Saturday, July 4, 2009

سيرة ذاتية ...


مقدمة
تقول الأسطورة «أن زيوس إله الأولمب عندما غضب على البشر منع النار عنهم، لكن بروميثيوس انطلق إلى جزيرة لمنوس، حيث كان هيفاستوس يحتفظ بنيرانه موقدة، فسرق بروميثيوس جمرة من النار المقدسة وجعلها في جذع شجرة فارغ، وحمله عائداً إلى بني البشر، ولما علم زيوس بهذه الفعلة غضب غضباً شديداً، وبعد إرساله المصائب والطوفان، تجددت حياة بني البشر، وشُفِيَ زيوس من غضبه، إلا أن بروميثيوس كان عليه أن يحاسَب على غشه ولصوصيته، وبناء على أمر من زيوس قام هيفاستوس يعاونه كراتوس ووبيا، بالقبض على بروميثيوس وشدّوا وثاقه بالسلاسل إلى إحدى قمم جبل القوقاز، وهناك أرسل له زيوس نسراً ذا جناحين عظيمين راح يتغذى على كبده التي لا تموت، وبمقدار ما يلتهم الهُولة المجنّح من كبده في النهار، ينبت له منها في الليل بنفس هذا المقدار، وعلى الرغم من هذا العذاب الأليم، ظل بروميثيوس مصراً في عناد لا يشكو ولا يتضرع ولا يصلي تذللاً. وما ونى عن تحدي سيد الأولمب والتعبير عن كراهيته له في انفجارات عنيفة، أليس في حوزته سر يتعلق بما ينتظر زيوس نفسه من خطر؟..»

إن من يقرأ حياة محمد الماغوط ويطّلع على شيء من أعماله ومواقفه يشعر أن حياته لا تخلو من الأسطورة. وكما يقول صاحب «الخيميائي» باولو كويليو أن لكل إنسان أسطورته الشخصية التي يبحث عنها ليعيشها، ففي أسطورة محمد الماغوط الشخصية الشيء الكثير من حضور شخص بروميثيوس بما تحويه من روح تمرّد تجاه السلطة بأشكالها المختلفة من جهة، وحبه وإخلاصه للجنس البشري من جهة أخرى، هذا الحب وهذا الإخلاص الذي دفع بروميثيوس أن يسرق النار المقدسة ويهبها للجنس البشري، نجده عند محمد الماغوط، وتتمثل لديه هذه النار المقدسة بالحرية التي أراد أن يهبها للإنسان العربي الممزّق والذي يئن تحت جراحات السلطة بأشكالها المختلفة، أبوية بطريركية أو دينية سلفية أو سياسية قمعية... إلا أن حبه للإنسان العربي لم يكن انغلاقاً وانطواءً بقدر ما يعني حباً للإنسانية الجريحة التي يراها أول بأول تتجسد في هذا الإنسان العربي الحبيب الغالي الذي دفعه حبه الكبير له أن يدفع ثمنه غالياً فكان عقابه إلهياً، فكما أن زيوس أرسل نسراً ذا جناحين عظيمين يتغذى على كبد بروميثيوس التي لا تموت، هكذا كانت عذابات الماغوط التي لا تنتهي. واندفع من داخله ينبوع سخرية مرير وسحري، ينتقد ويتساءل ويتمرّد.

وأخيراً، تقول الأسطورة أن بروميثيوس استطاع بشكل ما أن ينال الخلود الإلهي، واتخاذ مكانه الدائم على الأولمب.

إذن، هل نستطيع أن نسأل فيما إذا كان الماغوط قد استطاع أن ينال الخلود في الوجدان العربي والعالمي كصوت ضمير حي ما برح يشير إلى الطريق الواجب اتخاذه.. هل بوسع الإنسان العربي اليوم وغداً وبعد غد أن يسمع هذا الصوت يجلجل في داخله عاصفة من دموع وثورة من دم..؟‍!

سيرة حياته
في قرية استولى عليها الرومان يوماً ما، ونظموا فيها أقنية للري، وهُدِمَت مرات كثيرة، وكانت معقلاً للقرامطة، وعاشت على تخوم البادية والريف، وذات نزعة ثقافية مميزة، وذات بيئة إشكالية تتراوح في الثلاثينات بين أمراء وفلاحين، تدعى السلمية.. هناك وُلِدَ محمد الماغوط في العام 1934، وأبوه اسمه أحمد عيسى وأمه ناهدة الماغوط حيث أن الأب والأم من نفس العائلة، وكان الابن الأكبر في عائلة تضم ستة أخوة.

وهو يذكر أنه حين كان في السابعة من عمره خرج أول مرة ليرعى الخراف.

ولما كان ابناً لفلاح، وبالتالي لم يكن له مدرسة بل ما يُسَمّى بـ«الكتّاب» حيث كانت مدرسته الابتدائية تحت شجرة وارفة الظل يجتمع عندها أبناء الفلاحين مع «الخطيب» ليعلمهم القراءة والكتابة.

وعلى الرغم أن الماغوط يذكر أن والده كان مسالماً وفقيراً، وقضى حياته في الحصاد، وعمل أجيراً في أراضي الآخرين، فإننا نسمعه يقول: «كان أبي لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية.. ويشتمني في السوق». أما أخوه الأستاذ إسماعيل الماغوط فنسمعه يقول عن أخيه أنه كان متمرداً منذ الطفولة.

وفي الواقع، نجد أن محمد الماغوط بدأ التدخين منذ التاسعة من عمره، حتى أنه كان يلتقط أعقاب السجائر ويدخنها، وعكس هذا شيئاً من روح التمرد لديه، هذه الروح التي اصطدمت بالسلطة الأبوية التي يملكها أبوه الذي حاول توجيه ابنه وكبح جماحه ولكن دون جدوى.

وروح التمرد هذه التي ظهرت مبكراً لديه تجلّت أيضاً بشكلها الواضح حين أتى أحد الأمراء وهو فارس ليرمي حنطة للفقراء، وذلك أثناء دفن أحدهم، فكان أن الماغوط الطفل أمسك بحجر وضرب الأمير الفارس به، و يذكر الماغوط بعد سنين طويلة أن آثار سوط الأمير بقيت على جلده.

إذن، بعد «الكتّاب» دخل الماغوط في المدرسة الزراعية في السلمية، وفي طفولته الباكرة هذه تعلم الماغوط قراءة القرآن الكريم الذي أصبح فيما بعد مرجعيته الأولى في اللغة العربية. وظلّ عالقاً في ذاكرته رائحة صفحات القرآن العتيقة وكيسه القماشي.

كانت حياة الماغوط التعليمية محدودة، وبعد تحصيله الإعدادية المتوسطة في المدرسة الزراعية في السلمية، وكان وقتذاك في الرابعة عشرة من عمره حين تعرّف سليمان عواد الذي يعتبره معلمه الأول، ووقتذاك كان ينشر في «الآداب» و«الأديب» ويذكر الماغوط أنه من عرفه على الشعر الحديث وقرأ له رامبو مترجماً، ويعتبره من أوائل من كتبوا قصيدة النثر.

في هذا العمر غادر الماغوط إلى دمشق لدراسة الهندسة الزراعية في ثانوية «خرابو» الزراعية بالغوطة، وكانت عبارة عن معهد داخلي، وهو يذكر أن والده آنذاك بعث رسالة للثانوية لكي يرأفوا بحاله لأنه فقير، وعلقوها على لوحة الإعلانات بالمدرسة مما جعله مكان سخرية الآخرين وضحكهم. كما يذكر أنه اكتشف عدم صلاحيته للعمل في الأرض، وأن الحشرات والمبيدات ليست هوايته المفضلة بل الحشرات البشرية، ناهيك عن تردي وضع أسرته المادي، كما أنه يعزو دخوله إلى هذه المدرسة لسبب أنها كانت تقدم الطعام والشراب مجاناً، إذن، اجتمع هذا كله في نفسه، ودفع به إلى ترك الثانوية والهرب منها، فمشى خمسة عشر كيلومتراً في دمشق، ولم يكن يعرف أحداً وقتذاك، ثم عاد إلى السلمية.

وفي السلمية دخل الحزب القومي دون أن يقرأ مبادئه، وهو يذكر أنه كان وقتذاك يوجد حزبان، البعث وكان في حارة بعيدة في حين كان القومي بجانب البيت وفيه مدفأة أغرته بالدفء فدخل إليه.

وفي هذه الفترة حين كان فلاحاً بدأت بوادر موهبته الشعرية بالتفتح فنشر قصيدة بعنوان «غادة يافا» في مجلة «الآداب» البيروتية.

فيما بعد، قام الماغوط بخدمته العسكرية في الجيش حيث استهل قصائده النثرية، بقصيدة «لاجئة بين الرمال» نُشِرَت في مجلة «الجندي»، وكان ينشر فيها أدونيس وخالدة سعيد وسليمان عواد، وكان ذلك بتاريخ 1 أيار 1951، وتوجّه إلى أدونيس الذي كان مسؤولاً عن الركن الثقافي بهذه العبارة: «يصوّر الكاتب في هذه المقطوعة تصويراً رمزياً، الحالة المؤلمة، لأبناء فلسطين، بعد الكارثة». يقول فيها: «وجه طرزته الفطرة بالسذاجة.. وصدر سلبت الرياح قناعه.. فبان بين صواريه الحانية.. نهدان خافتان احتضنتهما الصخور.. كنبتة ناهضة أذبلها الهجير.. ودمعة حارة النزيف.. فتية الانحدار.. ترسم خطوطاً بائسة وجوانح محطمة.. على قوادم تلك الصبية الراقدة».

بعد إنهاء خدمته استقر الماغوط في السلمية، إلى أن حدث زلزال في حياته المبكرة، تمثّل في اغتيال «عدنان المالكي»، وبالطبع اتُّهِمَ في ذلك الوقت الحزب القومي باغتياله، ولوحق أعضاء الحزب، وتم اعتقال الكثيرين منهم، وكان الماغوط أولهم، وللمفارقة يذكر أن اعتقاله تم بساعة تقريباً قبل الاغتيال نفسه، وكان هذا في عام 1955.

في هذا السياق يقول الباحث لؤي آدم: «.. فعلاً إن المدة التي قضاها الماغوط، رغم أنها لم تتجاوز الأشهر الستة أو السبعة إلا أن هذه الشهور لم تكن متوالية بل هي على مراحل وفترات متقطعة، تخللتها الكثير من الملاحقات والعنف الفظيع والتخفي في أقبية..». وفي السجن تعرّف الماغوط على أدونيس حيث كان الماغوط بالمهجع الرابع، وأدونيس بالمهجع الخامس.

وعن تجربته الأدبية في السجن يقول الماغوط: «كنت أدخن.. الطاطلي سرت والبافرا وعلى ورق البافرا كتبت مذكراتي في السجن وهرّبتها في ثيابي الداخلية، واكتشفت لاحقاً أن ما كتبته كان شعراً. قصيدة "القتل" كتبتها في السجن ونشرتها كما هي.

بداياتي الأدبية الحقيقية، كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها، وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق».

إذن، في السجن كان الماغوط قد كتب قصيدة «القتل» كما كتب قصيدة رائعة يعبّر فيها عن حبه العذري لإحدى فتيات بلدته في بدايات المراهقة.

استمرت هذه الفترة العصيبة من حياة الماغوط في السجن وخارج السجن، ففي فترة الوحدة بين سورية ومصر كان الماغوط مطلوباً في دمشق، فقرر الهرب إلى بيروت في أواخر الخمسينات، وكان دخوله لبنان بطريقة غير شرعية سيراً على الأقدام، وأخيراً انضمّ الماغوط إلى جماعة «شعر» حيث تعرف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه في مجلة «شعر»، ويذكر الماغوط أن أول من اكتشفه كشاعر كان أدونيس وذلك في إحدى جلسات مجلة «شعر» فقرأ قصيدته «القتل» بحضور يوسف الخال، وأنسي الحاج، والرحابنة، دون أن يعلن عن اسمه، فتركهم يتخبطون (بودلير؟.. رامبو؟) إلى أن أشار أدونيس إلى الماغوط، وقال «هذا هو الشاعر».

وذات مرة طلب يوسف الخال قصيدة من الماغوط فقال له: «غداً سأحضرها». وفي الليلة ذاتها كتب «حزن في ضوء القمر» وأحضرها في اليوم التالي.

وفي بيروت نشأت بين الماغوط والشاعر بدر شاكر السياب صداقة حميمة، كان صديق التسكّع على أرصفة بيروت، وكان السياب برأي الماغوط بسيطاً وصادقاً ويشبهه في جانب من سيرته.

وأخيراً، تعرّف الماغوط في بيت أدونيس في بيروت على سنية صالح، وهي شقيقة خالدة سعيد، زوجة أدونيس، وكان التعارف سببه تنافس على جائزة جريدة «النهار» لأحسن قصيدة نثر.

وحين عاد الماغوط إلى دمشق، كان قد غدا اسماً كبيراً، حيث صدرت مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» (دار مجلة شعر، 1959)، وعن الدار نفسها صدرت، بعد عام واحد مجموعته الثانية «غرفة بملايين الجدران» (1960).

وبعد عودة الماغوط إلى دمشق، جاءت سنية صالح للدراسة في جامعة دمشق، فكان أن ساعدها في استكمال أوراق الجامعة، ثم نشأت بينهما قصة حب عاصفة حسب تعبير الماغوط.

في العام 1961 أمضى الماغوط في السجن ثلاثة أشهر، وكانت سنية صالح وصديقه الحميم زكريا تامر يزودانه بالكتب.

فيما بعد ظل الماغوط فترة من حياته مطارداً، فاختبأ في غرفة واطئة بحي «عين الكرش» وكانت غرفة نصفية، وكان عليه أن ينحني كي لا يصطدم رأسه بالسقف. وفيها كتب «العصفور الأحدب» حيث كان العصفور يرمز للحرية، أما الأحدب فلأنه يصف حالته في تلك الغرفة. وأيضاً كانت سنية صالح وكذلك زكريا تامر يجلبان له الكتب إلى مخبئه هذا.

يقول الماغوط: «حين كتبت مسرحية "العصفور الأحدب" كانت على أساس أنها قصيدة طويلة، لكن حين قرأتها سنية صالح، قالت هذه مسرحية، فسألتها ما هي شروط المسرحية، قالت أن تكون على فصول، قلت: كم فصلاً أحتاج. أجابت: أربعة، فجلست وكتبت الفصل الرابع وأنهيتها. كل ما أكتبه شعر. حتى لو كان نصاً مسرحياً أو مقالاً أو زاوية صحفية.. أرغب أن ألغي المسافة بين ما هو شعر وما ليس شعراً.. الموسيقى في أشعاري موجودة في متن النص..».

سنية صالح
تزوج الماغوط من الشاعرة سنية صالح فها نحن ذا نسمعه يقول عنها: «سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون، إنها شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جداً، كما أنها لم تأخذ حقها نقدياً».

كما يذكر خليل صويلح: «يقول عنها في "الأرجوحة": لقد كان قروياً حزيناً لا تزال رائحة العنب والتلال الجرداء متخمرة في شعره، يشق طريقه كالمحراث الصغير بين النساء ويخلفهن وراء سريره كالأثلام، في كل المدن والأقبية والمكاتب التي عاش فيها كصحفي وكمتشرد. كان يعتقد أن الحب هو ذلك الارتجاف الذليل الخاطف في عروق الظهر، تلك النار المندفعة كما الجداول حول الرئتين وأمام مصب القلب، حيث ينتهي كل شيء بمجرد تعقيم اليدين وترتيب الشعر أمام المرآة.

إلى أن جاءت "غيمة" – وهو يقصد بها سنية صالح – وأحكمت اللجام الحرير بين القواطع، وحكت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وبريق المرآة، وأغلقت كل الشوارع، ولملمت كل أوراق الخريف ووضعتها في أنبوب المدخنة للذكرى. أو بالأحرى، عندما جاءت لتقلب كل شيء رأساً على عقب، وتجعل الكتب والثياب والأوراق وكل ما تزدحم به غرفته الصغيرة أشبه بأسلاب حرب لا يعرف إلى من تؤول في النهاية.

ولكنه يرددها كالكروان مئات المرات في اليوم: إن حياته من دونها لا تساوي أكثر من علبة ثقاب».

كان الماغوط قد غادر الحزب مبكراً، وفي رأيه أن الإنسان أكبر من الحزب.

في الستينات قام الماغوط بعمل صحفي، وكتب مقالات نقدية ساخرة، كما صدرت مسرحية «المهرج». وكانت «البناء» البيروتية هي التي احتضنت باكورة نتاجه الساخر منذ أعدادها الأولى عام 1958.

في السبعينات عمل الماغوط في دمشق رئيساً لتحرير مجلة «الشرطة» حيث نشر كثيراً من المقالات الناقدة في صفحة خاصة من المجلة تحت عنوان «الورقة الأخيرة». وفي هذه الفترة بالضبط بحث الماغوط عن وسائل تعبير أخرى، أشكال من الكتابة قد تكون أوضح أو أكثر حدة، فكانت مسرحياته المتوالية «ضيعة تشرين»، «غربة»، وفيها أراد الماغوط الكتابة إلى العامة، فاستبطن وجدان وأحزان الإنسان العربي، وزاوج بين العنصر التجريبي والشعبي في كتابة كوميديات ساخرة وباكية في آن معاً.

في النصف الثاني من السبعينات كتب الماغوط في جريدة تشرين زاوية يومية بعنوان «عزف منفرد» بمشاركة الكاتب السوري زكريا تامر. كما كتب أيضاً في مجلة «المستقبل» (باريس) صفحة بعنوان «أليس في بلاد العجائب» 1978، وفي 1979 ظهرت مسرحيته «كاسك يا وطن».

فترة الثمانينات كانت صعبة وقاسية، بدأت بوفاة شقيقته ليلى بمرض خبيث (1984)، ثم وفاة والده (1985)، لكن الأصعب والأقسى كان وفاة زوجته الشاعرة سنية صالح (1985)، وكانت قد صارعت الموت في مشفى بضاحية قرب باريس حيث أمضت عشرة أشهر للعلاج من المرض الذي أودى بها. والماغوط يتذكر تلك الفترة فيقول: «حين كانت مريضة، جلست بقربها وهي على فراش الموت، أقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها: "أنت أنبل إنسان في العالم"». وأوصت الشاعرة المحتضرة زوجها الماغوط بعدم الزواج من بعدها، وتربية ابنتيهما شام وسلافة، وها نحن نسمعه يقول: «لم أكن عائلياً، محباً لحياة الأسرة، الآن فقط، بعد رحيل سنية، أصبحت محباً للمنزل والعائلة».

وهكذا ظل الماغوط مخلصاً لذكرى زوجته حتى آخر حياته، ملتزماً تجاه ابنتيه، حيث أصبحت «شام» طبيبة وتزوجت لتستقر في أميركا، أما «سلافة» فقد درست الفن التشكيلي في جامعة دمشق، ثم تزوجت واستقرت في دمشق.

وبعد كل هذا تودعه أمه «ناهدة» عام 1987، ويذكر أنها زارته في أيامها الأخيرة في دمشق، وكان عمرها يتجاوز الثمانين. وهكذا ترك الموت بصمة الحزن في عمق روح الماغوط الثائرة والمتمردة حتى اعتبره البعض شاعر الرثاء الكوني.

من عمق معاناته كان إبداعه المتواصل يتفجر وتتنوع وسائل التعبير لديه فكتب سيناريوهات أفلام «الحدود» و«التقرير» و«المسافر» كما كانت قد ظهرت مسرحية «شقائق النعمان» ومسلسلات تلفزيونية مثل «حكايا الليل» و«وين الغلط».

وأخيراً نشر نصوصه الجديدة عبر مجلة «الوسط» اللندنية بمعدل نص كل أسبوعين على الصفحة التاسعة من كل عدد تحت عنوان «تحت القسم».

وفي عام 1996 تعرض الماغوط لوعكة صحية نُقِلَ على أثرها إلى باريس إذ عانى من انسداد الشريان السباتي الأيسر وخضع لعمل جراحي خطير.

وفي بدايات الألفين ظهر عمله «سياف الزهور» (نصوص حرة) يستهلها بقصيدة رثاء لزوجته سنية صالح، وتحدث فيما بعد في إحدى حواراته عن مسرحية «قيام، جلوس، سكوت» التي اشتراها الفنان زهير عبد الكريم، ومسرحية «المقص» واشترتها وزارة الثقافة وسيخرجها ماهر صليبي، كما ظهر ديوانه «شرق عدن، غرب الله».

وفي عام 2005 نال الماغوط جائزة العويس للشعر التي أدخلت السعادة إلى قلبه، وعندما حضر توزيع الجوائز يذكر البعض أنه كان على كرسي متحرك.

وبعد ظهر الاثنين الثالث من نيسان عام 2006 أسدل القدر ستاره، ورحل الماغوط عن عمر يناهز 72 عاماً وذلك بعد صراع طويل مع مرض السرطان، تاركاً دموعاً حزينة على مآقي الوطن الذي أحبه للغاية.


1


الجوائز التي نالها
1) جائزة «احتضار» عام 1958.
2) جائزة جريدة النهار اللبنانية لقصيدة النثر عن ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» عام 1961.
3) جائزة «سعيد عقل».
4) صدور مرسوم بمنح «وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة» للشاعر محمد الماغوط من سيادة رئيس الجمهورية بشار الأسد.
5) جائزة «سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر» البالغة مائة وعشرون ألف دولار عام 2005.

أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
يذكر خليل صويلح في حواراته التي حررها: «كمال خير بك، قال أن قصيدة النثر بدأت مع محمد الماغوط، وليس مع أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج..».

وفي الواقع كتب الماغوط أشكالاً مختلفة من الخطاب الأدبي منها: المسرحية، والمقالات الأدبية، لكنه ظهر رائداً من رواد قصيدة النثر على مستوى الوطن العربي، إن لم نقل الرائد الأول في كتابة قصيدة النثر على مستوى الوطن العربي.

أما مفهوم الماغوط لقصيدة النثر فيعبر عنه بقوله: «الشعر نوع من الحيوان البري، الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه، وأنا رفضت تدجين الشعر، وتركته كما هو حراً، ولذلك يخافه البعض. وأعتقد أن "قصيدة النثر" هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة، وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي..».

وبدورها تعرف الأستاذة ليلى إبراهيم المغرقوني في رسالتها للماجستير «شعرية الصورة في قصيدة النثر لدى محمد الماغوط» "قصيدة النثر على أنها تمثل جنساً أدبياً مستقلاً من الوزن – لا الإيقاع – معتمداً على الإيجاز والتكثيف في بنائه. أما مفهوم الشعرية فهو مصطلح يطلق على طبيعة الأدب (إنها المبادئ الأساسية لكتابة الشعر، ومعظم أشكال الأدب ككل)، وشعرية الصورة تقسم إلى ثلاثة مستويات: تركيبي، وايقاعي، ودلالي.

وفي المستوى التركيبي تتم فيه مجاوزة قواعد اللغة ومخالفتها من أجل تحقيق شعرية الصورة.

أما المستوى الإيقاعي فقد تم البحث فيه عن الشعرية عبر أشكال إيقاعية خاصة بقصيدة النثر، كالتكرار بأشكاله، وإيقاع التركيب القائم على تركيب المفردات داخل الصورة وفق مقتضى السمع، وأدرجت هذه العناصر تحت خانة الإيقاع الخارجي، أما الإيقاع الداخلي فهو إيقاع دلالي متعلق بانسجام الدلالات، وتداعيها بما يوافق بعضها بعضاً لتكون الإيقاع المتواصل.

وأما الصورة الشعرية فهو مصطلح فلسفي يتعلق بالبحث في قضية الفصل بين الشكل والمادة، ولقد انتقل إلى الدراسات الأدبية، بالإضافة إلى الاهتمام بقضية الفصل بين اللفظ والمعنى. وتوالى الاهتمام بالصورة حتى غدت الأساس الذي يقوم عليه الشعور فلا شعر بلا صورة، لأن ما يجعل الكلام شعراً هو الخروج عن اللغة العادية المألوفة، إلى لغة أخرى تعتمد الاختراق التركيبي والدلالي، ومن هنا كانت دراسة الصورة تعني دراسة الشعر كله.

أما مفهوم الصورة فهو يدل على المشابهة أو المماثلة بين شيء وآخر، وقد تكون الصورة تشبيهاً أو استعارة، فالصورة في معناها الاصطلاحي هي تمثيل شيء بشيء آخر بغية التمثيل الحسي لهذا الشيء».

ومن جهته نسمع محمد الماغوط يقول في الحوارات التي حررها خليل صويلح: «إذا كنت أعتمد على الصورة في نقل انطباعاتي عن العالم، فلأنني لا أملك سوى القلب والعينين. كل ما أتذكره في حياتي يأتي على شكل صورة. طفولتي شريط صور. أكثر ما أحببت في طفولتي ذاك الدكان الذي كان يبيع دخان لف وقضامة ولن أنساه ما حييت».

وفي حوار أجراه أحمد علي الزين معه نسمع الماغوط يؤكد أنه في كل شعره، فإن الصورة هي التي تلفت النظر.

فلنتابع دراسة الأستاذة ليلى ابراهيم المغرقوني التي تستشهد بالصورة الشعرية في قصيدة النثر عند الماغوط من خلال قصيدته «نجوم وأمطار» من ديوان «غرفة بملايين الجدران»:

«أريد أن أهز جسدي كالسلك
في إحدى المقابر النائيه
أن أسقط في بئر عميقه
من الوحوش والأمهات والأساور
لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح
نسيت ضوء القمر ورائحة الأطفال
إن أحشائي مليئة بالقهوة البارده
والمياه العمياء
وحنجرتي مفعمة بقصاصات الورق وشرائح الثلج
أيها الماء القديم
أيها الماء النيئ.. كم أحبك».

«ففي المقطع "أريد أن أهز جسدي كالسلك في إحدى المقابر النائية"، الجسد الإنساني عنصر حي متحرك، أما السلك فهو عنصر جامد، خالٍ من الحياة، منفعل بغيره، لا يهتز إلا بفعل قوة خارجية تتحكم في حركته، وهذه القوة هي ما يسعى الشاعر إليه، لأنه يريد أن يمتلك قوة تحريك نفسه، والتحكم بحياته، ومصيره، إنه يريد الانتقام من ذلك الجسد الذي يثقله بحاجاته من أكل وشرب، في حين يقف عاجزاً عن تلبية تلك الحاجات الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تغييب ذلك الجسد، كما يغيب السلك عن النظر من جراء الهز العنيف له، ويريد أن يكون التغييب في إحدى المقابر النائية، لما توحيه من فقر وموت، إذ يبحث عن الموت للجسد الذي لا يستطيع أن يحييه، بسبب الظروف المعيشية القاسية التي يحياها، وظروف الحرمان والعوَز التي تكتنف واقعه.

أما "صورة البئر" فهي جدران ممتدة داخل الأرض من الاتجاهات كلها، وتغييب الشاعر لنفسه داخلها، يعني ممارسة نوع من النفي لذاته، ويعزز هذا الصفة كلمة "عميقه" المنتهية بالهاء المفيدة للتلاشي داخل البئر، ولعل هذه الصفة تفيد نوعاً من الاتحاد بين الشاعر والأرض، وبالتالي العودة إلى رحمها، أملاً في ولادة جديدة أفضل، وما استعماله لصور الوحوش إلا لأنها ترتبط مع القصص الطفولية الخرافية، وحين استعمل "الأمهات" فقد كان ذلك تعويضاً منه لفائض كبير من الفقد والحرمان من الحنان، إذ لا يكتفي بأم واحدة، بل يريد أكبر قدر من الأمهات، ليحطنه ببالغ العطف والحب الذي حُرِمَ منه في حياته مع الآخرين.

أما "صورة الأساور" فهنا يريد الغنى والرفاهية التي يحلم بها.

أما حين يقول:
"لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح
نسيت ضوء القمر ورائحة الأطفال"

فهو يعيش حياة الفقر والجوع والتشرد، ويفتقد الإحساس بالسعادة والطمأنينة والثقة بالنفس، مما يشيع التوتر والإحساس بضآلة نفسه، الأمر الذي يصرفه عن الآخرين، لينفرد بنفسه، وينطوي في عزلته التي عاشها عندما كان ملاحقاً وهارباً إلى بيروت. وتكتمل حركة الاتجاه نحو داخل الأرض باتجاه الشاعر إلى داخله أيضاً، فالأحشاء تشير إلى هذه الحركة التي يفرضها تقوقع الذات، نتيجة الحياة المتردية التي يحياها، ولكن الخارج المشوه ما هو إلا صورة الداخل، لأن الأحشاء المملوءة بالقهوة الباردة، تشير إلى عزلة الشاعر، إذ ترتبط القوة بالضيافة، وبالتالي بالتواصل مع الآخر، ولكن حضورها هنا يغير دلالتها الإيحائية، لاقترانها بالصفة "الباردة" التي تشيع دلالة الفتور والبرودة التي تطال العلاقات الاجتماعية المحيطة، فالشاعر المعزول عن الآخرين، يفتقد الحياة لأنه يعيش على عناصر الحياة المشوهة بفعل المادة، إذ تبدو المياه عمياء لا ترى النور، والعطالة المحقّقة في اتصال الشاعر بالآخرين محققة أيضاً من اتصاله بنفسه، لأن الشعور المأساوي يطبع تجربته، وحياته تهبط مدفوعة نحو السكون والصمت، وحين يقول "حنجرتي مفعمة بقصاصات الورق وشرائح الثلج" فإن سكوت الشاعر فيه مقتله وموته، وسكوته متعلق بحنجرته المسؤولة عن إخراج الصوت، وعطالته تعني اتجاهه نحو الموت، لأن وجوده الحقيقي كشاعر يتحدد من خلال قدرته على الكلام والإبداع، لكن الحنجرة المفعمة بقصاصات الورق وشرائح الثلج، تدل على وجود قوة خارجية تمارس فعل كتم الصوت وإخفائه، وهي القوة التي تعزز تشظي الشاعر وتمزقه، فقصاصات الورق تشي بالانفصال والتمزق والأمر ذاته ينطبق على "شرائح الثلج" ومن هنا كان نداء الشاعر للماء القديم النقي، الذي يبعث الحياة، ويمثل طهرها، وفطرتها.

وهكذا فإننا نجد أن شعرية الصورة والبصرية منها تكمن في تحول دلالة الأشياء، وانزياحها عن دلالتها البصرية المألوفة، لتغدو موافقة للرؤيا بمفهومها المجرد، لا الرؤية بمعناها المادي المقترن بالبصر، حتى يصبح كل عنصر مرئي وسيلة استشراف، وكشفاً لما هو خفي.

وفي قصيدته بعنوان "رسالة إلى القرية" من ديوان "الفرح ليس مهنتي" يقول:

"أنام
ولا شيء غير جلدي على الفراش
جمجمتي في السجون
قدماي في الأزقة
يداي في الأعشاش
كسمكة "سانتياغو" الضخمة
لم يبق مني غير الأضلاع وتجاويف العيون"

فاليدان وسيلتا الكتابة والإمساك، تتوضعان في الأعشاش التي توحي بالأمان والحماية، ولما كانت الكتابة هي الوظيفة الأساسية بالنسبة للشاعر، فتوضعها في الأعشاش يحقق للكاتب جواً من السلام، والأمن، وفسحة من حرية الإبداع، الأمر الذي يساعده على استخدام وسيلة النجدة الغيابية، الرسائل، وهذا ما أظهره العنوان "رسالة إلى القرية" الدال على الرغبة في التواصل مع الريف النقي، لأنه رمز الحياة الهادئة السعيدة، لكن غياب المرسِل عن المكان الذي يرسل إليه رسالته، يعني موته، لأنه يعيش حياة الغربة والمطاردة، الأمر الذي يحيل حياته إلى قلق دائم، ويرى نفسه هيكلاً عظمياً، خالياً من الحياة، والقدرة على الاستمرار.

وللصورة الشعرية وظيفة هامة تقوم في الكشف عن الموقف الفكري، وهذا ما تشير إليه الأستاذة ليلى ابراهيم المغرقوني في قصيدة "كل العيون نحو الأفق" من ديوان "الفرح ليس مهنتي":

"مذ كانت رائحة الخبز
شهية كالورد
كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين
وأنا أسرّح شعري كل صباح
وأرتدي أجمل ثيابي
وأهرع كالعاشق في موعده الأول
لانتظارها
لانتظار الثورة التي يبست
قدماي بانتظارها
من أجلها
أحصي أسناني كالصيرفي
أداعبها كالعازف قبل فتح الستار
بمجرد أن أراها
وألمح سوطاً من سياطها
أو رصاصة من رصاصاتها
سأضع يدي حول فمي
وأزغرد كالنساء المحترفات
سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور
وأشكو لها
كم عذّبني الجوع وأذلّني الإرهاب

وهنا يعبر الماغوط عن روح التمرد لديه بدءاً من سلطة الأب، مروراً بسلطة رجال الدين، وانتهاءً بالسلطة السياسية التي كانت تمارس العنف في فترة الستينات، عندما كانت سورية تعيش حياة قلقة ومضطربة. إلا أن موقفه من الثورة، موقف المنفعل بها، لا الفاعل فيها، مما يدل على موقف الرفض السلبي للمجتمع، أي الرفض المقرون بالاستسلام والخضوع، إذ ينتظر من الثورة أن تبادر بفعل التحرك تجاهه.

وهكذا نجد أن شعرية الصورة عندما تقوم بوظيفة الكشف عن الموقف الفكري تتجلى على صعيدين، أولهما: الفجوة-مسافة التوتر، الناتجة عن رفض المبدع لواقعه، وسعيه إلى تغييب الحاضر-الواقع وإحلال الغائب، والتعامل معه على أنه موجود، على خلاف الحقيقة. وثانيهما: التركيب الذي يعمل على تجسيم المجرد المعنوي بواسطة الاستعارة، والتعامل معه بطريقة تبعده عن ألفته، وتحقق له الغرابة الخالقة لشعرية الصورة».

ولعل من أجمل التعابير التي يصف فيها الماغوط تجربته الشعرية عندما نسمعه يقول عن نفسه في حواراته التي حررها خليل صويلح: «أنا أشبه الصياد، أشعر بغريزتي وليس بعقلي. وكلما تقدم العقل خطوة تراجع الشعر خطوتين. العاطفة والشعر توأمان سياميان، يعيشان معاً ويموتان معاً والعقل متلصص عليهما».


وفي هذا السياق تعبر الشاعرة والناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، في معرض حديثها عن الحداثة الشعرية العربية وفرسانها، فقد رأت أن الماغوط «كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها».

أما تجربة الماغوط في الرواية فقد كانت وحيدة وظهرت في رواية «الأرجوحة» وكانت عبارة عن سيرة ذاتية. وهي خير دليل على مرحلة الاعتقالات والتخفي والملاحقة التي شهدها الماغوط. فما شخصية «فهد التنبل» إلا الماغوط نفسه، و«غيمة» المرأة التي أحبها بجنون هي سنية صالح التي أصبحت زوجته لاحقاً.

كانت للماغوط طرق متنوعة للوصول إلى الناس، استهلها بالشعر ثم تحول الشعر إلى مسرح، تخللها تجربة في الرواية، ولم يتورع عن طرق أبواب أخرى للوصول إلى الناس بسهولة، فكانت السينما والتلفزيون، ناهيك عن الخطاب الأدبي الذي تجلى في المقالات الصحفية الناقدة والساخرة.

أما مسرح الماغوط فقد أعاب الراحل سعد الله ونوس على هذا المسرح تحديداً نزعته التنفيسية، واضعاً «مسرح التفريغ» في مواجهة «مسرح التحريض» الذي دافع عنه صاحب «حفلة سمر من أجل 5 حزيران». لكن الماغوط اختار وسائل أخرى في التحريض، هو الذي حمل اليأس حتى الرمق الأخير، والضحكة عنده دائماً محاصرة بغصّة، المرارة هي ذروة المشهد الكوميدي، هكذا هو المهرج الحزين، يضحكنا فنبكي. «فالطير يرقص مذبوحاً من الألم».

وفي هذا السياق يذكر الباحث لؤي آدم: «أحياناً تفتقد أعمال الماغوط لشخصية البطل النموذجي كما اعتادت الأعمال الأدبية عند بعض الأدباء من إبراز دور شخصية الفرد الإعجازية؛ وأعتقد أن حالة الماغوط الإبداعية هذه تمثل ذروة نتاجه الناضج إذ أن الحالة عند الماغوط تختلف تماماً، فالشعب هو البطل النموذجي وليس الفرد، وهذا يعكس البعد الإنساني لديه وما يحمله من إيثار في طبعه وسلوكه. وهذا النموذج الماغوطي يغلب على أعماله، وإذا ما رأينا في أعماله التي مُثلت على الشاشة بروزاً نسبياً لبعض الشخصيات، فهذا لا يتعدى الضرورة التي تحتم تسليط الضوء على أبعاد الشخصية عند الماغوط».

ومن الجدير بالذكر أن الماغوط يصف كل ما يكتبه أنه شعر، وفي الواقع فإن بدايته في كتابة المسرحية كانت عبارة عن قصيدة تحولت إلى مسرحية كما ذكرنا في «العصفور الأحدب» وهذا يخفي رغبة إبداعية تعتمل في أعماقه سنرى آثارها بعد قليل، فها نحن ذا نسمعه يقول: «أرغب بإلغاء المسافة بين كل الأجناس الإبداعية».

وهذا ما عبر عنه الباحث لؤي آدم في كتابه «الماغوط وطن في وطن» إذ يقول: «في المرحلة الأخيرة من حياة الماغوط نقرأ الخطاب الماغوطي الأدبي، وقد كتبه بحبر واقعي حقيقي وأصيل، وفيه نجد من الناحية الفنية، انفراده بأسلوب خاص به، ميزه عن غيره، بنموذج وشكل إبداعي جديد يختلف عن جميع الأشكال الأدبية، وفي نفس الوقت تجدها جميعاً مدعوة للحضور والتواجد في نموذجه الجديد، الذي أطلق عليه تسمية "النص"، وأعتقد بأن إدخال الحوار القصصي والمسرحي، والوصف الروائي، والنقد، والفلسفة، والشعر في "نص" واحد، أمر لم يكن مطروقاً قبل الآن، ولكن الواقع الحالي يؤكد ظهور فتح جديد أو جنس أدبي جديد، يمكن لنا أن نصنفه تحت اسم "إبداع (النص الماغوطي)" الذي يتميز بالتخمر الفكري والتقني».

أما عالمية أدب الماغوط فقد تم الإعلان عنها في تصريح علني أثناء اجتماع إحدى الفعاليات الثقافية على مستوى العالم في مدينة لندن في الشهر العاشر من عام 1999. حيث تم تصنيف كاتبين اثنين من الشرق هما: محمد الماغوط من سورية، وأمين معلوف من لبنان، ككاتبين عالميين. وقبل ذلك كانت النرويج حريصة على استدعاء الماغوط واستضافته رسمياً، لإحياء أمسية شعرية هناك، بعد أن تُرجِمَت كتاباته للنروجية ولاقت نجاحاً باهراً.

وها إن الماغوط يقول عن ترجمة شعره للغات أجنبية: «شعري لا يفقد شيئاً إذا تُرجِمَ، لأنه غير قائم على البلاغة، وهذا ما قيل لي عندما صدرت ترجمات بالإنكليزية والفارسية والإسبانية والألمانية وأخيراً بالنروجية».

البعد النفسي في العمل الإبداعي عند الماغوط
تستند هذه الدراسة المتواضعة على عدة محاور، المحور الأول، وقد يبدو غريباً لأول وهلة فيما يتعلق بالعمل الإبداعي عند الماغوط، وهو ما نسميه «المسارَرَة»، لكن إذا تمعنّا جيداً في معنى المسارَرَة ودوره في مجمل حياة الإنسان الفكرية والعاطفية وإنتاجهما الإبداعي فسندرك حقيقة هذه الخبرة وواقعيتها.

والمسارَرَة تبدو كما لو أنها مؤامرة تقوم بها الحياة تجاه الفتى الذي نضج بما فيه الكفاية لانتزاعه من حضن أهله الوادع، وإخضاعه لتجربة مريرة وقاسية، وولادته من ثمّ في مجتمع الراشدين أي الكبار، إذا ما ثبت بما يكفي في هذه التجربة، ليغدو من الآن فصاعداً عضواً من أعضاء المجتمع الراشدين الكبار والفاعلين. والحال أن المسارَرَة أو كما يسميها البعض بطقوس العبور وآخرين بالتنسيب، كانت تمارسها بعض القبائل في أستراليا وأفريقيا وسيبيريا وغيرها، إلى أن انتقلت إلى المجتمعات القديمة كاليونان، وظاهرياً غابت عن المجتمعات الحديثة، إلا أنها بقيت في لا وعي الإنسان الحديث كما يذكر ميرسيا إلياد، وهي ما برحت تتجلى في كثير من المجتمعات الحديثة بأشكال أخرى وتجارب مخزية يدخل فيها المرء دون حساب وفي مرحلة دقيقة وحرجة من حياته.

وهكذا كان السجن في حياة الماغوط تنسيباً له أي مسارَرَة بشكل أو بآخر. ها نحن ذا نسمعه يقول: «السجن المبكر جاء أول صحوة الشباب، فبدل رؤية السماء رأيت الحذاء، حذاء عبد الحميد السراج، وهذا ما أثر على بقية حياتي».

ولتوضيح الفكرة أكثر نأتي على ذكر أوراق التارو المعروفة بتارو مارسيليا، وهي حسب ترتيبها الرقمي تمثل درب المسارَرَة. والأوراق تُقسَم إلى اثنين وعشرين ورقة رئيسية، وست وخمسين ورقة ثانوية. الأوراق الرئيسية تُقسَم إلى ثلاث ممالك 1) مملكة الآلهة 2) المملكة الإنسانية 3) مملكة الطبيعة. وهي تمثل سياقاً نفسياً ونمواً روحياً تتخلله المسارَرَة، ففي المملكة الإنسانية نجد الورقة ذات الرقم 12، وتدعى المشنوق، وهي تمثل شخصاً مشنوقاً من قدمه اليمنى بين جذعي شجرة، كل جذع له ستة فروع تقطر دماً، ورأسه يتدلى إلى أسفل ويغوص في هوّة بين جذور الشجرتين كما لو أنه يغوص في التربة ليتحد مع دود الأرض ويتغذى من الذلّ والهوان، إنه أزمة وانقلاب عنيف في حياة المرء، تجربة قاسية يمر فيها، تنقلب فيها مفاهيمه ورؤاه للحياة والوجود والواقع. ها نحن ذا نسمع الماغوط يعبّر عن تجربته في السجن حيث يقول: «فقدت حسي بالبراءة منذ تلك الفترة، وأدركت أن العالم ليس بريئاً كما كنت أتصور. كنت أرى البراءة في كل شيء حولي، ولكن بعد تجربة السجن فقدت هذا الإحساس بكل شيء بالبشر والأحزاب والسياسيين ورجال الشرطة والشعراء».

إنها بعبارة أخرى تنسيبٌ ومسارَرَة وعبور من مرحلة إلى مرحلة، تأتي بعد هذه الورقة، أي ورقة المشنوق، الورقة ذات الرقم 13 إنها الموت، حيث الحياة تقطّع المسارَر إرباً إرباً، وهذا ما نراه في تنسيب أو مسارَرة الشامان في أحلامه ورؤاه، بعدها يولد الكائن الجديد. إلا أن ولادة الماغوط الجديدة لم تكن ولادة روحية بقدر ما كانت ولادة صوفية في عمق الواقع على عتبة الرصيف، وفي المقهى الشعبي، حيث تفجّرت ينابيع إبداعه الشعري والأدبي والمسرحي.

في القديم كانت المسارَرة أحياناً، ناهيك عن التجربة الأليمة والقاسية التي يمر بها المسارَر، تترك أثراً ما، مثلاً يُقلَع أحد أضراس المسارَر، أو يُجْرَح في فخذه، أو يتلقى وشماً.. إلخ..، وفي العصر الحديث يتنوع هذا الأثر حسب الظروف وحسب الأشخاص. وعند شاعرنا الماغوط نسمعه يقول: «أحسست بشيء ما بداخلي يتكسر، ليس الضلوع، لكنه شيء عميق»، «بعد السجن كل كتابتي، مسرح، شعر، سينما، صحافة، حتى أرمم هذا الكسر وما قدرت حتى الآن».

عند هذه النقطة، ندلف إلى المحور الثاني، وهو ما ذكرناه في المقدمة عذابات الماغوط التي تذكّرنا بعذابات الحلاج وإن اختلفت التجربة، ففي رأي المعلّم إكهارت «الفرس الأسرع التي تقلّك إلى الكمال هي العذاب، لا شيء كالعذاب في مرارته، ولا شيء كالعذاب في حلاوته».
وحين نسمع الماغوط يردّد: «ليس لي عالم منظّم في كتابة الشعر، إنها فوضى أشبه ما تكون بمعركة خيول في الغبار. رويداً، رويداً تنجلي المعركة، ودائماً يكون الصدق هو بوّابة قصيدتي وخاتمتها. فأنا لا أكتب إذا لم أكن مثخناً بالجراح، وأنا لا أنتظر ثواباً على ما أكتب، بل عقاباً، فما من موهبة في العالم العربي، في الشعر أو سواه تمر دون عقاب».

إذن الماغوط في صوفيته الواقعية إن صحّ التعبير يطلب العقاب لا الثواب، على غرار الحلاج في صوفيته الروحانية أيضاً يطلب العقاب لا الثواب عندما نسمعه يقول:

أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

المحور الثالث في حياة الماغوط الإبداعية هو الحزن، فها نحن ذا نسمع أحد الباحثين يقول: «لا أدري حقيقة هل يجب أن أبكي أم أفرح، ولأني متضامن مع الاتجاه الشعري الخامس الذي لم يكن الفرح مهنته يوماً فإنني سأبكي، نعم سأبكي دون خجل أو تردد، فمن شرق عدن حتى غرب الله، ومن شمال الوطن حتى جنوب لبنان هنالك اتجاه خامس لم يكتب عنه في كتب الجغرافيا كاتجاه حقيقي للوسط العربي وغير العربي، إنه محمد الماغوط الذي حمل سيفاً بعد النكسة ليقاتل سياف الزهور».

وآخرون يعتبرونه شاعر الرثاء الكوني، ولاشك أن عناوين دواوينه الأولى توحي بهذا فالديوان الأول كان «حزن في ضوء القمر» والثاني يعكس واقعاً ممزقاً «غرفة بملايين الجدران» والثالث يعود لموضوعته الأساسية «الفرح ليس مهنتي»، ولاشك أن فقدان زوجته الحبيبة عام 1985 ترك في داخله وشماً للحزن عميقاً لن يبرحه أبداً، وما هي مرحلة الاعتكاف والتأمل التي عقبت وفاة زوجته إلا تكريساً لرؤيا الحزن.

ها نحن نسمعه يقول في قصيدته «الحصار»:

«دموعي زرقاء
من كثرة ما نظرت إلى السماء وبكيت
دموعي صفراء
من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية
وبكيت
فليذهب القادة إلى الحروب
والعشاق إلى الغابات
والعلماء إلى المختبرات
أما أنا
فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق
لأعود كما كنت
حاجباً قديماً على باب الحزن
ما دامت كل الكتب والدساتير والأديان
تؤكد أنني لن أموت
إلا جائعاً أو سجيناً».

كما أننا نجد صدى ما يعتمل في نفس الماغوط من حزن وأسى قاسماً مشتركاً مع المفكرة والكاتبة العالمية سيمون فايل فهي تقول: «إن كان بي حزن فهذا ناجم أولاً عن الحزن المستديم الذي طبعه المصير إلى الأبد في حساسيتي والذي لا تستطيع أعظم الأفراح وأصفاها قاطبة أكثر من التوضع فوقه فقط، وهذا لقاء مجهود انتباه»، كما أنها تقول: «المحبة اللامتناهية، العذوبة التي وهبتني الضنى». والماغوط بدوره يؤكد قائلاً: «الحزن هو جوهر كل إبداع وتفوّق ونبوغ. حتى الكوميديا الراقية، إذا لم يكن منطقها الحزن تصبح تلفيقاً وتهريجاً».

قبل أن ندلف إلى المحور الأخير في البعد النفسي للعمل الإبداعي عند الماغوط، وهو محور التماهي مع الآخر، يجدر بنا أن نعثر على محور يمهّد له، وهو محور الحب وقد عبّر عنه الماغوط في بداياته الأدبية متجسداً بالاسم الرمزي «ليلى» وكان الحب عنده يتراوح بين الحب العذري والشهوة الحسية المستيقظة فيه، والتي كان الماغوط صادقاً في التعبير عنها، إلى أن دخلت المرأة في حياته، وأحدثت انقلاباً عنيفاً فيها، وكانت هذه المرأة الشاعرة سنية صالح التي أصبحت زوجته، فها نحن نسمعه يقول عنها: «كل ما كتبته من "العصفور الأحدب" إلى قسم من "غرفة بملايين الجدران" و"الفرح ليس مهنتي" كانت سنية هي المرأة فيه. لم أكتبها بالغزل، كانت كعروق الذهب في الأرض. سنية موجودة في كل حرف أكتبه».

وهكذا فالمرأة بالنسبة للماغوط «هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها».

هذا الحب الذي علّمته الشاعرة سنية صالح لزوجها قد مهّد الطريق لعبوره به، نحو الحب الإنساني وتعميق جذوره في محور جديد .

No comments:

Post a Comment