاقة مع شاعر شكل لي هاجساً إبداعياً في فترة من الزمن، وما يزال يشكل لي محفزاً على الكتابة حتى الآن.
في الطريق، كنت أفكر فيما سيكون عليه اللقاء؟ طافت في رأسي كتابات الماغوط وأشعاره، مسرحياته ومقالاته في مجلة "الوسط". تذكرت روايته "الأرجوحة"، و"البطل" فهد التنبل، الأديب المغمور "كالجذور في الربيع"، والمناضل المرعوب من العالم، ومن أجل العالم.. وصديقته المناضلة "غيمة". عادت بي الذاكرة إلى "ضيعة تشرين" و"غربة". ثم مسرحياته التي قرأناها في كتب" العصفور الأحدب، والمهرج. والكثير الكثير من قصائد خارجة على قوانين الكتابة والشعر السائد. ما الذي أريده من هذا الشاعر؟ ما الذي يريده العالم منه؟ لم لا نتركه في حاله وشؤونه؟ لكنني فكرت: هل تَرَكَنا الماغوط وترك العالم لشؤونه، حتى نتركه؟
ألم يكن هو الذي أثار الزوابع والأنهار والزلازل؟ لذا فإن "من أشعل النيران يطفيها"!
أخيراً، هانحن، خليل صويلح وأنا، نطرق الباب، وأتوقع أن يطل الماغوط بقامته الفارعة، وعيني الصقر الشاسعتين. لكن توقعي يذهب سدى، فسرعان ما انفتح الباب عن شاب طويل وسيم، قادنا في ممر قصير، خلتُ أنه لن ينتهي. فأخذت أتأمل جدران الممر المحتشدة بالصور، صور شخصيات وأمكنة، صور الماغوط وغيفارا، مكتبة تغطي جداراً في الممر، وفجأة ظهر الماغوط الذي أعرفه، لكنه الماغوط الذي لا أعرفه أيضاً. بدا وكأنه فوجئ بغزو من كائنات وهمية.. هل أنحني وأقبله، فيما هو جالس، متكئ في سريره؟ لقد بدا لي أضخم مما توقعت. كان وزنه قد تزايد فعلاً عن آخر لقاء، وعن آخر صورة له.
صورته الجديدة بدت لوهلة صورة صقر متعب، يحط على صخرة في صحراء مترامية، ولا يدري إن كان عليه أن يعاود التحليق، أم أن الأمر غير جدير بالمحاولة؟ وحين جلسنا، أخذت أتأمل الوجه والعينين، وأطوف ببصري في أرجاء الغرفة. غرفة ليست "بملايين الجدران"، لكن جدرانها من لوحات فنية ووجوه مألوفة وأخرى غريبة. لوحات وبورتريهات تمثل الماغوط، رسمها أصدقاء له في مراحل مختلفة. صور لابنتيه شام وسلافة (لم ألحظ وجود صورة لسنية صالح، فهل كانت هنا ولم أرها؟). فجأة وجدت نفسي غارقاً في تأمل المكان، وفي سؤال كبير حول الحياة التي عاشها هذا النسر المتشرد في القمم والأعالي والزنازين والأزقة والوحل؟ سؤال النظرة الساخرة إلى العالم والأشياء، نظرة مخذول خاب ظنه في كل شيء، وفي كل إنسان، كما خاب ظنه في الأحزاب من قبل.

ثالثاً - تساؤلات وذكريات
كنت قد فكرت، مجرد تفكير، في أسئلة كثيرة أطلب منه الوقوف عندها، لكنني رأيت اليأس جالساً على الطاولة بيني وبين الشاعر، فطويت أسئلتي ورحت أصغي إلى صمته الصارخ، وذكرياته الجارحة التي قرأتها هنا وهناك. كان يدخن بشراهة، كما لو أنها آخر سيجارة، فيما السيجارة التالية تشتعل بجمرة السابقة، لتنعقد حلقات دخان أزرق مثل كلمات الشاعر. فيما يتحدث عن أصدقاء ذهبوا، ويتوقف لحظة ليرفع سماعة الهاتف ويرد على حفيدته بعذوبة ورقَّةٍ. كان دافئاً في حديثه وحانياً في أسئلته. ذلك الدفء والحنان اللذين تتوقعهما من شاعر متسكع كالماغوط. من الصعب، طبعاً، توقع الشاعر والداً، فما بالك به جداً لأحفاد وحفيدات؟ لكنه حين يغدو كذلك، يتصرف كشاعر حقيقي. شاعر وأب وجد.
وتظل الأسئلة تحوم بيننا، أسئلة الحزن والتشاؤم القاتم الشديد الحضور في نصوص الشاعر، وأسئلة الفرح الغائب بقوة عن هذه النصوص. كيف يكون التشاؤم أصيلاً وحقيقياً، ويكون التفاؤل أعمى أيها الشاعر؟ هل هي فلسفة مترفة هذه التي لا ترى في الحياة سوى الدم والدموع؟ أم أنها الفلسفة الوحيدة الصادقة والحقيقية والعميقة؟
هل كان شعر الماغوط قاتماً إلى حد الاختناق فقط، كما يرى البعض، أم حد الاختناق الذي يدفع للبحث عن نوافذ. وإلا فكيف يمكن أن يكون "مع الأغصان الجرداء حتى تزهر"؟ وكيف يكون مسكوناً بالثورة والرفض؟
هل مأساة الماغوط، كما تقول زوجته الراحلة سنية صالح (1935- 1985)، أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط؟ وهل كان الحال سيكون أفضل لو أنه ولد في مكان آخر، أم أن القدر هو القدر؟ هل كان الماغوط يحلم بتغيير العالم بالشعر، بسلاح الشعر فقط؟ وكيف تكون الكلمة الحالمة طريقاً إلى الحرية، والكلمة في الواقع طريقاً إلى السجن؟
كيف لمن احترق بنيران الماضي، وما يزال يحترق بجحيم الحاضر، أن يلجأ إلى نيران المستقبل، أليس كمن يستجير من الرمضاء بالنار الكبرى؟
كيف انتقلت، أيها النسر الجريح، من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض المتمرد؟
وكيف تصنع من جراحك حقولاً من الخصب والتفجر؟
وهل ما يزال العالم خانقاً كالسجن، أو واهياً كالورق؟
وبماذا تعتصم، حيث لا قصيدة تعصمك؟
كيف نجت موهبتك من حضانة التراث وزجره التربوي، فنجت عفويتك من التحجر والجمود؟
واسمك الصغير كتابوت طفل، المغدور والراقد على حرفه الأول كالغزالة، كيف يتوهج؟
وفيم كان خوفك من البشر، وارتيابك الدائم والكثيف بهم؟

****

قرأت معظم ما كتب الشاعر، وكل ما استطعت جمعه من حوارات معه، لأسأله عن ثمانٍ وستين (68) سنة يحملها على كتفيه، هو المولود عام 1934، والذي يقول "أحمل السجن على ظهري، تماماً مثل ماكيت مجسم". هي ثمانية وستون عاماً من التسكع في الشعر والحياة، من "سلمية"، قريته التي أنجبته كما أنجبت معه علي الجندي وسواه كثيرين. سلمية

"الدمعة التي ذرفها الرومان
على أول أسير فك قيوده بأسنانه
ومات حنيناً إليها
سلمية.. الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
وهي تلهو بأقراطها الفاطمية..
يحدها من الشمال الرعب
ومن الجنوب الحزن
ومن الشرق الغبار
ومن الغرب الأطلال والغربان..
لا تعرف الجوع أبداً/ لأن أطفالها بعدد غيومها..
حزينة أبداً
لأن طيورها بلا مأوى..
والنجوم أصابع مفتوحة لالتقاطها".

فهل هو "قرموطي" آخر، أم آخر القرامطة؟
سلمية هذه، البلدة القرمطية، المشاكسة، التي يتذكرها "فهد التنبل" بطل رواية "الأرجوحة"، ويتذكر نفسه فيها حين كان طفلاً، فيرى ذلك الطفل وهو يتصدى للإقطاعي، فيبدأ وعي الصراع الطبقي من الأرض، لا من الكتب. تقول والدة فهد عنه إنه "يخجل من النسيم، وإذا رأى فراشة تموت بكى طوال الليل. إنه الوحيد في قريتنا الذي لا تخافه عصافير الدوري، بل تغط على رأسه وكتفيه، وتمتص لعابه من بين شفتيه".
ورغم هذه الرقة، فهو الوحيد الذي يتصدى للإقطاعي "كان عمره تسع سنوات حين قذف جواد الأمير بحجر، وكان يقصد جمجمة الأمير، لأنه (الأمير) قذف له أجرته من فوق صهوة الجواد. كان بالطبع سيأخذها لو أعطاه إياها يداً بيد، ولكن أن يقذفها له والسوط في يده، فهذا ما لم يحتمله ولدي الصغير.. ولم يهرب. بل مكث واقفاً يلهث بأنفه الصغير أمام الأمير وسوطه وجواده، وكان قميصه الرقيق يخرج نتفاً على طرف السوط. لقد ضربه حتى أدماه.." (أعمال محمد الماغوط، الأرجوحة، ص 456). ومع ذلك فتهمته حين سجن أنه يتعاون مع الإقطاعيين. ومن حياة السجن وتفاصيله، ستتولد لديه ثنائية "القفص/ العصفور". ووعي أكبر وأوسع بالصراعات.
هذا الوعي الذي سيشقي حياته، ويقوده إلى الشعر بموهبته الفذة والبريئة. وهو الذي سيخرجه من سلمية إلى سجن المزة في دمشق، بين 1955و1956، حيث يتعرف إلى وأدونيس، الذي سيقدمه فيما بعد إلى شعراء مجلة "شعر"، حين كان الماغوط في بيروت لاجئاً سياسياً (يسخر فيقول إنه كان لاجئاً اقتصادياً.. فاللقاءات التي كانت تتم في بيت يوسف الخال، كان يحضرها الماغوط مستمعاً، يسمع أسماء شعراء (غربيين) لا يعرفهم، وعندما يحضر الطعام يأكل. فقد كان الخال وزوجته يعدان الطعام لأسبوع كامل، على الطريقة الأميركية).
ورغم هذه السخرية، فقد كانت بيروت محطة أساسية في ترسيخ صوت الماغوط. فقد كانت- أولاً- الملجأ من المضايقات والمطاردات التي سببها العسكر على أثر الوحدة المصرية السورية، وثانياً لأنها كانت مركزاً ثقافياً، ومركزاً للثقافة العربية بحق، في مقاهيها ومكتباتها ودور النشر الكبرى فيها. والأهم من ذلك، نسبة إلى الماغوط، هم الأصدقاء: أنسي الحاج، سعيد عقل، عصام محفوظ، رفيق شرف، سمير صايغ، شوقي أبي شقرا..الخ. وحتى الآن، ما يزال الحنين إلى بيروت يلح على طائر السلمية، فهو الذي لم يعد يسافر، رفض دعوة إلى كندا، لأنه كان مدعواً إلى النبطية.
سنية صالح ودمشق: عشق أبدي
وحين عاد الماغوط إلى دمشق، كان قد غدا اسماً كبيراً، حيث صدرت مجموعته الأولى "حزن في ضوء القمر" (دار مجلة شعر، 1959)، وعن الدار نفسها صدرت، بعد عام واحد مجموعته الثانية "غرفة بملايين الجدران" (1960). ثم مرت عشر سنوات حتى أصدر المجموعة الثالثة "الفرح ليس مهنتي" (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1970). وفي دمشق بدأت حياة جديدة تتفتح أمام الشاعر الغاضب الرافض الخارجي، وتركز نشاطه في المسرح، وتوقف عن كتابة الشعر كلياً، ولم يكتبه إلا بعد رحيل سنية صالح بسنوات، فقد كتب فيها أجمل قصائده، والتي ستنشر في مطلع كتاب النصوص النثرية المتنوعة "سياف الزهور" (دار المدى، أواخر 2001).
لقد بدأ الماغوط من "سلمية"، لكنه سرعان ما دخل علاقة عشق مع الشام/ دمشق، وهاهو يحن إلى قريته "سلَميّة" ولا يستطيع أن يعود إليها، لأنها تسكنه. يقول (بطل) قصيدة "المسافر"، يخاطب والده:

أرسل لي قرميدة حمراء من سطوحنا
وخصلة من شعر أمي
مع أقراط أختي الصغيرة
وأرسل لي نقوداً يا أبي لأشتري محبرة
وفتاة ألهث في حضنها كالطفل

(مجموعة "حزن في ضوء القمر").

ومع ذلك لم ينجُ من شعور الغربة والنفي. هذا الشعور الذي سيكبر معه حتى يلتقي رفيقته سنية صالح، الصديقة أولاً، والزوجة لاحقاً، التي احتضنت أحزانه وآلامه، وضمدت جراح روحه قبل طعنات جسده. سنية التي كتبت عن الماغوط في مقدمة أعماله الكاملة (الطبعة الأولى، وهي المقدمة التي تضمها الطبعة الجديدة الصادرة في دار المدى 1998)، أنها خرجت تبحث عنه في أثر أحد الانقلابات، "وكان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمرّ منه"، فعملت على إخفائه عن الأنظار في "غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن.. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة".
وشعرياً، ترى سنية أن الماغوط "من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل.. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر..". وقريباً من هذا، ما قالته الشاعرة والناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، في معرض حديثها عن الحداثة الشعرية العربية وفرسانها، فقد رأت أن الماغوط "كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها. هذا الرجل لم أستطع أن أحل إشكاليته في قدرته على امتصاص الحداثة فهو ليس حداثياً، بمعنى الحياة الخارجية, وهو لا يتقن لغة أجنبية، وعندما كتب هذا الشعر لم يكن يعرف الشعر الغربي".
وسنية التي- برحيلها- أعادت الشاعر إلى كتابة الشعر، بعد انقطاع استمر من عام 1974حتى 1989، حين كتب "سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح". في هذا النص عاد الماغوط بلغته الوحشية، وأسئلته الوجودية، ولكن بإيقاعات أشد شراسة. يقول:

يا رب..
في ليلة القدر هذه،
وأمام قباب الجوامع والكنائس،
اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية..
أساعد الينابيع في جريانها
والحمائم المشردة في بناء أبراجها
وأضلل العقارب والأفاعي
عن أرجل العمال والفلاحين الحفاة
ولكن.. أبق لي على هذه المرأة الحطام
ونحن أطفالها القُصَّر الفقراء

فسنية صالح لم تكن زوجة وصديقة وأماً للأطفال فقط. كانت تعني الكثير للشاعر الطفل النزق الذي يحتاج من ترعاه. لذا فهي له "يتيمة الدهر وكل الدهور"، وهو من دونها يشعر أن "كل صحبتي تفرقت"، فيعاتبها "من أين ورثتِ/ هاتين الرئتين الواهيتين كرئتي عصفور؟ وهذا النمش المتجمع على ذرى الكتفين/ كما تتجمع العصافير الخائفة في أعالي الشجار؟".
وعن هذه القصيدة يقول كمال أبو ديب، إن لغة النص وصوره "مدهشة، مثيرة، تنبثق. صور عجيبة شرسة، تخمِّش وتخرمش وتذبح. كل علاقاتها تقريباً مما لم نألفه في تصور أو لغة شعرية قبلها.. لنحصِ الاستعارات والتشبيهات في شعر الماغوط، ستكون النتيجة رائعة: إن التشبيه، لا الاستعارة، هو الصيغة المثلى لتجسيد صوره الشرسة المخترقة.." (مجلة ثقافات، البحرين، ع 1، شتاء 2002).
كان بسيطاً وعفوياً وبدائياً هذا الشاعر، لذا كان عشقه لكل شيء عشقاً مدمراً وجارفاً، ولذلك كان غريباً ذلك العشق الذي جمع الماغوط بدمشق، جعله يسميها "عربة السبايا الوردية"، حيناً، ويهجوها هجاء مقذعاً حيناً، ويعود ويعلن عشقه لها في نهاية المطاف. والعشق نفسه كان تجاه نهرها بردى، فهو قد نال نصيبه من عشق الشاعر ومن لعناته التي كانت تعبر عن غضب شديد من الحال التي آل إليها "نهر صغير من الطبقة المتوسطة". طبقة كان الشاعر يرى فيها عدو الطلبة والعمال والكادحين. طبقة جعل النهر يعكس رؤيته لها، فجعل النهر كأنه هو الطبقة نفسها، وراح يهجوه بحزن ومرارة:

نهر صغير من الطبقة المتوسطة
أتى على كل شيء في حقبة واحدة
أروع مطر في التاريخ
أجمل سحب الشرق العالية

بددها على الغرغرة وغسل الموتى..

(من مجموعة "الفرح ليس مهنتي").

هنا يحضر النهر، وتحضر دمشق كلها، لا بوصفهما "مكاناً"، بل بشراً وعلاقات لا يُقرّها الشاعر، فهي علاقات يرى فيها تشوهات المجتمع، والاستغلال والقهر الطبقيين.
لذا فدمشق ستظهر هنا في صورة كائن بشري، امرأة ربما، تسأل عن الشاعر في مكتبه، وليس بالضرورة أن يكون الشاعر نفسه، بل أي "بطل" للقصيدة، فيسأل "من تكون هذه العجوز الجامدة عند المنعطف، والبعوض يحوم فوق رأسها، كأنه مصباح أو مستنقع؟"، وحين يخبرونه أنها دمشق، يسألهم أن يطردوها، فهو لا يعرف أماً أو شقيقة بهذا الاسم! وتستمر السخرية "أهي خزانة أم مطرقة أم مرآة؟". يقولون له "إنها مدينتك" فيجيب "لا مدينة لي سوى جيوبي"، يحاولون بإلحاح "إنها وطنك"، لكنه يصدها "لا وطن لي سوى هذه البقع والخربشات على الخرائط". ففي تلك المرحلة، بدا وكأنما يرد ثأراً بينه وبين دمشق، المدينة/ الحكم، التي سجنته وطردته وشردته، فهو لا ينسى حوارهما:

* قلت لها: عطشان يا دمشق
- قالت: اشرب دموعك
* قلت لها: جوعان يا دمشق
- قالت: كل حذائي

إنها دمشق المناسف والأهراءات، والبيضة المسلوقة والرغيف المطوي "بعناية" في حقيبة المدرسة، الخيول الجامحة والسفن التي تسد وجه الأفق، دمشق المحدودبة أمام الصنبور. هذه التناقضات التي شوهت وجه المدينة القديمة وروحها وملامحها، لم تستطع تشويه ملامح الشاعر وروحه و.. لغته. فقد حفظ الدرس، وكافح ليحافظ على هويته الحقيقية، هوية الريفي البسيط والواضح كحد السكين. فعاد إلى مدينته واعياً همومها، غير قادر على خذلانها رغم كل شيء، فبعد أن يقول كل ما قال، ويبلغ حد الأمر بأن يضربوها بالسياط، ويطردوها من الأبواب، لتظل وحيدة كالريح.. يبصر نور عشقه لها وراء الغلالة السميكة من الحقد الطبقي، ويدرك الفارق بين المدينة وحكامها، فيعلن أنه لا يستطيع رؤية ما سيحل بها، فيصرخ بهم:

ولكن..
اسملوا عينيّ قبل أن تفعلوا ذلك
إنني أحبها يا رجال
ولن أخونها

وهنا نتنبه إلى عنوان كتابه "سأخون وطني"، وهو عنوان شديد النفور والقسوة، شديدة الإيلام والسخرية في آن. عنوان صادم لوهلة. لكن الذي يقرأ جوهر ما فيه، سيجد أن الوطن الذي سيخونه الشاعر هو "وطن الذل والقهر والعبودية، فالوطن الذي يستحق الخيانة عند الماغوط، هو دائماً وطن الظلم والإرهاب والاضطهاد"، كما يقول رياض الريس. أما المتمرد الآخر زكريا تامر، فيقدم للكتاب بقوله إن الماغوط نجح في أن يجمع على أرض واحدة "بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، ليقدم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه وجنده وشرطته وأجهزة إعلامه، مكثفاً ذلك البلاء الكثير من الوجوه في بلاء واحد، هو فقدان الحرية".
ليست المسألة خيانة بالمفهوم السطحي والدارج، إذن. فما من شاعر، حتى نزار قباني، كتب عاشقاً دمشق، كما فعل الماغوط. لكن سورية الخمسينات التي كتبها هذا الشاعر العاشق، لم تكن تتيح مجالاً لعشق خالٍ من الهموم الوطنية والصراعات الطبقية، على المستوى الرؤيوي/ الإبداعي لا الأيديولوجي. وإذا جاز أن نتناول، على سبيل المثال، رواية "الأرجوحة" بوصفها تنطوي على مقاطع من سيرة الماغوط، فسنجد في هذه السيرة الكثير من القضايا، والكثير من الأسئلة التي كانت تمثل هاجس المثقف والسياسي الرافض والمتمرد.. خصوصاً لجهة تركيزها على مفردة الحرية، ونقيضها القمع.
إن عبارة "يداي لا تصلحان للقيود"، ليست مجرد صورة شعرية في نص، إنها صرخة الروح في براري القمع والقهر والاستبداد. وليس صحيحاً أن حريته هو كانت كل غايته، فالحرية لديه هي حرية البشر جميعاً، وتحديداً هي حرية الشعوب قبل حرية الأفراد، وإن كانت المسألتان لا تنفصلان. لكن هذا لا يعني أنه ضد حرية الفرد. على العكس. ففي حوار يجري بين "غيمة" وبين أصدقاء فهد التنبل، يقول أحدهم مبرراً اعتقال فهد بالثورة التي لا بد من التضحية من أجلها "اسمعي أيتها الآنسة.. هناك ثورة حدثت في الوطن، ونحن منها ولها".
فمن هو الفرد أمام قضية ثورة؟ كلنا فداء الثورة. فالسخرية تبلغ مداها هنا "إنها جائعة.. وهي لن تنمو ما لم نجد لقمة هنا ولقمة هناك". فأية ثورة هذه التي تتغذى على الشعب؟ "لتتغذَّ بنفسها إذا كانت جائعة إلى هذا الحد.." تقول صديقة فهد بسخرية مريرة. سخرية من الثورة التي تقود الناس إلى السجون. ومن يعرف حياة الماغوط، يعرف أنه سجن بلا مبررات سوى أنه انتمى- بالصدفة- إلى حزب كان قريباً من بيته، وكان لدى الحزب مدفأة، في الوقت الذي كانت غالبية بيوت الناس بلا مدافئ!
ثمة إشكالية هامة أيضاً تتصل بالحرية، وينبغي التنبه لها في تجربة هذا الشاعر، وهي كما تبدو على السطح إشكالية الضجر، الذي يعتبر واحدة من آليات القمع التي تشيعها الأنظمة، في زمن يقول عنه الماغوط إنه "عصر ضد الموهبة". فالضجر هنا، وفي حياة الماغوط ونتاجه الإبداعي، تعبير عن رغبة في مزيد من التحرر والطيران، وليس استسلاماً للخنوع كما نجده لدى كثير من مثقفينا ومثقفي العالم الثالث عموماً.
وغالباً ما ارتبط الضجر عند الماغوط بالمقاومة والثورة والحرية، حتى لو جاء أحياناً متجاوراً مع الاستعمار، فهو نقيضه. وهنا تتبدى واحدة من آليات السخرية التي نجدها بكثرة في إبداعات الماغوط. كما يمكن أن ترتبط بغياب الشعر، أو بشهوة التجديد:

صاخب أنا أيها الرجل الحريري
أسير بلا نجوم ولا زوارق
وحيد وذو عينين بليدتين
ولكنني حزين لأن قصائدي غدت متشابهة
وذات لحن جريح لا يتبدل
أريد أن أرفرف، أن أتسامى..

*****

كنت أود أن أكتب شيئاً
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو الوراء.."

إنه شاعر الربابة والشوارع والأزقة، شاعر الهوامش والمهمشين، المتفرد في الشعر العربي المعاصر. والشاعر الذي ظل نفوراً، لم تستطع جماعة أو حزب أن تسجنه في إطارها. فهو لم يلبث طويلاً مع جماعة مجلة شعر، ثم وجد نفسه "خارجين السرب". ولو عدنا لروايته "الأرجوحة"، فسنلتقي بمثقف هامشي، يمقت الأجواء الثقافية والمثقفين. فهو على النقيض منهم يجنح إلى البساطة والوضوح، ويصرخ في صاحبه في السجن "لماذا لا تعلن الأمور مباشرة.. تنحَّ عن صهوة اللياقة الاجتماعية والمؤازرة اللامجدية، حتى يخترع الجائع طعامه والمريض دواءه".

******

وماذا بعد؟
هل وفينا الشاعر شيئاً من حقه؟ وهل يمكن لقراءة مستعجلة، مهما كانت، أن تكون أكثر من احتفاء بشاعر لا تكفي كل الكلمات للاحتفاء به؟
هي محاولة لإضافة ورقة إلى كتاب الاحتفاء بالماغوط، ولا شيء أكثر، حتى تتاح فرصة أخرى لكتابة أكثر عمقاً. فهل تأتي تلك اللحظة التي نقرأ الماغوط فيها كواحد ممن هدموا الكثير من الجدران والأبنية والسجون، ليقيم حديقة صغيرة بحجم ظله وروحه؟

*******