Saturday, July 18, 2009

ساعة مع محمد الماغوط

عباس بيضون


(لبنان)

محمد الماغوط لا اذكر أول من قال لي بأن محمد الماغوط لا يتحرك من بيته وانه لضخامة ما صار إليه لا يستطيع أن يشيل جسده. قال انه يشرب نبيذا مخلوطا بالجِن وانه يعرض على طاولته أصنافا كثيرة من القناني الفارغة. ولا يتوقف مع أمراضه عن الشرب والتدخين. لم أكن رأيت محمد الماغوط منذ زمن بعيد، كان حينها ممددا على كنبته يعاني الديسك، لكن فكرة أن يحبس نفسه بين قنانيه الفارغة كانت بالنسبة لي ذات نهايات درامية، كانت تستدعي هاملت ولودفيغ فيسكونتي وحتى طيار سكورسيزي المتأخر، وهم يتحررون من أنفسهم وحيواتهم ويمنحونها بلا حساب لنوع من الانتحار الآلي اللاواعي أو حتى الجنون الإرادي. تحت وطأة صور كهذه. تهيبت كثيرا لقاء الماغوط. لم اعرف ماذا يمكنني أن افعل مع شخص حسم أمره على هذا النحو، كان كل جدل وكل كلام بالتأكيد خلف ظهره، ولم يكن ممكنا ولا حتى أخلاقيا أن أشده من تلابييه لينظر إلى الوراء أو حتى ليسمعني.

في حفل ذكرى ممدوح عدوان رأيت الماغوط على الشاشة، وهو يلقي كلمته في ممدوح. كانت فكرة تصويره ذكية بلا شك لكنها مخيفة. أنها تعكس غيابا من نوع آخر، ليس موقتا ولا عرضيا على الأقل؛ غيابا أشبه بأن يكون طبيعة أو حتى مصيرا. كان التصوير إعلانا عن وجود مهدد، أو وجود معلق، بدا الماغوط في أول الشريط من وراء باب أو ساتر كأنه في مكان لا تبلغه الكاميرا، في داخل خاص، بدا وجهه وجسده ثقيلين ومتعسرين. ثمة صعوبة هنا تطغى على كل تعبير، قام بحركة قبل أن يبدأ القراءة، ربما أطفأ سيجارته وهو يتطلع من وراء عبوسه ونظارتيه السميكتين. بدأ يقرأ لكن الحشرجة ابتلعت أحيانا نصه، كان علينا أن نصيخ جيدا جدا لنلتقط الكلمات. نجحنا في أن نسمع لكن الحشرجة ظلت التي في ذاكرتنا وكأنها الهدير الذي يسبق مرور طائرة. بدت الحشرجة تقريبا الصوت الطبيعي لتلك الهيئة المقطّبة، سجينة مكان ما أو حتى سجينة شيء ما.

في الليلة ذاتها أسرّ لنا محمد ملص أن الشريط ممنتج. قال هذا على كأس، وفي عتمة الحانة جعل تصريحه الأمور أصعب. كان هناك فوق ذلك كذب التقنية، إلصاق ووصل. في ذلك كله ما يوحي أن في الأمر تركيب حياة.

حين تمت دعوتنا إلى زيارة الماغوط تلبكت، لكنني جلست مع جودت فخر الدين وسيد محمود وعبلة الرويني في الجيب وقفزنا في النهار العاصف.


صعدنا طابقا واحدا بحسب سيد محمود تكرر ثلاث مرات. مررنا مسرعين في الكوريدور. كانت تنتظرنا على الباب صبية سلمنا عليها من دون أن نتبادل معها كلمة أو ننظر إليها. تركناها تستقبل غيرنا وأسرعنا في الكوريدور. ها هو محمد الماغوط فارشا جسده على كنبة وقبالته محمود درويش مضغوطا في طرف كنبة أخرى. أيام طويلة انقضت، عشرون سنة تقريبا، لم يتغير. كان فقط في صورة مكبرة، كل ما فيه بالكبير. بدا ذلك أكثر من أن يكون حقيقيا. كان موجودا وكأنه عملاق نفسه. عيناه. عيناه الكبيرتان المسلطتان النافرتان في العادة غدتا هائلتين. كان من الصعب معرفة إذا كانتا بهذا الحجم تملكان النظرة ذاتها، كان وجهه بملامحه المتضخمة اقل هماً مما بدا في شريط ملص، بدا أن (الصحة) طردت كل هم. بلا تجاعيد بدا وجه محمد الماغوط معفيا من العمر، بل معفيا من الوقت، أن لم نقل معفيا من الحاضر، كأنه صار، هكذا، شيئا من الحكاية أو شيئا من السحر. كان بعيدا بهذه الصفة وكأنه في غير لحظتنا وغير نورنا، لم تكن أمامه القناني الفارغة التي سمعنا بها، ربما بالغوا في ذلك. ربما شالوها من أمامه لكنهم لم يشيلوا صينية الطعام الصغيرة الملأى التي ظهر في طرفها كرواسان في كيس بلاستيك. هل استعد لهذه الزيارة المزمعة سلفا. إذا كان استعد فإنه لم يهتم بأن يبدل ثيابه. بقي يرتدي ثلاث كنزات بارزة من تحت بعضها البعض بأي ألوان وأي نسق، أشبه في ذلك بمسني الضيعة الذين يكافحون البرد بكل ما في خزائنهم. لم يلق بالا بالطبع لسروال بجامته. كان مفلوشا على كنبته في تلك الصالة الضيقة نسبيا والتي يتقارب جداراها المليئان بلوحات أصلية نصفها، نصفها تقريبا بورتريهات متعددة الأحجام لمحمد الماغوط نفسه. البورتريهات التي تقدمه في أعمار مختلفة. من أوائل الشباب حتى الكهولة، وبدت شريطا صامتا لحياة محمد الماغوط وشهودا صامتين عليها.

مسرورا كان محمد الماغوط بزيارة ضيوف ذكرى عدوان. كان في هذا تكريم قبله بامتنان وقطر صوته حفاوة بالقادمين. كان هناك في داخل الغرفة درويش وحجازي وفخر الدين وبزيع وسيد محمود وعبلة الرويني وشبان سوريون بالإضافة إلى وزير الثقافة محمود السيد.

لم يقل الماغوط كلمة ترحيب لكنه لم يحتج إلى ذلك. بدت في وجهه.


شاء فقط أن يكلم ضيوفه، اختار أن يبدأ من مطارح حميمة ومجربة. قال انه جاء إلى الأدب بغير استعداد، لم يحلم بأن يكون أديبا، لولا المصادفة لكان تزوج بابنة عمه وبقي في بلدته. يسره كما أظن أن يقدم نفسه على هذا النحو، أن يبدو وكأنه لم يتقصد شيئا، أو انه أكثر فرادة من أن يأخذ شيئا بجد. حياته الطريق. هو ملك التسكع وطفل الحرية، والمصادفات تتكفل بكل شيء. أحب أن يروي مجددا قصته عن دخوله الحزب القومي الاجتماعي، حكاية لا تخطئ أبدا وقعها. روى كيف وجد مكتبه اقرب إلى بيته وكيف أغراه موقد المكتب بأن يدخل ليتدفأ. (لم اقرأ شيئا من أدبيات الحزب)، يصر ولا تعرف عندئذ إذا كان يتنصل من أدبيات الحزب أم من القراءة بجملتها، وتتساءل إذا لم تكن تلك الحكاية الذائعة عن فطرية الماغوط وبساطة ثقافته من صنعه أيضا. قال انه يكتب كل يوم ويملأ دفاتره بقصائد ستظهر بعد ذلك.

بدا أفضل بكثير مما رأيناه في شريط محمد ملص، كان هذا مجلبة لمزاح حول نظرة ملص ونواياه. انتبه الماغوط إلى كلامنا عن ملص لكن فاتته النكتة التي فيه، ظن أن المقصود هو بطء ملص المشهود وقال معلقا انه يفضل ملص لفيلم عنه، لأن فيلما كهذا لن يقيض له أن يراه وربما لن يقيض له أن يرى النور. رفع رأسه وقال لمحمود درويش انه كتب قصيدة عنه، طلب منه محمود أن يقرأها لكنه رفض ولم يلح درويش. نظر إلى أحمد حجازي وقال انه أحب قصيدته لاعب السيرك. قال أن خالدة سعيد نصحته بقراءتها، كأنه بذلك يحافظ على صورته الفطرية ويتجنب أن يظهر محترف قراءة. قال انه يكتب باستمرار. وضع كتابه الأخير الضخم (شرق عدن، غرب الله) على الطاولة وأشار إلى انه أفضل ما كتبه في حياته.


(اكتب للبسطاء والعاديين وهذا الكتاب كذلك). إذا كان هناك كتّاب كثر يفضلون أن يقولوا أن كتابهم الأخير أحسن ما أبدعوه، في إلحاح نرجسي على شباب موهبتهم وفنهم، فإن الذين يفكرون في أن محمد الماغوط تراجع باطراد عن مستوى كتبه الأربعة الأولى انصرفوا عن التفكير في أن ما يعانيه أزمة كتابية. سمع حجازي الماغوط يقرأ عنوان كتابه (شرق عدن) بفتح الدال. كانت هذه مناسبة للتفوق على الماغوط لغويا، سأله حجازي إذا كان يقصد عدن المدينة أو عدن الجنة القرآنية، استنتج أنه لا بد يعني الجنة ما دام العنوان يحوي أيضا (غرب الله). والمناسبة هنا هي بالتأكيد بين عدن الجنة والله، إذا كانت عدن الجنة فلا بد من أنها (عَدْن) بتسكين الدال. استمع الماغوط لكنه عاند في تغيير لفظه، أنها عدن الجنة لكنها بالفتح وستبقى بالفتح. كانت هذه مناسبة عصيان صغيرة، قال انه يعرف اللغة جيدا، قرأ القرآن وكاد يحفظه. لكنه لدى نشر كتبه في بيروت كان لا يتسامح في تصحيح أي شيء فيها ويصر على أن يحتفظ بكامل أخطائه اللغوية والمعنوية والإبداعية (لم يكن الفطري هينا في مواجهة المتضلعين والمعلمين).

سأله حجازي إذا كان يكتب سيرته. قال انه لا يهتم بها، يعنيه دائما الحاضر الذي هو فيه، كان هذا جوابا يقلب كل تكهناتنا.

قال أن أمل دنقل حفظ (الفرح ليس مهنتي) كاملا. كانت هذه مناسبة للحديث عن حافظة دنقل وشعره. وجد من ذكر (لا تصالح). قال درويش انه لا يفضلها ويؤثر عليها ديوان دنقل الأخير (الغرفة رقم 7). أثنى حجازي على رأي درويش لكنه قال أن شعر (العهد الثاني) أيضا رفيع ويزاوج بين (اللغة المقدسة) واليومية، كنا أيضا وبسرعة أمام قراءة أخرى لأمل دنقل.

في استطراد بلا مناسبة واضحة قال الماغوط انه تلقى من السياب رسالة من 18 ورقة كبيرة حبر على وجهيها مديحا مطولا لعبد الكريم


قاسم. قال متأسفا انه فقد هذه الرسالة ولم ادر فيمَ الأسف. أهو لغياب رسالة من صديق أو فقدان وثيقة في محاكمته.

فجأة قال الماغوط انه يريد أن يقرأ قصيدته عن محمود درويش. فتح على صفحة دفتر وقرأ شيئا عن أشجار يمكن أن تغدو قاسية. أفلتت في مواضع في القصيدة إيقاعات قديمة من شعره. كانت القصيدة قصيرة. سمعناها بدون تعليق تقريبا. كان هذا احترامنا العميق للشاعر الذي تربينا على قصائده.


حديث من حجازي عن شعر الماغوط والسخرية العميقة الصادقة في شعره. يدخل شابان يقول المفوه بهما أنهما لم يستطيعا صبرا عن اللحاق بهذه (النخبة من أدبائنا الكبار) وأنهما يستميحاننا عذرا في اقتحام هذه الجلسة واقتطاع بعضها لبث إذاعي. قالا أن الماغوط وافق فلم يجد حجازي ولا درويش بدا من الموافقة. بدا الحديث مع الماغوط اقرب إلى المناكدة. يجيب الماغوط وكأنه فقط يقطع دابر السؤال. أجوبة سريعة تتصنع الضيق (ماذا تحس بعد أن يغادرك الأساتذة) (إنهم معي لا يغادرونني، معي حين اشرب وحين اكتب، معي على الكأس والطاولة وحتى في التواليت). (أستاذ أخشى أن نكون أزعجناك) يصرفه الماغوط بلا هوادة (نعم أزعجتموني). انتقل الميكرو إلى حجازي. سؤال عن الماغوط وشعره. أشاد بما فيه من سخرية ضرورية لكل شعر رفيع، وفجأة سؤال يقطع الجو تماما (هل أنت هنا لتأبين مبكر للماغوط). وقف السؤال في الجو. بقي مسلطا هنيهة كبيرة، كان صدوره من الشاب المبالغ في تهذيبه غريبا للغاية. بدا نوعا من دوي صامت، من فضيحة معلقة. كان وقاحة صرفا، هل كان استعراضا، أم أنها علبة باندورا انفتحت في أعماقنا.


هل خفنا من السؤال لهذا السبب أم تحررنا منه فجأة. أجاب حجازي بأن الموت حق، لعل الشاب شعر بالورطة فغطاها بالهرب إلى الأمام. سأل درويش عن موته أيضا واستغرب درويش (ما لك تحمل تابوتا). قال الماغوط أن الموت فرح. قلل الجواب من الجنائزية التي صارت إليها الجلسة. الموت فرح. الموت حق.. كان واضحا أن الجلسة انتهت، وان على كل منا أن يتساير قليلا مع الشبح الذي خرج من داخله.

السفير- 2005/02/05

********

No comments:

Post a Comment