Saturday, July 4, 2009

لكن الحياة تتغير يا أبانا محمد ...

شاكر الانباري
(العراق/سوريا)

شاكر الانباريسلمان تمام، ينتمي الى قبيلة بني لام، التي ينتسب إليها أيضا جمعة اللامي، هو من كتب الروايات والقصص عن تاريخ هذه القبيلة المنتمية الى طائفة الشيعة، وتسكن الأهوإر جنوب العراق، وفي مدينة الناصرية تحديدا. سلمان تمام كان واحدا من زملائنا في جامعة السليمانية، وهي من مدن كردستان العراق. كان يدرس الهندسة الزراعية،، هو شاب اسمر يشبه إلهاً سومرياً. قصير وسمين قليلا، صعلوك حقيقي من صعاليك الجامعة. أما أنا فكنت ادرس الهندسة المدنية، أيام كان المهندس واحداً من نخبة المجتمع. ما كان يميز سلمان تمام أكثر من غيره، ليس مواصفاته الجسدية، ولا شبهه بالسومريين، وإنما حفظه لكل شعر محمد الماغوط تقريبا. كان مهوساً بمحمد الماغوط. يفطر على قصائده، يتغدى بطرائفه، يتعشى بذكره.ولم نكن نعرف لماذا. كان يترنم بقصائده في المقاهي، في جلسات الشراب وعند أروقة الكلية، وفي السفرات الجامعية، حتى أوشكنا نؤمن ان سلمان تمام القادم من الهور، وكيل الماغوط الثقافي في جامعة السليمانية. ليس هنا الغرابة أيضا. المسألة ان سلمان تمام راح يعيش حياته اليومية طبقا لفلسفة الماغوط، المتشائمة من الواقع العربي، المتشكية من الحظ البائس، غياب العدالة السماوية،، الكفاف البشري في الحياة. لازمة سلمان الدائمة هي: أنا سأرفع رسالة الى الله، ممهورة بعذاب البشر، لكن كل ما أخشاه ان يكون الله أميا. ربما لم تكن القصيدة هكذا بالضبط، لأني اعتمد الآن على ذاكرتي، إلا ان جوهر القصيدة هو ذاك. يردد تمام هذا المقطع كلما رسب في الامتحان أو غابت عنه محاضرة مهمة أو أفلس وبدأ الجوع يعضه ولا يجد من يستدين منه.

اعتقد ان سلمان تمام استسهل قصائد الماغوط، لذلك كان يقف الى جانبه ومعجبا ومحازباً، وكلما جاءت المساجلات لتقارن بين أدونيس ومحمد الماغوط، في جلساتنا الخمرية التي كنا نجريها في نادي نقابة المهندسين، وهو ناد يقع وسط المدينة. والسليمانية لمن لا يعرفها، مدينة محاطة بالجبال، أسماء جبالها هي بيره مكرون، كويجة، قرداغ، وكانت في ذلك الوقت تشتعل بالنار ليلا. نراها ونحن جلوس الى كأس من العرق المستكه، نتجادل حول محمد الماغوط ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وقصيدة النثر الوليدة آنذاك. ذات مرة حرف سلمان تمام واحدة من قصائد الماغوط التمردية، قال بصوت عال: " أنا الشاعر من جبل بيره مكرون الى قرداغ". فما كان من أحد الشعراء الأكراد، الجالسين الى طاولة قريبة منا إلا ان رد عليه بصوت أجش: اخرس أيها الصعلوك. وكادت ان تقع مشاجرة حول قصيدة الماغوط في الظاهر، لكن الحقيقة هي وجود الحساسيات القومية وتوتر الوضع في كردستان العراق، التعريب الجاري على قدم وساق. وكاد ا المسكين سلمان تمام ان يذهب ضحية الماغوط الذي كان وقتها يعب العرق إما في بيروت، أو في دمشق، من دون ان يعرف ان شبابا لم تصل أعمارهم الى الخامسة والعشرين، في مدينة تختبىء وسط الجبال، يخوضون حروباً حول قصائده. وما كان يشعل النقاش وقتذاك سؤال هل ان قصائد الماغوط يمكن اعتبارها شعرا أم لا؟ كونها ليست موزونة، لا تتكىء على تراث القصيدة العربية؟ وهل يكتب الماغوط بهذه الطريقة لأنه لا يعرف الأوزان ليس إلا؟ أو هل يمكن كتابة القصيدة من فكرة عارية فقط؟ ولما كان معظم أصدقائنا وفي مقدمهم سلمان

تمام، لا يعرفون الوزن لكنهم يحبون الشعر، فقد هبوا يكتبون قصيدة النثر على شاكلة محمد الماغوط. يكتبونها في مقهى الجامعة، وفي الحدائق العامة، وقبل النوم على الأسرة، وفي المراحيض قبل ان يستمنوا. ومادتها كانت الجوارب والتبغ والنساء والجوع والبذاءات اليومية والشعارات السياسية التي تنتقم من خنوع ما هو سائد وعاهر. تركنا محاضراتنا ودروسنا وكتبنا، وانغمرنا حتى الآذان بقصائد الشعر. وكان الماغوط عملاقا بيننا. شيء يشبه الأسطورة، غامضا وعنيفا، يفتح نيرانه على الأرصفة والشوارع والمدن والحكام والفسق والسأم اليومي الضارب الإطناب على المدن العربية. تبغ وأرصفة وخمرة وموت، يخول بروح متصوفة شيئا من هذا القبيل. وكنا ندخن علبتين في اليوم، ونجلس على الأرصفة، وننظر بريبة الى العسكر والحزبيين والجرائد الصفراء بمحرريها الذين يركلهم رئيس التحرير على أقفيتهم من دون ان ينبسوا بحرف. الماغوط هو المتمرد الأوحد في تلك الشلة، بتلك المدينة. وكان سلمان تمام بكرشه الصغير، سنة بعد سنة، يروم بلوغ مرتبة محمد الماغوط. تحول سلمان الى ماغوط صغير، فهجر كتبه ودراسته، ولم يعد يأتي الى المحاضرات. سحره الماغوط بقصائده وعبثه وحياته المنفلتة، فكتب على غرفته في القسم الداخلي شعار رامبو: "من الغباء ان تبلى سراويلنا على مقاعد الدراسة". وحين رسب تمام سنتين متتاليتين، ولم تنفع قصائد الماغوط في معالجة الإحباط البشري، الذي غير العالم، سحب تمام الى الخدمة الإلزامية من شاربيه. صار جنديا مكلفا، يأتمر بأوامر عريف بالكاد أنهى دورة محو الأمية، يعاقبه أكثر الأحيان بالزحف في الطين أو حش الحلفاء في ساحات المعسكر.

زارنا ذات يوم في نهاية عهدنا بالجامعة، سهرنا في 5 نقابة المهندسين. صار سلمان شخصا مهدما، مروضا، وقال لنا بعدما سكر، ادرسوا، ادرسوا حتى لو أكلتم الحجار، فالحياة معقدة أكثر من الشعر. سمعت بعدما قامت الحرب العراقية- الإيرانية ان سلمان تمام قتل في واحد من الهجومات الصيفية على عبادان.وكان ان أكلت أنا الحجارة لكنني لم انس الشعر،و لا الماغوط. طوفت في ارض الله الواسعة، وتعلمت لغات عديدة، وعرفت نساء، وشاهدت مدنا، وكدت إلا قليلا ان أنسى الماغوط، أحزانه في ضوء القمر.، لم اعد ارفع رسائل الى احد، فلم أجدني بحاجة الى احد حتى لو كان ذاك الذي "صكئ!8 الماغوط. اشتعلت حروب وماتت حروب. وحفرت دهليزي الخاص الذي أعادني الى الشرق. عام 1997 رجعت من تطوافي الأبدي لاستقر في دمشق الشام، محبا لنسائها، خمورها وأنهارها، شبابها المتصعلكين، أحفاد الماغوط. وكان ان اشتغلت سكرتير تحرير ل"دار المدى للثقافة، النشر"، وكان احد واجباتي الإشراف على القراءة الأخيرة للكتب التي تطبعها الدار. وقع بين يدي "الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط"، التي أصدرتها الدار لاحقا. مسرحيات، أشعار، مقالات. التقيت ثانية بمحمد الماغوط، بعد أكثر من عشرين سنة. لم أعد فتى كما السابق، كما لم يعد محمد الماغوط، فارس الساحة الشعرية.ولدت أجيال جديدة من الشعراء،وغابت قمم، وامحت قسمات ظن أنها واعدة. بدأت اقرأ مخطوطات الماغوط بدقة! حاملا رائي ثقافة لا بأس بها، خبرات حياتية جيدة، ودلتني الأيام على دروبها المعتمة، الخفية، المواربة. أسفر لي الماغوط عن شخصية أخرى. لم أجد الشخص نفسه الذي كان في خيالي وأنا اجلس مع سلمان تمام، جنان جاسم حلاوي، شيركو بيكيه وسط تلك المدينة الجبلية. لم استسهل الإنشاء، في جملة الماغوط، وهو الوباء الذي خلفته لنا قرون من الركود الحضاري في الروح العربية، لغة وعمقا وطزاجة. وكان هناك خلل في إمساك المعنى، يغطي عليه الضباب الكثيف الذي يثيره الشاعر ليستر ضياعه الشخصي. إما الاشتطاط والسرد المنفلش والتيه في التفاصيل، أو السباحة في عموميات الأفكار، فيمكن ملاحظتها بوضوح.
هناك أيضا السهولة المجانية، وهذا ما يؤول إليه شاعر لا يتمتع بعمق ثقافي ربما. كما لاحظت في شعر الماغوط ذلك الهروب الكبير من نبض الواقع. ناتج من العيش في أبراج الثقافة العاجية. أبراج مصنوعة من كتب، أفكار، شعر، روايات... الخ. لم أشم رائحة العرق، الأرصفة التي تكلم عنها. كما لم اقرأ ملامح المرأة التي أحبها شعريا، فكان يتمرد في فضاء اللغة، يحب في فضائها أيضا. يكفر في اللغة، يهاجم السلطة في اللغة، وظل شعره وليد لغة عربية مليئة بالإنشاء والتضخيم والادعاء والصنعة. وكان ان عرفت ان هذا ربما ناتج من بعد الشاعر عن إيقاع الحياة وعن إيقاع اليومي الذي يجده المرء في ساحة المرجة، عند سوق الحرامية في جسر الثورة، وفي أصقاع الريف بفلاحيه، بقره، حقوله. بحانات المدينة السفلية، هي تغص بالشاربين من كل صنف ولون. من الذين أنهكهم الدين واللصوص و القوادون، الصحافيون المحبطون، العمال المياومون، النساء العاهرات. كل ذلك الفرن المتوهج لم أجد صداه في شعر الماغوط.
وكان ان جاء الماغوط الى مكتب "دار المدى" في ركن الدين، وسط دمشق، شيخا يدب على عكازه، تلف سماءه غيمة من الارتباك، الهزيمة والوحدة. الزمن يبتلع ما عداه. لم اشعر بالرهبة منه. لم اعد صغيرا، صرت اعتز بتجاربي حتى لو كانت ضئيلة. شعرت بالاحترام العميق لهذا الرجل. هذا الكائن الذي ترنمنا بشعره بين قرداغ، بيره مكرون. هذا الذي تمردنا معه على الأرصفة، دخنا أحزانه وتشرده ويأسه، ونحن نحتسي الشاي الكردي، نتحدث عن ثورة البارزاني. محمد الماغوط اليوم يعيش في وحدة قاتلة، بعدما فارقته سنية صالح، وثقل سمعه وأرهق بصره الضوء. انه زمن الصحافيات الصغيرات، اللواتي يشتغلن مخبرات. لا زمن المتمرد العملاق محمد الماغوط. ربما أدرك الماغوط بؤس السلطة،وبؤس الزمن، وتفاهة مدعي الثقافة، لذا انتحى جانبا. كلما رأيته يسير نحو فندق الشام ليحتسي قهوته الصباحية، أندب حظ الثقافة في هذه الأمة. لكني مع نفسي أقف وأقول: أنحنى لك إجلالا أيها الشاعر، الذي أشعلت فينا جذوة التمرد منذ ربع قرن. وأتذكر أيضا الماغوط الصغير، المدعو سلمان تمام الذي شطرته الحرب شطرين، دفنته في مستنقعات الناصرية. أنحني لك أيها الشاعر الذي لقمتني التمرد. لكن الحياة تتغير يا أبانا محمد.

****************


No comments:

Post a Comment