Tuesday, October 13, 2009

الماغوط وقصيدة النثر السورية

راسم المدهون
(فلسطين)


قصيدة النثر السورية ورثت تجربة إبداعية رائدة - هي تجربة محمد الماغوط, الثرية, المقابلة للحياة في ازدحام التجارب وإزدحام الشعر, ومع أن الأجيال الجديدة من شعراء قصيدة النثر في سوريا يعترفون للماغوط بالريادة وبالتميز, إلا إنهم يطمحون بإستمرار إلى كتابة قصيدة مغايرة.. قصيدة يمكن أن تحمل نبض الحياة الجديدة, وتجاري في الوقت ذاته, ما حققته قصيدة النثر, العربية من تطور, خصوصا في لبنان, الذي كان أرض الحوارات النقدية العاصفة - التي أسست لهذه القصيدة, والذي رفد الإبداع الغربي بعدد لا يستهان به من شعرائها, هذه المقالة تحاول رصد عدد من التجارب لشعراء قصيدة النثر السورية الجديدة والذين عرفنا نتاجاتهم خلال العقد الفائت - عقد التسعينيات من القرن الماضي, وهم هالا محمد, رشا عمران, رولا حسن, أنيسة عبود, انتصار سليمان, خليل صويلح, صالح دياب, خضر الآغا, علي سفر, جبران سعد, لقمان ديركي, عابد إسماعيل, وعبد النور الهنداوي.


الشاعرة هالا محمد, أصدرت ثلاث مجموعات شعرية, »ليس للروح ذاكرة«, »على ذلك البياض الخافت« (1997) و؛ قليل من الحياة« (2001).


هالا محمد لا تبحث عن شعرية القصيدة انطلاقا من نظرة نقدية, قدر بحثها عن التناقض في العادي من الأشياء اليومية, و العادي الذي يخبئ فجائع لا تبين بالعين المجردة وبالنظرة العابرة السريعة, في مجموعتها الأولى ليس للروح ذاكرة, تميل هالا إلى قصيدة اللقطة, التي تنبني على مفارقة ما حادة وسريعة, حتى في تلك القصائد الطويلة (نسبيا ) ثمة شيء من الحكاية, يبدو منطقيا في تسلسله, يمهد بمنطقيته لضربة المفاجأة الأخيرة, مفاجأة الأسى.


والشاعرة في هذا تميل غالبا إلى استحضار ذاكرتها إذ هي تكتب ما يجول في خاطرها من هواجس امرأة تعيش الوحدة في غياب الرجل, قوة هذا الاستحضار تبدو أكثر ما تبدو في التعبير الصادق عن أنثوية قلما عبرت عنها امرأة شاعرة, في زمن تميل فيه شاعراتنا إلى المراوغة والقول المبتور, مما يجعل من قصائدها قصائد امرأة, لا بالمعنى التقليدي الذي يقسم الإبداع الشعري إلى نوعيه التقليديين, شعر رجال, وشعر نساء, ولكن بذلك المعنى الذي يمنح خصوصية تثير الانتباه, لنتأمل قصيدة طويلة نسبيا حملت عنوان امرأة والتي تلمح فيها لمسات من درامية القص وشاعرية الأسى:

بعد زمن طويل من الغياب


عدت لبيتنا


كان اسمي


ما يزال مكتوبا بجوار اسمه


على بابنا


في الداخل


فردة حذائي


معطفي المعلق


ما يزال معلقا


في مكان تعليق ثيابنا


تختنا


مازال في حالة فوضانا


خزانتي


بأثوابي


برائحتي


هو,


كل شيء كما كان


كان خارجا


يا إلهي!!


كيف استطاعت


أن تكون مثلي


أنا !!?

وبقدر ما تلمح بساطة التعبير, والابتعاد عن التكلف (الذي يتنافر مع هواجس الشاعرة وموضوعاتها الداخلية) نشير إلى نوع من التقطيع الذي يقارب الكتابة السينمائية, خصوصا في تركيز القصيدة على الصور المتتابعة - والتي تكون كل واحدة منها جانبا من صورة عامة هي القصيدة ذاتها, وفي حين تسهم عفوية الموضوعات والهواجس في قوة معظم قصائد المجموعة, تجعل من بعضها الآخر ينزلق بالقلم دون رقابة الفن الصارمة.


أما في على ذلك البياض الخافت المجموعة الثانية, فإن هالا محمد لا تكتب انطلاقا من حدقة امرأة مسكونة بما هو جامح من رغبة في إعادة تنظيم الأحزان, ترتيبها في خزانة أنيقة, فيما هي تدرك صعوبة المحاولة, وارتطامها كل مرة بالمرارة.


قصائدها في هذه المجموعة تبدو حقيقية بالنظر إلى وشائجها العميقة, مع كل ما يسكن الروح الإنسانية من لوعة, وما يعتمل فيها من أسرار وخيبات, وحقيقيتها تتجلى كأهم ما يكون في انعتاقها الكامل من زخرفية القصيدة النسائية - المشغولة - في العادة بطقسية الكلام أكثر من انشغالها بانتباهات ذكية إلى ما يربط الأنوثة بوشائجها الإنسانية,


كثير من هذه الملاحظات, سنراها كذلك في مجموعة الشاعرة, قليل من الحياة, حيث تذهب القصيدة إلى فضاء المشهد, وتعيد ترتيبه من جديد, في لغة واضحة, وتخييل يمكن استحضاره بسهولة من القارئ.


في اتجاه مختلف, تكتب رشا محمد عمران, قصيدة قصيرة, تحاول توصيل فكرة, هي في الغالب, أقرب إلى الذهنية, وهي مسألة تدفع قصيدتها في أحيان كثيرة إلى الوقوع في النثرية.

قادمة من أول الحريق


أدخل تائهة في جهات الوقت


جهة الانكسار


الحلم يتسرب من بين أضلاع الندى.

أما رولا حسن, فهي تكثف في قصيدتها عواطف المرأة العاشقة, في صور شعرية - تبدو ناقصة, مبتورة, تعف عن الكلام, وتنحاز بدل ذلك إلى دفع القارئ كي يحاور القصيدة ويحاول إكمالها.


- رولا حسن في مجموعتيها؛ شتاءات قصيرة« و؛ حسرة الظل«, تبدو صوتا شعريا نسائيا له مذاقه الخاص, بلغتها المقتصدة, واعتمادها الدؤوب على قصيدة المناخ, أكثر من قصيدة الموضوع أي موضوع فالمتأمل في قصائدها كلها, يلحظ انتباه الشاعرة إلى ما في المونولوج الذاتي من قدرات هائلة على تكثيف مشاعر ورسم صور علاقات, بل رسم صور حياة بأكملها:

غيري


من يدل الجداول


إلى أيامك


من يلفت انتباه العصافير


إلى أشجار قميصك


غيرك


من يعمر بيتي


بأحجار الغياب.

- ورولا حسن, إذ تكتب قصيدتها كخطاب يذهب في اتجاه الرجل, تؤسسها على رهافة العاطفة, ورهافة البنية الشعرية معا


تعالوا نتأمل مثلا هذه القصيدة القصيرة من مجموعتها الثانية »حسرة الظل« والصادرة عام 1999:

لو جاء أيلول


سأخبره


سيجت بك قلبي


هديت العصافير


إلى الغابات


سأخبره:


قربك


وحدتي


يبست على الشرفات

قصائد مجموعتي رولا حسن, تجربة شعرية جميلة في سياق قصيدة النثر الشعرية السورية, وإن كانت الشاعرة قليلة الإنتاج في العموم.


أما أنيسة عبود, التي قدمت تجارب لافتة, في القصة القصيرة, والرواية, فقد أصدرت مجموعتين شعريتين (مشكاة الكلام 1994), و(قميص الأسئلة 1999).


أهم ما يلاحظه قارئ قصائد أنيسة عبود, ميل الشاعرة إلى استقراء تصوراتها الخاصة عن العالم الخارجي, وفي الوقت ذاته, نقل هذه التصورات في سياقات سردية, تقترب كثيرا من روح القص, وإن افترقت عنه بعد ذلك في كثافة اللغة السردية, وفي اعتمادها اللامحدود على الصورة الشعرية, كركيزة أساس في تشكيل المشهد وإقامة معماره, إن أنيسة عبود, إذ تعيد تصوير الملامح الأخرى للواقع - وكما تتبدى من روحها هي, إنما تقصد أن تلامس تلك الحقيقة اللامرئية, اللا واقعية - في مظهرها الخارجي, والواقعية في اندياحها من الحساسية الشعرية التي تقدر, أكثر من عدسة الكاميرا, على تقديم القراءة الخاصة.


تجربة أنيسة عبود الشعرية إذ تتأمل في التفاصيل الصغيرة, تبدو كمن يسكن في هذه التفاصيل, حيث نلحظ إصرار الشاعرة على تجزئة هذه التفاصيل الصغيرة إلى جزئيات وتفاصيل تعيد قراءة الواقع من خلال قراءة أدق مفرداته, بما في ذلك الجماد ذاته والذي نراه في القصيدة يكتسب صفات إنسانية.


جانب مهم في تجربة أنيسة عبود الشعرية هو من دون شك, انشغالها بالأجواء -, والمناخات الحميمة, وذات العلاقة مع الآخر في حالاته العادية, والواقعية والمألوفة, فالحبيب الذي تتوجه إليه القصائد لا يتحول إلى رمز عاطفي مجرد, بل هو رجل من لحم ودم يعيش في قلب الحياة الواقعية, ويحمل ملامحها وهمومها, والتي هي في الغالب هموم الشاعرة ذاتها, وقصائدها إذ تلامس تلقائية القول الشعري, بما فيها من بساطة - تنجح في أن تكون مشغولة بنسيج شعري فيه الكثير من التوتر, الذي تنتقل عدواه إلى القارئ و الشاعرة خلال ذلك تواصل دفع الصورة الشعرية وإسنادها بصور أخرى متلاحقة.


في فضاء روح المرآة العاشقة تحلق قصائد الشاعرة انتصار سليمان وإن تكن أكثر اقترابا من حسية المشاعر, وهي تكتب إذ تكتب مسكونة برغبتها في صياغة مشهد شعري, يزدحم بالقلق, وتمور في تفاصيله رؤى, تبدو أقرب في صياغتها الشعرية إلى عوالم قصيدة التفعيلة, من حيث انضباطها لنظام معين, ومن حيث جملتها القصيرة, المبتورة, والنهائية في أحيان كثيرة,

أرى الشمس


ترحل عن حيهم


فيما أيها القلب المجرح


خذ حنيني بين يديك


وضعه بهدوء


تحت نافذة الحبيب.

لغة انتصار سليمان الشعرية - تبدو محايدة, بعيدة في أحيان كثيرة عن التوتر, بسبب من إتكائها على بنية سردية, تقول خطابها وتمضي :

يخطر لي


أن أطويك طي شعاع


في ضباب غربتي


قبل أن أنام

ومع ذلك فإن انتصار سليمان تنجح في منح قصيدتها كثيرا من الشاعرية, من خلال اعتمادها الصورة والصياغات المكثفة, ورشاقة العبارة.


في تجربة أخرى, يقدم خليل صويلح ثلاث مجموعات شعرية, لعل أهمها, الأخيرة (اقتفاء الأثر) والتي صدرت عام 1002.


خليل صويلح في قصيدته النثرية يبدو أقرب الجميع إلى التلقائية في القول الشعري - وإن أخفت هذه التلقائية الظاهرة, تمكنا فنيا أعلى من كثيرين كتبوا قصيدة النثر خلال العقد المنصرم, في مجموعته؛ اقتضاء الأثر« يقدم خليل صويلح؛ قصائد رعوية«, تنداح من ذاكرة بدوية, تعلن عن دهشتها من المدينة, بل رفضها لهذه المدينة, من خلال استعادة الحياة الأولى في البادية وهي استعادة شعرية يتقن صويلح تقديمها في إهاب فني على درجة عالية من السخونة وفي فنية لا تخفى.

كأننا لم نشرب ماء الغدران


كأننا لم نأكل الثريد


في ليالي العشائر العاصفة


بالخديعة والمكائد


كأننا لم نسر ق الدجاج كالثعالب


كأننا لم نصب بالجدري والسل وفقر الدم والرمد


كأننا لم نصبغ أيدينا بالحناء


ونشم سواعدنا بالرماح والسيوف


هذه الصورستنشق رائحة الروث عشرين حولا.

هذه الصور المتلاحقة, إذ تلاحق وتستدرج ذاكرة الشاعر الفردية - تلاحق وتستدرج ذاكرة وحياة جيل بأكمله, لا أظن خليل صويلح في هذه القصيدة إذ يستعيد صور حياة البادية, يتوجه بخطابه الشعري لا بنائها فقط , قدر ما يشير إلى تحولات تصنعها المدينة الكبيرة عموما بكل من يأتي إليها من البادية والمدن الصغيرة الريفية والقرى على حد سواء .


خليل صويلح, في قصائده يبدو أشد اهتماما بالإصغاء إلى روحه الداخلية, حيث هناك تقبع مفردات القصيدة.


هو إذ يكتب يستخدم لغة على درجة عالية من البساطة, ولكن على درجة عالية أيضا من الفنية - التي تستفيد من الثقافة عموما, ومن اللغة السينمائية خصوصا فنرى قصيدته في كثير من الأحيان التقطيع والاسترجاع وبك ون بهما ومن خلالها كيانها الفني:

هذه الشرفة مطفأة


منذ الصيف الماضي


النبات ذبل


على درجات السلم


والستائر أبعدتها الريح


وحبل الغسيل


نسي الأصابع البيضاء والملاءات والجوارب.

أما تجربة صالح دياب (قمر يابس يعتني بحياتي) فإنها تفضي إلى حضور المشهد في حركية تتفاعل فيها عناصره كلها.... حركية درامية تشبه أن تكون مسرحا من نوع خاص تتكثف فوق خشبته فنون القول الشعري إلى الحدود القصوى, لتفت أمام القارئ بوابة الدخول مع الشاعر إلى لحظة القصيدة بانتباهاتها الصغرى والجريئة, والتي هي مجتمعه ومتفاعلة - كلية القصيدة التي تتعمد الالتباس وتمضي إليه بقصدية واضحة ورغبة مسبقة على أمل الوصول بالقصيدة والقارئ معا إلى تخوم حالة أو مناخ أكثر مما هي تقصد سردية لها تسلسلها المنطقي أو سيرورتها المنسجمة الشعر في مجموعة صالح دياب الوحيدة حرث في تربة شائكة فيها خليط من الحصى والرمال, وفيها ما فيها من تنوع الألوان بل وتناقضها, وفيها قبل ذلك كله لعبة زج الكلام في سياقات شعرية مختلفة, بل أنها تجد شاعريتها في تلك التركيبات الجديدة, التي تزج متناقضات المفردات في صراع علاقات لغوية تتأسس من جديد لتأخذ في تأسسها هذا حالة الشعر, من التباس لا يغمض. قدر ما يدفع إلى التأمل أو هو في غموضه الواضح ذاك يتقصد إقامة بنية شعرية يقوم المشهد الدرامي في ذروته, فيحضر من خلال صورة منسوجة من لغة بسيطة الكلمات, ولكنها مثقلة بالإيحاء النابع مما تضمره الكلمات والمشاهد, أكثر مما تبوح به, في طلاقة قلما نعثر عليها المجموعة, لأن صالح دياب, يذهب - غالبا - إلى المشهد الأخر الذي يقبع في المخيلة والذي يمكن أن تفضي إليه بوابات - القراءة المتأنية, المتأملة والمهمومة بالرغبة في المشاركة, وفي تأليف الصور وتشكيل المشاهد, ومن ثم في القبض على حالة الشعر ومناخه:

أن تزهر دمعة


في الدمعة


التي


تلي


لكن


اليدين مغمضتان

قصائد صالح دياب - تغامر بالانحياز إلى كثافة تؤكد حضور لغة شعرية قلقة, لا تشي بالقول حتى تغادره إلى مواقع جديدة, فتنجح في العموم, وإن لمسنا هنا وهناك وقوفا خجولا عند أبواب النثرية لا يسيء إلى تجربة أولى تبشر بصوت شعري جديد له نبرته الخاصة, أما زميله خضر الآغا, فإنه, وفي مجموعته الأخيرة ( أنوثة الإشارة) بالذات يذهب إلى كتابة قصيدة تناوش الخراب في معانيه المختلفة في قصدية تستحضر شواهده ولكن في صورة غير مباشرة, فالشاعر الذي يرى بعينيه هذا الخراب, يفضل أن يزج مخيلته في أزقته كي تختار الصورة كما تتبدى من المخيلة, إنها صورة يمتزج خلالها, الشعر بما هو تكثيف للمرئيات وتكثيف للقول, في مراهنة لا محدودة على موقع المناخ الشعري, ذلك الذي يتأسس في علاقات الصور المتلاحقة في تناقضاتها حينا, وفي لا معقوليتها أحيانا كثيرة:

كأنني أخبرتك


كان يجرحني الوضوح


وانشغال القهوة بالمرأة الضاجة


بالبنفسج


كان يبليني البيت المجاور


بخصره المسفوح في أعضائي


بغزالة الشرفة الآيلة للقلب


الذاهبة لما هناك.

من الواضح أن خضر الاغا قد غادر لعبة الموضوع التي دأبت على السباحة في مياهها قصائد الشعراء السوريين من الأجيال السابقة, والتي لا تزال تجد لها امتدادات كثيرة في صفوف شعراء جدد في حين لا نراها في تجربته .


وبجمالية أعلى, ونضج أكبر, تبدو تجربة, الشاعر علي سفر, الذي يختار؛ سفر« عنوانا لمجموعته الأحداث فهو يعلن منذ القصيدة الأولى في المجموعة انشغاله بكتابة شعرية تعتني بالتعبير المكثف عن عالم شديد التركيب, فيه الكثير من المناخات المتداخلة والشواهد المتناقضة والتي يجمعها الشاعر كي يحقق بما فيها من تناقصات حادة مشهده الشعري الأثير:

الراكضون إلى آبار مستحيلة


قبل المغيب


يلمون مطرا متأخرا


عفونة مرغت أنف التراب.

أهم ما في تجربة علي سفر الشعرية وقوفه الطويل عند تخوم التأمل, حيث تتحول الرؤية الشعرية إلى استقرار من نوع مختلف, إستقرار يقدر أن يقدم نشيدا مختلفا له من الواقع بعض ملامحه وله من رؤية الشاعر تشكيلاته الخاصة, حيث يعمد سفر باستمرار إلى زج القصيدة في صدام مباشر مع الواقع:

الاخضرار على نمو حجر في ا لصمت


إرهاق سندان


الهبوب


تحت لون


تفاصيل سواد


يمضي بأرجل حافيات على


قار كلام البحر

ومن بين تجارب قصيدة النثر السورية الجديدة تلفت الانتباه تجربة الشاعر الشاب جبران سعد, في مجموعته الشعرية (أشعار و 23 قصيدة ) والتي صدرت عام 1999, بما فيها من عودة إلى الطبيعة, أو إذا شئنا الدقة, عودة إلى بدائيات, فيها الكثير من شغف القول المسكون بالدهشة من كل الأشياء الصغيرة:

طفل مسكون


أغرته عصفورة النهر


بقشة


من حصيرة قلبها


فوقع غاشيا


بين الضفاف والصور,

بدائية جبران سعد تختلط بالثقافة, والنظر المتأمل فتتحول إلى شعر فيه الكثير من البساطة, ولكن فيه الكثير من الجمال أيضا.

أطبع قصيدتي


على شقة البحار


لأفك الليل


من أسر النهار

وعلى خلاف واضح مع كل شعراء قصيدة النثر السوريين يكتب لقمان ديركي, في سياق مغامرة تجريبية لا تتوقف عند أية ضوابط, ولا تكبحها أية مقولات نقدية, إذ هو يقفز إلى لون لم يسبقه إليه أحد, هو قصيدة النثر العامية, إذا جاز لنا أن نطلق هذا المصطلح.لقمان ديركي, في مجموعته الأحدث (وحوش العاطفة), يطلق قصائده في فضاء الشغب, ولكنه الشغب الشعري. يلاحظ قارئ مجموعته غياب العناوين عن القصائد فقد, تعمد لقمان أن يترك قصائده هكذا, وكأنه يقول للقارئ إنها وجدت كما تراها. موضوعات لقمان ديركي الشعرية أو بالأصح هواجسه التي يسردها تختار لغة البساطة, لغة لا تحتمل الـتأويل أو الغموض بل هي تترك للبنانية الشعرية أن تفتح باب التأويل.


اللغة هنا تكتفي بأن تكون خطوطا ترسم ملامح اللوحة وتحدد فضاءها في حين ينتبه ديركي أكثر ما يكون الانتباه إلى خلق حال, يمكن أن تنتقل عدواها إلى القارئ من خلال ما تعكسه من ألم, ثمة حبيبة يتوجه إليها الخطاب, بل هي تطلق الخطاب أحيانا, وثمة مكان يعبر دوما عن التشرد خارج جدران البيوت والأماكن المستقرة, وبين هذين الحدين, الحبيبة والمقهى تقع أحداث لقمان ديركي الشعرية, أكاد أقول أحداثا لأن قصيدة لقمان في وحوش العاطفة تعزف على أوتار عاطفة فيها الكثير من حضور درامي يؤسس في كل مرة مشهده وله أيضا أبطاله وشخوصه في مكانهم وزمانهم وحتى في لا مكانهم ولا زمانهم.


إنه شاعر هامشي ينتمي إلى رصيف الشعر بكل ما في الرصيف من قدرة على المشاكسة وممارسة الشغب الجميل الذي يقبض على الطفولة بشدة وينتقل بها من مقهى إلى مقهى ومن قصيدة إلى قصيدة,

في بار لا يشبه أيامنا


التقينا.. وتحدثنا كثيرا


بحماس... كما لو أننا نلتقي لأول مرة


وفي ذات البار


بعد زمن


إلتقينا


لم نحي بعضنا البعض


ولم نتبادل النظرات أو نتحدث


كما لو أننا نلتقي لأول مرة,

أما عابد إسماعيل, الذي درس الأدب الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية, وتتلمذ على هارولد بلوم, بل وترجم بعض كتبه إلى العربية فقد أصدر عددا من المجموعات الشعرية المميزة, وتلفت الانتباه في قصائده الرغبة العارمة في استقصاء احتمالات المشهد الحياتي الصغير والعادي, إذ نرى القصيدة تذهب إلى حدود رؤية الألم الإنساني في صورته الأخرى المتخيلة بل المحتملة, والشاعر في هذا الحال يكتب من خلال لحظة تأمل توازن فيها القصيدة بين حدي الرؤية الذهنية والاستجابة الإبداعية العفوية, بما تتصف به كل واحدة منهما من مواصفات متعارضة, قصائده لوحات يظللها الأسود, في سطوة حضوره وقوة إيحائه وملامسته الخشنة لمشاعرنا, وهي لوحات, تعتمد في أساسها على الابتعاد من الإطالة التي كان يمكن أن تبدو في مثل هذه القصائد عزفا نشازا وزائدا على أوجاع تحسن قول نفسها:

شموعا كثيرة أضاءت لنا الريح


الريح السوداء


التي خرجت من الإبريق


وبدأت تحل خيطانها


البيضاء


والصفراء


والزرقاء


في بهو العيادة

أما الشاعر عبد النور الهنداوي فهو في مجموعاته الثلاث, وبالذات الأخيرة »أنا طويل جدا وأخشخش بالورد« فيكتب قصيدة مختلفة كليا, أنه ينطلق من رؤية سوريالية, تجعله غالبا خارج النقد, بل حتى خارج التداول, إلا في إطار نخب ثقافية ضيقة المساحة. كتابة الهنداوي الشعرية أثارت ولا تزال جدلا في حدود ضيقة أيضا حول مشكلة التوصيل والعلاقة مع المتلقي, إلى حدود جعلت صدور مجموعته الشعرية الثالثة, ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب في سوريا حدثا لافتا إذ دأبت لجان القراءة في الإتحاد على رفض الموافقة على صدور أية مجموعة له في السنوات الماضية, خصوصا, أن تلك المجموعات كانت باستمرار تذهب ضحية, لجان قراءة من المتعصبين للشعر الكلاسيكي أو حتى شعر التفعيلة التقليدي. عبد النور الهنداوي, يواصل منذ ربع قرن ويزيد كتابة قصيدة شعرية, لا تقترب من الملتقي إلا لكي تشتبك مع ذاكرته الشعرية ومع ذائقته على حد سواء مبادرا بجملته الشعرية المتوترة, والمتحفزة إلى نقض وعيه, وإلى دفعه للارتطام بجدار القصيدة ارتطاما حادا يشعل نقاشات فيها ما فيها من حضور أسئلة عن مآل الشعر مرة, وعن جنس ما يقرأ مرات, و في الحالتين ثمة تكرار وتكرار لصياغات شعرية تؤكد حضورها عبر الخلاص من أية تشابهات مع أية رؤى أو حتى عادات شعرية أخرى:

الأشجار


ماذا أقول لها


كي لا تنحني أمام الريح


ماذا أقول للشوارع


وهي تستقبل الفجر


والفجر?


بدوره يتخثر كضوء في ممر ?

قصيدة النثر السورية الجديدة, أهم ما يشغل شعراءها هو التجريب ومساحة, التجريب, تزدحم كل يوم بأسماء وتجارب جديدة, ولكننا نقدر بنظرة متأنية أن نضع إصبعا على ما في الركام الضخم من نتاج جميل, يطل بين وقت وآخر

Thursday, October 8, 2009

تركيب المتخيل

(محمد الماغوط في حزن في ضوء القمر)

http://www.husamwahab.com

عبدالقادر الغزالي


(المغرب)

للمتخيل الشعري وضعية استثنائية في كتابة وقراءة النص الإبداعي لاعتبارات عدة تتصدرها المكانة الجوهرية التي يحتلها "الخيال" بوصفه دالا أكبر في بناء الخطاب الشعري الحداثي. ومن ثم ندرك بجلاء، سر عناية الفلاسفة المسلمين بهذه الطاقة الخلاقة، مما جعلهم يرفعونها الى مرتبة المبدأ الأول الذي تتحقق بواسطته ماهية ما هو شعري، وبطاقة الهوية التي تثبت الانتماء الى هذا الجنس الفاتن المنافس للموجود والوجود، وذلك بخلقه أشكالformes - sens (1) تندغم فيها تجربة الكتابة بالتجربة اليومية.


ولعل ذلك هو السبب الذي جعل تعريف الشعر يقترن بالخيال الشاعر بين العرب القداس الذين أفادوا من الفلاسفة أمثال حازم القرطاجني الذي يبرز د. جابر عصفور مكانته النقدية البارزة ودوره الرائد، كما يتضح ذلك في الفقرة التالية "لقد أفاد حازم من الفلاسفة كل الإفادة وأستطاع أن يتجاوز خطي أقرانه وأسلافه من النقاد ويصل الى ما لم يصلوا إليه ويعالج مشاكل لها ثقلها وأهميتها في تاريخ النظرية الشعرية" (2).


ويحسن أن نشير الى أنه، رغم التحول الذي حصل في البيئة الثقافية القديمة، وذلك بتبني مبدأ الخيال، ووقف العملية الإبداعية على اشراقاته، وكشوفاته، فإن استمرار التصورات الأرسطية في تأطير ماهيته وتفاعلاته في النص، قد حد من حريته وقلص من أقاليمه وفتوحاته، وذلك بالاحتكام الى المنطق في قبول عوالمه وعيش فصولة أو طرح بنائه ووصله باللامعقول والمعمى والمبهم. وتفضي بنا هذه النقطة الى إحدى المنارات البيضاء في الثقافة العربية القديمة


أرسى قواعدها، وأعلى صرحها المتصوفة المسلمون الذين طرقوا الأبواب الموصدة وولجوا عالم الغيب والشهادة وغزوا اللحظة المبدئية، وذلك باتخاذ الخيال طاقة خلاقة بها تكتشف التحولات الدائمة في الوجود، وتتوارد المتجليات على القلب والخاطر. ولنتأمل تعريف ابن عربي: "...فالخيال لا موجود ولا معدوم ولا معلوم ولا مجهول ولا منفي ولا مثبت كما يدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه ويعلم قطعا أنه ما أدرك صـورته بوجـه" (3).


ووفق هذا التصور نتبين ماهية الخيال البنائية سواء في العملية الإبداعية أو في تعيين أشكال تلقى ما يعرضه من صور ومشاهد في النوم أو اليقظة، وما طبيعة وقدر المسافة التي يجب أن يتخذها الرائي عندما يبلغ مقام التجليات. ولذلك يردف ابن عربي: "ومن الناس من يدرك هذا المتخيل بعين الحس ومن الناس من يدركه بعين الخيال وأعني في حال اليقظة" (4)، ويحسن أن نشير الى ضرورة التنبه الى خصوصية الاشتغال النظري واستراتيجية البحث في الخيال والمتخيل عند المتصوفة وعند أبن عربي الذي خصه هنري كوربان Henri Corbin ودراسات قيمة وعن استراتيجية في مبحث الخيال. يقول: "ولا شك أن انشغال ابن عربي الأول كان هو عقد صلات رؤيوية بين المقدرة التخييلية من جهة، وبين الإلهام الإلهي من جهة ثانية.." (5).


فرضيات القراءة:


إن اعتبار النص الشعري في كليته والانفتاح على الكون التخييلي الذي يؤسسه يفرض علينا اختيارا منهجيا يتمثل في مراعاة سياق توارد الصور والرموز التي تشكل النسق النصي، لكي يتجنب التفسير الآلي وذلك بعكس الدلالة المتحققة للصورة في المستوى الانطروبولوجي أو النفسي على الطبيعة التنظيمية الخاصة التي تدرج بها (الصورة) في البناء الدائم التجدد، علما بأن ما يمكن أن يدرج في إطار "المعرفة الخلفية" سيكون بمثابة إضاءات تفتح أمامنا أفاق المصاحبة.


ومن هذه الزاوية، نقترح في هذه القراءة الاستفادة من شعرية المتخيل التي يدافع عنها جان بورغوص Jean Burgus إن أول قرنية تواجهنا هي فرضية التركيب أي التأليف الحر واللانهائي للأنساق التخييلية. ومن هذا المنطلق يتم التنبيه الى أن القراءة لا ينبغي أن تكتفي بملاحقة الراهن، بل يجب أن تخترقا الى الممكن والمحتمل: "ومن ثم فإن عزو المعنى الماورائي، الذي يحدد أيضا ماهية الشعري، هو الذي يمكن أن يسمح بشعرية المتخيل" (6).


ومن ثم فإن إبراز الحدود بين الوظيفة الأسطورية والكتابة الشعرية، هي أولى المسائل التي يتصدى لها وفق خاصيتي: التكرير والتوليد. إذ أن الأسطورة وهي تقدم إجابات عن تساؤلات مركزية تصاحب الإنسان تعيد إنتاج وصياغة الحالات والأوضاع الى مالا نهاية، بينما تصهر الكتابة العناصر المعطاة لخلق أنساق جديدة وارتياد عوالم مجهولة، ومن ثم: "يميل الخطاب الأسطوري الى تكرير أوضاع بدئية الى مالا نهاية... في حين تدشن الكتابة وضعية لم تعش ولم يعبر عنها من قبل كما تنفتح على احتمالات جديدة" (7).


وهذا المبدأ العام هو الذي ينبغي أن يوجه الانشغال بطرائق تجميع الصورة والكوكبات الرمزية Les cons te llations symboiques التي تنتظم في إطارها لتحديد شكل تركيب المتخيل في الكتابة المقروءة. ولقد اقترح جان بورغوص Jean Buegus ثلاثة أشكال هي:

  1. كتابة الثورة: التي يصفها بأنها "كتابة الفضاء الممتلئ في الحاضر" (8)، وتستند الى ملء الفضاء الذي يعني في وجه من وجوهه السيطرة على الزمن، وتوقيفه في لحظة مثبتة ولهذه الغاية يتم تشغيل علاقة التعارض.
  2. كتابة الرفض: التي تسعي الى أبعاد الزمن والالتجاء الى مكان حميمي، وفي هذا الشكل الكتابي تهيمن ترسيمات التقريب والتقليص والانثناء، كما: "تقتضي هذه الكتابة رؤية أكثر تجريدية وذاتية خالصة، إنها أساسا رؤية حسية للعالم والأشياء أي رؤية متزنة حسب تصور باشلار" (9).
  3. كتابة التمويه: التي توهم "بقبول السيرورة الكرونولوجية الحتمية" (10)، ومحاكاة الحياة اليومية، ثم لا تلبث أن تفجر تناقضاتها ولذلك: "كثيرا ما يشبه العالم المتخيل الذي تفتحه عالمنا المعتاد، ثم لا نلبث حتى نكتشف فجأة، بأن العبور من المتجول الى الزمني قد تحقق، وبأن الدرامي قد أخذ معناه" (11).

بهذه الفرضيات المركزة نقترح الاقتراب من الكون التخييلي الذي تؤسسه القصائد الشعرية المكونة للديوان الشعري، موضوع القراءة "حزن في ضوء القمر" للشاعر الغاضب محمد الماغوط.


البعد والأبعاد


يفجؤنا العنوان بصيغته التناقضية ذات الصفة الازدواجية إذ يتمظهر التعارض الأول في الشق الثاني: في ضوء القمر، شبه الجملة المزدوجة: جار + مجرور= مضاف + مضاف إليه. بما يحمله من قلب طبيعي للخاصية الزمنية: الليل والنهار، وملحقاتهما: نور - ضياء - (ظلام - عتمة) حيث أصبح الليل حاملا للنور، واتشح النهار بالسواد. الأمر الذي يفضي بنا الى التعارض الثاني المتمثل في الشق الأول: المركب الأسمى حزن، إذا ما اعتبرنا هذه العاطفة الشعورية تعتيم الذات لحظة انخطافية تبعث على الدهشة والمناجاة مما ينجم عنه رج للعلاقة بين المثير والاستجابة بلغة السلوكيين. ومن هنا يبرز تقابل بين حالة افتراضية، تكون اللحظة الطبيعية حافزها ومبررها لها ارتباط بعالم داخلي تؤثثه أحاسيس الرقة والسمو والصفاء والبهجة والفرح كما تنفتح على عالم خارجي تستحضره انخطافات العشق والمفاجأة وحالة سلبية واهنة تتقلص وتنكفئ فيها الذات، مما يفتح احتمالات الفقد والحرمان وينبئ بصلابة العوائق.


إن لترسيمة الفقد والغياب أهمية خاصة في بناء الأنساق التخييلية ومد الأطراف بماء الحياة، حولها تتكوكب ثيمات التشرد والضياع والشوق والحنين. ولعل أول مظهر للفقد يواجهنا، هو غياب المعشوقة التي تبعث الخصب وتغمر الكون بهجة وصفاء. وإذا كان البعد /الأبعاد حاصلا، والحب مستحكما مس العاشق بالوله والخبل، واستحالة اللقاء لا مراء فيها، فإن استدعاء التحولات لا مناص منه بها يهدم جدار البين وكفى مسافة الفصل. لذلك تسافر الذات في شكل "قصيدة غرام" حضور اقتضته الأجواء الرومانسية والدرامية التي يلقي العنوان بظلالها. غير أن هذا الانفتاح المرحلي، لا يلبث أن يستدعي تعارضا تجسده الجملة الاسمية المعطوفة، أو طعنة خنجر. ولعل جذوة الحرقة المتقدة في الفؤاد هي التي تفسر هذا التعارض، حرقة اقتضاها الاتحاد في البعد بواسطة اللقاء الرمزي تهيىء الكتابة مراسميه وطقوسه. وتفيد فيه من علاقة المحتوي والمحتوى ومن ترسيمة التنافذ والتداخل:


أيها الربيع المقبل من عينيها


أيها الكناري المسافر في ضوء القمر


خذني إليها (12)


من العين يقبل الربيع وفق تشخيص فصلي لا يفتأ أن يستدعي احتواء مناظر يتمثل في "الكناري المسافر". والعمليتان الاحتوائيتان تنسجان صيغتين تركيبيتين متناظرتين: (أيها الربيع.. خذني إليها) (أيها الكناري (...) خذني إليها) كما تتقوى الرابطة التنظيمية من خلال الصفتين المتقابلتين:


(أيها الربيع المقبل.. / أيها الكناري المسافر)


وفي الإقبال والسفر دلالة على التحول والحركة (الأبدية) وهنا يحضر الجسد الايروتيكي بجلاله وشبقيته ونقائه وطهره مما يتيح التسمية:


(حبيبتي ليلى... دمشق يا عربة السبايا..) عندئذ تفتح واجهة للصراع بين الذات والزمن. صراع يندحر فيه كل أمل في الانعتاق من السلطة القاهرة، فتتعالى أصوات البكاء والخيبة والانتكاس. وترفع رايات اليأس والعدمية لتلقي الذوات في فضاء مظلم أشبه بالهوة السحيقة التي لا قرار لها.


- عشرون عاما ونحن ندق أبوابك الصلدة (ص 16)


- ونحن نعدو كالخيول الوحشية على صفحات التاريخ (ص 17)


ويمكن أن نستنتج، في هذا المقام، بأن الترسيمة الموجهة لانتظام الصور هي: النقيضة التي واجهتنا صورة من صورها في عنوان القصيدة: حزن في ضوء القمر، المختار لتسمية الديوان الشعري، كما تواجهنا صيغ أخرى لقسماتها تتكوكب حول الجسد الأنثوي بفتنته وبشاعته،


وتبادله العلاقات التفاعلية وفق مبدأ التماهي مع البلاد - دمشق - الوطن. وفي هذا الكون التخييلي يتقابل عالمان متعارضان: عالم مضيء يقوم على أساس الامتداد وملء الفضاء تؤسسه تيمات البعث والخصب، التي يكون للعين في سلطانها مرتبة السيادة وطاقة الخلق، إنها عين الآلهة المخلصة والجذوة المتقدة التي ينبعث من إنسانها النور والضياء. كما يكون للغم والقدمين في شريعتها طاقة التهيج وإثارة الغرائز الجنسية بما أنهما مصدران للنشوة والانتشاء. أما العالم الثاني فيقوم على أساس التقليص والانحسار تتعالى فيه أصوات النواح والمرض، عالم مظلم تنسحب فيه الذوات وتنكفئ، ليلقي بها في ردهات الصمت والبكاء والخوف مكتفية من خلل الثقوب بالتفرج على المشهد الجنائزي الذي تعيش أطواره وفصوله، وتكتوي بنيرانه العاتية، ولننصت الى صوت الكتابة وذبذبته حين يلهج هذه المأساة مشددا على التعارض:

(1- أيها الربيع المقبل من عينها


2- في عينيك تنوح عاصفة من النجوم)


(1- ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين)


(2- ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر)

وفي هذه اللحظة، لا نملك إلا الاستسلام والانقياد سريا لغواية قصيدة تأسيسية في الشعر العربي المعاصر هي قصيدة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، غير أننا نترك لذة اللقاء والوصل مفتوحة.


ومن هذه الزاوية، ندرك أيضا سر المراوحة بين النظام الانثنائي:reqine de repli:

فأنا متشرد وجريح


- إنني شبح


- إنني مريض


- إنني ألمح أثار قلبي


- وأنا راقد في غرفتي


- فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية. *

وتتجمع في هذا النظام الكوكبات الرمزية les conslellations symboliques القائمة على أساس التناظر - التاريخ الرابض على الشفة.. الاجتثاث من الجذور.


- الحب القاتل - البطل المنهزم - الرايات المنكسة..


ويحسن أن نشير الى أن التناظر بين الصور المعتمة إحدى ضرورات هذا النسق التخييلي، به تحقق وحدة الكائن، وألم الكينونة.


ويقابل هذا النظام، نظام مناقض تمديدي توسيعي فيه يبعث البطل من الرماد كما تبعث العنقاء فيحيى جذوة الحياة مستعيرا من الطبيعة طاقة الخلق المتجدد.


- وأنا أسير كالرعد الأشقر في الزحام (ص19)


- أملا في السيطرة على الفضاء والزمن


- أنت لي


- هذا الحنين لي يا حقودة ! (ص 17)


فاتحا بؤرة إشعاع ينبعث منها أضوء ومراهنا عي زمن أبدي يمحى فيه الى من الكرونولجي، وتجد فيه الذات مكانا حميميا وملجأ رحيما من عنف المحسوس وجبروته.


وفي مجامل الطريق، ووحشة السفر تعي "الذات" خيبتها وخذلان العالم لها. كذلك تستعيد ذكريات الطفولة، وتستحضر أحلامها السعيدة، مستلقية في أحضان الأم التي جف عودها وتوارت فتنتها لذلك تمني بالخيبة مجددا لأن الاحتماء تم بالهباء.


مقامات الكتابة


إن مشهد العذاب والشهادة الذي تعيش فصوله كل ذات مبدعة أصيلة تصل في هذا المقام درجة قصوى، فيه تعي الذوات تفاهتها وخستها فترفع نداء مقاومة الزمن لإلغاء جبروته وقهره ومن ثم تعبر لحظة تأملية تتغيا ملء الفضاء: العيون - الطفلة السحابة - هذه العناصر التي تشترك في بعث الحياة والخصب. إذ تتعاضد الطاقة الرؤيوية والبراءة الطفولية لتجديد مواسم الخصب والبهجة. غير أن ثبات المشهد الوحشي ينبئ بأن الزمن مازال جاثما حاملا أعلام الفجيعة والانكسار والهزيمة:


- إن ملايين السنين الدموية


تقف ذليلة أمام الحانات (ص 23)


وفي هذا الكون المظلم تحتمي الذات بالحلم، به تجرب اختراق الانفلاق. وعندئذ يتحول الحزن من طاقة شعورية تدميرية توهن الذات وتشل حركتها، (بما أنه خلاصة لرعب الزمن واقتياده الكائن الى الجحيم)، الى مادة تطهيرية، بها يخاض الصراع ضد الزمن لترويضه والسيطرة عليه.


- فالتراب حزين، والألم يومض كالنسر (ص 24).


ومن ثم نشهد محاولات مستمرة للاختراق والنفاذ الى الباطن، واستسلاما لغواية الكتابة وآلامها، وخضوعا لطقوسها، ودهشة أمام تقريبها السحري بين الحاضر والغائب، الظاهر والخفي، الداخل والخارج، الصاعد والنازل، الكائن والممكن، الواقع والمحتمل..


غير أن انحسار الرؤيا وقتامة الأفق، لا تثبت سوى مشهد الاندحار والتقلب في ردهات الجحيم فيها يمحى بهاء الكتابة ويجف ماؤها فتتلاشى الذات وحيدة وهي تراقب احتراقها وتشهد مد ما يقوضها ويشتتها مجسدا في التشابه والتماثل. لذلك تدوي نبرات الضعف والعجز:


- ولكنني حزينا لأن قصائدي غدت متشابهة


- وذات لحن جريح لا يتبدل (ص 17)


ومع تنامي حاجة الذات الى الانفتاح على المختلف والمتعدد، تتضاعف حدة الغضب والنقمة على الطبيعة: (الحقول) والكينونة (البشرية) لأنها تنشد السمو والتحليق في الآفاق اللامحدودة.


وهنا تستحضر شكلا من أشكال التوجيه الخارجي المجسد في الحب القاتل والعشق المدمر الذي أفنى الجسد في الوطن.


- وطني.. أيها الحرس المعلق في فمي (ص 48)


على الرغم من القهر والحرمان. وما أبشع أن يموت البشير جوعا وتتوارى النبوءة سرابا. وذلك هو المال الذي انتهت إليه الذات ساحبة وراءها أذيال الهزيمة والاندحار لتعترف علانية بالعجز:


- لكنني لا أستطيع (ص 49)


- لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية


تضطلع في دفتري كفخذين عاريين (ص 49).


وفي هذه العتمة المدمرة، لا تملك الذات الانسحاب والهرب الى ملجأ حميمي، نشدانا لصفاء وسمو خالص تتعمد فيه بمياه الأبدية.


ويمكن أن نلاحظ في هذا النسق التخييلي، تقابل ترسيمتين منظمتين، ترسيمة الانثناء وترسيمة التوسيع والتمديد. لذلك نواجه انحسارا وانغلاقا تجسده تيمات الفقد والفراغ والألم والكآبة عبر استحضار نضالات المامي التي آلت إلى السقوط، وتعذر العبور بعد تحطم الجسور والحرمان من اللقاء نتيجة النفي والتشريد. وتلك هي علة الحرقة التي يذكيها الشوق والحنين الباعث على بسط سلطان الخيال وقدراته الإبداعية على التوسيع والتمديد، وهنا تحضر الرمزية الأنشوية كشكل من أشكال الانفتاح وتصعيد البشاعة الى ذروتها:


- ما من أمة في التاريخ


لها هذه العجيزة الضاحكة


والعيون المليئة بالأجراس (ص 62)


وفي هذا الأفق التخييلي تتقلص القارات: أوروبا، آسيا. لتتماهى مع العشيقة والأم، والساقطة. ومن ثم نلمح هذا التوق الى محو الواقع، وتصعيد الأوضاع الصدامية، والتأرجح بين العواطف المتناقضة، إذ تجتاح عواطف اللاجدوى والعبثية الذات، في الوقت الذي تبتهج فيه بنشوة الخلق وإعادة التشكيل.


فتوحات الهجرة والسفر


تتعالى من الأعماق أصوات تحث على الرحيل والسفر الذي لم تتحدد معالمه:


- سأرحل عنها بعيدا.. بعيدا (ص 33).


رحيل يخلص الذات من العناصر والأشياء، ويحصنها من الزمن ومهاويه وهبائه. وإذا كان قرار السفر لا راد له، فإن الغضب والنقمة التي تحملها الذات للعالم شديدة دفعتها الى حمل معول الهدم كي تتحرر من كل السلطات القاهرة بما فيها السلطة الأبوية باعتبارها علة "شر الكينونة".


وبما أن وحشة السفر، وغربة المسافر تقتضي الزاد والعدة، فإن كوكبة من الصور تنتظم حول عوالم الطفولة السعيدة. إن الهوة التي ألقيت الذات في مهاويها، ترسخ سيادة الظلمة والعتمة وهيمنة السكون. فالأشياء فيها حزينة، والزمن ذو وجه بشع لا يتبدل، والمدنية غارقة في المرض. إن المياه راكدة، والعفن والوحل يني الجوانب:


... حياتي، سواد وعبودية وانتظار (ص 35).


لذلك تحاول الذات جاهدة الاختراق والنفاذ الى كون مغاير يفزر المسافر مجامله، ويطأ أراضيه البكر.


ومما يرسخ التعارض والسلب، هو أن الملاذ الحميمي الذي تلوذ إليه الذات الغاضبة من عنف الزمن، قد أضحى مهددا، لأن المعشوقة (ليلى) قد هجرته بعد أن كانت تملؤه بؤر إشعاع ونور. ولهذا الفقد تتمزق الأوصال بين لحظتين: لحظة ماضية اكتوت الذات فيها بحرقة الهجر والفراق. ولحظة مستقبلية تحاصر الذات فيها هواجس الخوف والقلق.


- وأنا أرقب البهجة الحبيبة


تغادر أشعاري الى الأبد (ص 37)


عندئذ تنتصب القامة شامخة لتبسط همينتها على الكون وتوقف الزمن. غير أن القدر القاهر يفلق كل ثقب يتسلل منه بصيص صفاء، حيث ينفذ المصير المشؤوم المرعب الى الأعماق والدواخل، مكثفا هيستيريا القلق والخوف، فتوثق الأجساد في مهاوي سحيقة:


- قبورنا معتمة على الرابية (ص: 51)


لأن تجربة الموت، في هذا المقام، سلبية تفني الى الجحيم كما تتبين إيحاءاتها الرمزية الدالة للحصان الجهنمي:


- والموت المعلق في خاصرة الجواد


يلج صدري كنظرة الفتاة المراهقة


كأنين الهواء القارس (ص 52).


ويتسع مشهد الفقد، وفق تمديد متدرج من الإنسان الى الطبيعة: (فقد الأب - سعال الغابات - الأنين التائه بين الصخور - القطيع الميت)، وبما أن الذات تروع خوض غمار مغامرة انبعاثية جديدة، تحول تجربة الموت الى معبر الى حياة أنقى وأطهر، فإن مناجاة مصادر البعث والحياة في الطبيعة: الجبال - الأنهار، تغدو أشد إلحاحا. ويمكن أن نقول، بأن الكون الجديد الذي تفضي إليه تجربة الانفتاح من خلال الفناء، تحيل جسد الذات مصدر إشعاع وبوتقة نور، في موكبها توصل الأشياء والكائنات بما يناقضها ليسفر التركيب عن تطهير وتخليص من القوى الشريرة:


... أسير تحامين جريحتين


والفرح ينبض في مفاصلي


إني أسير على قلب أمة (ص 56).


لقد أصبح العالم المحسوس، بعنفه ورعبه ومشاهده البشعة: (الحياة الكريهة - نواح الأشجار -الجيوش الصفراء) دما يسري في الضلوع، هو مبعث الكآبة المتأصلة والإحساس الرهيب بفداحة الفقد وفي حضرة الغياب والتلاشي، تستسلم الذات لغواية السفر والرحيل لأنها اختارت المرافئ والسفينة، مسكنا وبيتا رمزيا، يكون الموت فيه معبرا لحياة أبدية ترتاد فيها غياهب المجهول، وأنوار الكشف والتجدد، من غير أن تنفصل عن الراهن بصخبه وفورانه. وقد يكون ذلك هو السبب الذي وجه حركة الأفعال: سأبكي... سأرنو... سأرتجف... مشهد مسرحي تحدد فيه حركة الممثل (المندحر) على الركع بدقة فائقة.


إغراء الجنس ولا نهاية التحولات


ترنو الذات الى الآخر: النساء، الطفل، رغبة واشتهاء، فتتوق الى احتضانه بحرارة احتماء من هول الفقد والوحشة، وألم الغربة وليس استحضار ذكريات الطفولة وأحلامها الباذخة، سوى شكلها من أشكال الانسحاب والاحتماء:


فأنا مازلت وحيدا وقاسيا


أنا غريب يا أمي


وفي نشوة العشق تتنامى التحولات، وتتمدد الذات لتشمل الكون، متماهية مع عناصر الطبيعة: الحصاة - تجويف من الوحل الأملس - وردة - صفصافة ومع العناصر الصادرة عن الإنسان:


أغنية طويلة...


ليعقد اللقاء بين الأرض والسماء:


أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة


(ص 26)


غير أن اللقاء لا يلبث أن يستعيد الصفاء الأرضي الذي يقابل الجحيم الراهن ليتشابك المتخيل والمعاش - إن هذا التفاعل هو الذي يوجه طبيعة تحول العناصر ويؤسس فضاءات الأكوان التخييلية التي تسبح في فلك الدمار والخراب، مما يعمق جروح الفقد، ويدفع الى استعادة تفاصيل المعاناة: الجوع - التشرد - الكآبة - الحزن..


ومن هذه الفجوة نخلص الى أن الشاعر يواجه الزمن بالزمن مصعدا الحرقة والمعاناة والبشاعة لكي يكتشف الجوهر الأسمى للإنسان باعتباره البؤرة التي تمد العالم المحيط والبعيد بأشعة النور والضياء، لأن السيرورة التخييلية تأخذ نقطة بدئها من الجسد الأنثوي في مظهره المزدوج: الإيروتيكي والأمومي حيث تختلط النشوة الجنسية والعاطفة الأمومية والتوق الطفولي. إن ملامح: البغي - ماري - الأم، تتحدد بالعلاقة مع بيع الجسد، واستباحة المفاتن، مآل بئيس يثير العواطف المتناقضة: الحب - الكره - الامتناع - الاشتهاء. ثم لا نلبث أن نواجه، وفي حركة التحولات تمديدا وتوسيعا للجسد ليشمل قارة وفق ترسيمة التكبير.


كنت أرى قارة من الصخرة


تشهق بالألم والحرير


والأذرع الهائجة في الشوارع (ص: 29).


ومن خلال التوسيع، تستعيد الذات تفاصيل المأساة السرمدية لأن الخوف والقلق من الزمن، لا عمر له، ومشاهد البشاعة قد تغير أقنعتها، لكنها تبقى هي هي. وما استحضار السيرة المشؤومة، وعرضها أمام الأنظار في مشاهد خليعة، وتغيير أوضاعها: أعلى - أسفل - أمام - خلف.. سوى أنموذج لجسد الزمن البشع. ومن بؤس الذات أنه لباس لها يكبح جماحها ويعوق حركتها. إن الوحول المتراكمة، توقد في الكيان شهب الغضب والنقمة، وتلطخ الكائن والأشياء بالدم، بقع قانية هي عبارة عن منافذ قاتمة تعرض العالم – المصغر، الذي هو الملجأ الحميمي من عنف المحسوس، للسقوط. وفي الوقت ذاته، ترسخ الوصل والفصل بين المحسوس والمتخيل، وبين الحادث والمحتمل:


في البساتين المرحلة.. كنت أنظم الشعر يا ليلى


(ص 49)


وإذا كان البرزخ الذي يصل الغائب بالحاضر قد محى والمعشوقة التي، يذوب من بينها العاشق قطرة قطرة متمادية في تمنعها، فلأن الانغماس في اليومي بصخبه وفورانه، هو شكل من أشكال تفجير السخط، وإزاحة الأقنعة التي تتوارى خلفها الكائنات والأشياء بخستها ولؤمها.


لقد غمرت الظلمة المكان - البيت الحميمي - وأطلقت قوى الشر من مواطنها، فألحقت الدمار والخراب، لذلك غدا قفرا هجرته العصافير، وساده الصمت الرهيب الأشبه بصمت القبور. وهنا تغدو الكتابة شهادة واستشهادا (بتعبير الناقد والشاعر الراحل عبدالله راجع)


أنا طائر من الريف


الكلمة عندي أوزة بيضاء


والأغنية بستان من الفستق الأخضر (ص 68).


ويحسن أن نشير الى أن للنهد والعين حضورا مكثفا، فهما البؤرتان اللتان تستقطبان العوالم اليهما: القارات - الوطن - المدينة - دمشق. والعضوان المضيئان في الجسد، اللذان يذكيان جذوة الاشتهاء والانتشاء، ويبعثان الأحاسيس والمشاعر المتناقضة: السعادة، الغضب –الفتور -الاشتهاء - الظلم - الأنصاف، اليهما يلوذ المشرد المحترق ليحتمي من البشاعة، وفيهما يستحضر الذكريات الهاربة: القرية - الحقول – السرير - ومنهما يتطلع الى السفر العلائي بعد أن بلغ السخط والغضب منتهاه. عندئذ يعاد بعث صورة الإنسان الكامل، الذي يسع الأرض والسماء، يتسامى الى حد التماهي بالنجوم، وينغرس في الأرض ليفجر الينابيع، ويصل الأسفل بالأعلى والأحط بالأسمى والمتعفن بالأنقى والأصفى:


نصفه نجوم


ونصفه الآخر بقايا وأشجار عارية


ذلك الشار المنكفيء على نفسه كخيط من الوحل


(ص: 40)


إنها قدرة سحرية على التماهي والتحول، ترتقي من خلالها الذات مدارج السمو والرفعة فتتحد بالعناصر: المطر - العيون - رائحة الغابات - هدير الأقدام العارية... غير أن لحظات الصفاء هاته لن تدوم لأن المأساة سرمدية، ونشوة الاكتشاف والمغامرة المتصلة:

المصدر: مجلة نزوى

تامر و الماغوط: صهيل تحت سقف الحياة

شهادة

تنفتح تجربة كل من الشاعر محمد الماغوط، والقاص زكريا تامر على فضاء واحد، تتداخل فيه الأصوات، والضمائر وقيم الوعي الفكري والجمالي، واللغة، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم حتى يبدو الحديث عن تجربة أحدهما استدعاء لتجربة الآخر، مما يجعل كلاً منهما ضمير الآخر وفضاءه، ومرآة وجهه، وان كان الماغوط ينتمي الى حقل الشعر وزكريا الى حقل القصة،
فقد أدخل الماغوط السرد الى بنية القصيدة النثرية، التي انشغلت بأحزان الذات الجريحة المحاصرة والمحرومة التي تنوء بقسوة ضياعها وخوفها وأوجاعها، في حين جاء زكريا الى القصة من أبواب الشعر العريضة محققا تحولاً كبيراً في لغة القصة، وأساليبها الفنية والتعبيرية، والرؤية الى الواقع والإنسان في مرحلة كان الاتجاه الواقعي الصارم يفرض سلطته على الإنتاج الأدبي.
وبذلك شكل الاثنان ثنائية إبداعية جديدة، تمردت على أشكال الكتابة المستقرة، وفتحت أمام الإبداع الأصيل فضاءات واسعة كما أدخلت الى الأدب روحاً جديدة، سنجد آثارها الكبيرة، بعد سنوات عديدة، حاضرة في إبداع الجيل الجديد بامتياز.
تتقاطع التجربتان أولاً في فضاء الحرية، والتمرد على سلطة المنجز الأدبي السائد، والمرجعيات الخارجية التي تحكم حركته، فقد قابل تمرد زكريا على الاتجاه الواقعي، تمرد الماغوط على قصيدتي لتفعيلة والكلاسيكية، عبر انحيازه الى قصيدة النثر، بكثافتها الحسية وعفويتها، وبذلك تتأس التجربتان على عنصري الافتراق عن السائد، والتأسيس لاتجاهات إبداعية جديدة، تعكس حساسية أدبية مختلفة.
لقد جاء هذا التأسيس لقيم الإبداع والتجديد انطلاقاً من الإخلاص للتجربة، وللوعي الجديد، الفكري والفني الذي عبرت عنه بصدق، يرفض تزييف الواقع واغتيال الذات الإنسانية المأزومة، لصالح مقولات تصادر حرية الإبداع وتحوله الى أداة لخدمة رؤيتها وأهدافها، وبذلك أكدت التجربتان حق الذات في التعبير عن هواجسها وخوفها، وضياعها وحرمانها، باعتبار هذه الذات هي منطق وغاية أي مشروع إنساني فكري وإبداعي، وباعتبار انه لا يمكن اغتيال الحرية باسم التبشير بحرية مزعومة،
وهذا ما جعل ضمير المتكلم هو المهمين على خطاب الماغوط الشعري، وكذلك على نتاج زكريا القصصي الأول بالإضافة الى وطأة الشعور بالغربة والمرارة والهزيمة في واقع لا يمنح أبناءه سوى الخوف والخيبة والحزن والصراخ بملء القلب الوحيد والعاري.
إن هذا التحول في مضمونه ودلالاته الفكرية والإبداعية عبَّر عن وعي حقيقي بالحرية كضرورة وشرط وجود وكقيمة أساسية في الحياة مما جعل تجربتهما تمثلان إدانة لواقع لا يهبهما سوى الاختناق والخيبات والبؤس والأسى، الأمر الذي جعل تمردها يمثل الرفض للخضوع لاشتراطات الواقع، وسلطته التي تجعلهما يعيشان في «غرف بملايين الجدران» محاصرين باخفاقاتهما وحرمانهما، وغربتهما الطويلة، وبقوانين الأدب العرفية.
تحت سقف الحياة الواطئ
عاش الأديبان تجربة قاسية، وكانا أشبه بحصانين يصهلان بعذاب موجع تحت سقف الحياة الواطئ، أو في الغرف التي سقفها اوطئ كما يعبر بطل إحدى قصص مجموعة تامر الأولى عن ذلك، وكما يتقاطع معه عنوان ديوان الماغوط الثاني «غرفة بملايين الجدران» وإذا كان تامر يستخدم في أغلب قصص «صهيل الجواد الأبيض» ضمير المتكلم في السرد، فإن الماغوط هو الآخر يستخدم الضمير نفسه في خطابه الشعري، ولذلك فإن شخصيات هذه القصص تندغم في شخصية واحدة،
وان تعددت أشكال تجليها ووقائع تجربتها التي، تظل تعبر عن مناخ واحد، وحالات متماثلة على مستوى تجربتها الاجتماعية والنفسية والوجدانية، وعجزها عن اختراق المكان الخارجي، وإقامة علاقة تواصل حميمة معه ومع الآخرين، الأمر الذي يجعل هذه الشخصيات، تنكفىء في عزلتها على عالمها الداخلي، وأحلامها وكوابيسها التي تحاصرها.
ويشترك الماغوط مع هذه الشخصيات في تعبيره الموجع عن شعوره بالغربة والعزلة والحرمان والضياع، مما يجعل المعجم الشعري عنده يتداخل مع المعجم الأدبي في قصص تامر نظراً لتشابه التجربة وتقاطع الرؤية، واللغة الشعرية في الخطابين.
ان هذا الشعور بالإخفاق والرعب والحرمان والجوع العاطفي والجسدي هو الذي يجعل أبطال تامر المتحدين في صوت واحد، يتقاطعون مع صوت الماغوط في تعبيرهم عن النقمة والسخط والرغبة في الانتقام والثأر من المدينة التي لا تستجيب لحاجاتهم وأحلامهم ورغباتهم، وتغدو الطبيعة، أو الريف هي العالم الأكثر جمالاً وصفاء بالنسبة لهم.
وهكذا فإن بطل قصة «الرجل الزنجي» من مجموعة صهيل الجواد الأبيض يعبر عن هذه النقمة، والعدائية السافرة تجاه المدينة التي (لا تعطي أولادها سوى الجوع والتشرد والكآبة، أنا عدو المدينة المجهول) ص 11.
ويصف الماغوط هذه العلاقة بالصورة نفسها فيقول:

كنا ثلاثة

نخترق المدينة كالسرطان..
نبحث عن جريمة وامرأة تحت نور النجوم. ص 58

ان هذه الرؤية الرومانسية الى الريف، التي يقابلها موقف الإدانة والسخط على المدينة، يقابله في قصص وقصائد الماغوط وتامر تعلق كبير بالمدينة، وارتباط عميق بها، إذ تكتفي شخصيات تامر بالفوضى والتسكع في شوارع المدينة، وعلى أرصفتها، والعزلة والبطالة، وهو ما نجده في قصائد الماغوط الذي يجعل من ذلك قوة تعينه على الرفض، وتحديد خياراته في الحياة:

ما من قوة في العالم

ترغمني على محبة ما لا أحب.

وكراهية ما لا أكره

مادام هناك تبغ وثقاب وشوارع. ص 234.

ويعلن بطل قصة تامر الأولى في مجموعة صهيل الجواد الأبيض «أنا رجل فقير بلا عمل، لا أضحك، لا أبكي، أحب الخمر والغناء والأزقة الضيقة وأحب الشعر والخبز الأبيض والنهود الفتية والمطر» ص 10.
ويقول الماغوط في قصيدة من ديوانه «حزن في ضوء القمر» معبراً عن نفس التجربة والرغبات.

أنا فقير وظمآن

أنا إنسان تبغ وشوارع...

فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى وحرية التلصص من شقوق الأبواب ص 45.

ان قصص تامر تستعير من الشعر لغته ومجازه واستعارته وصوره وهذه الكثافة الوجدانية، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم، والرؤية الحزينة إليه، في حين تستعير قصائد الماغوط سردية القصص ودرامية المشهد للتعبير عن قسوة الحياة، والذات الجريحة في عالم لا يأبه لأحزانها ومقرها وأوجاعها،
ولذلك ترمز المرأة في كلتا التجربتين الى بشاعة وبؤس العلاقات الإنسانية التي تحكم مجتمع المدينة وعلاقاته الاجتماعية القائمة على بشاعة الاستغلال والظلم ويكاد اسم المرأة ـ البغي الذي يرثي الماغوط حالها، ويسميها «ماري» التي تبيع جسدها من اجل ان تأكل، يصبح نفس الاسم في قصة لتامر «قالت المرأة: «اسمي ماريا.. أترقص»؟» ص 30، بل تتوحد الحالة والمصير فـ «لحم حبيبتي الأبيض كان في الليل يؤكل على مناضد من حديد بارد» ص 10.
وإذا كان الماغوط يستنجد في رسالة شعرية عاجلة بأبيه لكي يأتيه بقطعة قرميد من سقف بيته، وبذكريات طفولته لكي يستعيد الشعور بالألفة والجمال والبساطة في غربة المدينة الغريبة، أو يتوقف الى السفر والرحيل إلى أرصفة المدن الغربية حيث الحرية والتسكع والأمان، فإن أبطال مجموعة تامر الأولى يعبرون عن الحنين نفسه والرغبة، والبحث عن الخلاص، إما من خلال الهرب من المدينة الى الطبيعة لاستعادة تلك العلاقة الحميمية الامومية، وتهديم المعامل وتحويل المدينة الى قرية خضراء ممتدة الى ما لانهاية، أو من خلال الرغبة في السفر، والتنقل الدائم بين المدن البعيدة «البحر وحلم الرحيل والسفر، آه لا شيء في العالم أجمل من البحر والسفر والتنقل الدائم» ص 35.
ان الماغوط الذي يرتطم بقاع المدينة، هو الوجه الآخر لبطل قصة «القبو» عندما تامر، والذي يشعر أن «العالم يجثم فوقي، إني سأظل حتى النهاية في قعر المدينة» ص 29، ولذلك يواجهان هذا العالم بالغضب والتمرد والإدانة تارة، وبالإعلان عن العجز والهزيمة والضياع تارة أخرى.
خارج التأطير.. داخل الحياة انحاز تامر والماغوط الى الإبداع، والإخلاص إلى التجربة والذات في تعبيرها عن نفسها، وتوقها الكبير الى الحرية والخير والجمال في عالم ملوث وحياة غير عادلة، وقد شكلت تجربتا الأديبين فاصلتين مع السياق الإبداعي الذي كانت تحكمه سلطة الإيديولوجية ورؤيتها الخارجية التي تجعل الأدب أداة للتعبير عنها، لهذا ظلت هاتان التجربتان خارج أي تصنيف مدرسي، فالإبداع الأصيل المؤسس لذاته يكسر حدود التأطير، ويرسم الفضاء الخاص به، والمعبر عن هويته الجديدة.
ان الإبداع الحقيقي هو الإبداع الذي يكسر إيقاع السياق الأدبي ويحقق انعطافه مبكرة فيه، وهذا ما جعل النقد الواقعي يستقبل هاتين التجربتين بالاتهام، والإدانة، لأنهما خرجتا على جوقة المنشدين وشكلتا صوتي نشاز فيها لكن ما ان سيمر عقد من الزمن تنضج فيه التجربة، وتتسع آفاق الرؤية حتى تغدو تجربتا تامر والماغوط المحرضتين على التجديد والإبداع بالنسبة لتجارب الجيل الجديد.
من هنا فإن قراءة هاتين التجربتين لا تتحقق، بمعزل عن دراسة القيمة الإبداعية والجمالية التي اشتركتا فيها على مستوى الوعي الفكري والجمالي، والتي منحتهما خصوصية التجربة والوعي والصدق مع الذات في تمثلها لشرطها الاجتماعي والإنساني، والتعبير عن مضمون هذه التجربة بكل القسوة والمرارة والشعور بالخذلان والرعب.
لقد ظل زكريا تامر وفياً لشعرية السرد واللغة حتى مجموعته المعروفة «النمور في اليوم العاشر» لكنه فيما بعد انعطف أكثر نحو بناء عالمه الحكائي، وتوظيف الشخصية والمكان والصراع في القصة للتعبير عن الفكرة التي يريد، مما أدى الى تراجع كبير للغة الشعرية، وان لم نقل الى غيابها تقريباً في أعماله الثلاث الأخيرة في حين ان محمد الماغوط، تحول الى المسرح فترة من الزمن ولم يكتب سوى قصائد قليلة، مقابل كتابته الساخرة في المجلات العربية، وهو ما أدى الى خسارة شاعر هام الماغوط.
بقي ان نشير في النهاية، الى تلك الروح الساخرة، والاشتغال على عنصر المفارقة في التجربتين، إذ شكلت هذه السمة ملمحاً واضحاً عندهما، ويمكن اعتبارها اقرب الى «الكوميديا السوداء» والتهكم اللاذع، الذي يعبر عن رغبة في فضح الواقع وتعريته، وإدانة قيمه، وبذلك كانت التجربتان تذهبان في اتجاه واحد نحو فضاء الحرية والإبداع بصوت عار تكتمل فيه أغنية الحياة الجريحة، وعذابات الروح الوحيدة في مواجهة دنس الحياة وسارقي فرحها.

المصدر: البيان الثقافي
الأحد10 محرم 1423هـ
24مارس 2002 -العدد 115


من يسرق حرائقنا الطويلة

حسين عبد الكريم

كقامة الكلام ؟!


أي راقصة من النوع الرديء، تردّ عليها » هزات« خصرها أو اي هزات أرضية مردودا عيشيا ومالياً، يوازي مردود عشرين كاتبا، يصرفون مجمل أعصابهم ووقتهم، ونفسهم احتراقا بنار الكتابة..


وأي مطرب » موديل « مطرب وأي مطربة » ماركة« مزعجة يرد عليهما غناؤهما المطرب مالاً وافراً، قياساً لأفضل أنواع الكتابة وأميز الكتاب..


لماذا الحروف نهدر عمرها مجاناً، والآخرون لا يهدرون إلا أذواقنا، ويتقاضون مقابل فعلتهم السيئة هذه الأموال والمكافآت..


محمد الماغوط واحد من أكبر أثرياء العالم بالأحزان وأظنه فقيرا الى » حفنة« فرح واحدة غير ملوّثة، بدخان الزيف و»هباب« الكذبات المحترقة، احتراقا سيئا.. وقد عبر عن فقره هذا بعنوان مجموعته الشعرية الأولى:


(الفرح ليس مهنتي) وعبر ثرائه بالأسف والألم وحرائق الكتابة والأحزان ب: » حزن في ضوء القمر« وفي كلّ يومياته وتجربته ورحلته ظل محمد الماغوط واحدا من كبار أثرياء الدنيا بحزنه وكوابيسه.

ألا يحق له أن نحترم ثروته الضخمة هذه ؟!

الفنان المخرج، صاحب التجربة الإخراجية الجميلة » هيثم حقي« بالتعاون مع أحد


الكتاب يقوم بإخراج عمل تلفزيوني بعنوان »حزن في ضوء القمر« أليس حريا بمبدع كـ » هيثم حقي« وقد جرب الاحتراق بنار الهموم الإبداعية ان يحرص على حرائق زميل كبير ومبدع الى حد الكآبة التي لا تنام... محمد الماغوط ؟!


هذا المبحر في محيط أحزانه وكوابيسه منذ خمسين عاما تقريبا ألا ينبغي علينا جميعا ان نقدم كل التحية وكل مقابل يجلعه قويا على العيش والبقاء مع طيور عمره النارية؟!


لاشيء في عمر محمد الماغوط إلا الأرصدة الضخمة من المخاوف الإبداعية والمفارقات والحزن والحرائق هل يحق لأحد ان يسرق حرائقه الطويلة دون كلمة حب طويلة ودون مردود، ام على المبدعين الكبار ان يحترقوا دائما بنيران هواجسهم الجهنمية والآخرون يقبلون على هذه الحرائق على أساس إنها» مشاع «يمكن الاستفادة منها دون أي مقابل..


لأي راقصة أو ممثلة مبتدئة جدا أو ممثل في طور الأماني الفنية أو مطرب مكرب يجيد الصراخ من مختلف الدرجات..لهؤلاء جميعا ان نحترمهم وأن يعيشوا ويتقاضوا على » تفاهاتهم « المقابل الكبير والمردود الزائد.. وواحد مثل محمد الماغوط وأمثاله من المبدعين الذين يحترقون ألف احتراق واحتراق، حتى يقدموا كتابات عالية.. تؤخذ حرائقهم هونا من غير مقابل ؟!؟!

www.thawra.com/althakafi/alth01.htm