Saturday, July 18, 2009

ما زالت رائحة صوته تتردد في كثير من الوالهين بالكتابة الشعرية

غازي الذيب


(الأردن)

تشبه لحظة اكتشافي لمحمد الماغوط شاعرا وناثرا، سفرا جديدا ورحلة خاصة، لهما طعم الاختلاف والغرابة الممزوجة بالدهشة المثيرة للأسئلة، فهذا الشاعر الخارج للتو من بر الطزاجة اللغوية، والعفوي، صاحب الوقع المفاجئ في الكتابة الشعرية والنثرية، والمتمرد الصاخب، والمندفع في ذهابه للحرية، يمتلك طاقة غير عادية على الجاذبية، بلغته المشفرة والعميقة والبسيطة التي تمنح قارئها خلوصا الى المعنى، وتذهب بالنص الى مناطق ما كان منشغلا بها قبل محمد الماغوط.


كانت الأسئلة وما زالت تتردد في داخلي، حين أصاب بوله ما، وغالبا ما كانت الكتابات الفاتنة هي التي تثير حاستها تلك في ّ، وتمنحني ولهها الفريد، الذي يتمكن من وضعي في دائرة الانشغال بها دون توقف.


ومحمد الماغوط هو الاسم الحركي لبعث هذه الدهشة.


السفر الخاص وطعم الاختلاف.

***

مثل ومض حاذق ينصب فخاخه، يدفعك الى قراءته بنظرة تبدد السكون فيك، تحرضك على أن تخرج على صمتك وسكونيتك المريبة، يدفعك الى الاحتجاج على الصمت، والاحتجاج على الوقوف في متاهة البلادة والبله، يخرج بك من كينونتك الصغرى الى فضاء تسبح فيه طيور زرقاء وخضراء وحمراء وبنية، طيور مشغولة بالتعدد والألوان والتحليق والخروج على الرمادي.


انه شاعر ممتلئ بالقلق، وقلقه معد، يجتاحك، ليعبئك بوجوده الكامل، تقرؤه لتصاب بالألفة، ولتذهب الى مكان جديد، تستطيع أن تصرخ وتضحك وتميل برأسك فيه، ولتقول أنك لا تفهم شيئا منه، أو أنك تفهمه، أو أنك لا تريد أن تفهم أو تريد أن تفهم، فالأشياء تصبح مثار توتر عال حين يكون الماغوط حاضرا، وهذا التوتر يفصح عن حاجة ملحة فينا للانعتاق والذهاب بعيدا في غواية الحرية وذهبها.


قصائده المتناثرة في أعداد مجلة شعر اللبنانية أو السورية ـ لا فرق ـ تشبه الغرابة في امتحانها الأول، الغرابة وهي تحاول قنص مكانها في المفاجئ والمثير والمحمل بالاختلاف، أوقفتني بهدوء عند ومضها الحاذق، ثمة سحب جديدة، وفضاءات ذات لون لم أره بهذه الكثافة من قبل، وعند هذا النوع الجديد من الكتابة التي تسمي نفسها شعرا، ولكنها بلا وزن وبلا قافية وبلا إيقاع مباشر، كنت أمضي باتجاه الاكتشاف، كان هذا في ثمانينيات القرن العشرين، ولم أكن بعد قد قرأت كتابا كاملا الماغوط، الشاعر والمسرحي وكاتب المقالات الإشكالي والروائي لاحقا، فقد كانت كتبه شبه ممنوعة من الانتشار في أمكنة عديدة على ما بدا، ربما لأنها مشحونة بكمية هائلة من الهواء النظيف، مما يفقد الذين أدمنوا تنفس الهواء الوسخ أعصابهم، ويجعلهم يشدونها من الغضب على من يفضحهم،


ويعريهم أمام ضحالتهم، حين يمنعون كتابا أو قصيدة أو مقالا، أو لوحة فنية، كما كان يحدث وما زال، وحتى أجمع أجزاء صورته التي صارت تتقاطع كلما تعرفت نصا أو مقالا له، بدأت أبحث عن كتبه فيما تيسر لي من مكتبات ولدى الأصدقاء، ثم عرفت أنه مؤلف مسرحيات: " ضيعة تشرين " و" كاسك يا وطن " و"غربة " وكان صدى عروضهن يتردد في أنحاء العالم العربي، ومن ثم صنعن شهرة غير عادية للممثل دريد لحام الذي كان يقوم دائما بأدوار البطولة فيهن، وظلت الصورة ناقصة، غير مكتملة، تبحث عن قطع مفقودة في اللوحة، فمحمد الماغوط على ما استطعت أن أعرف من خلال الأجزاء القليلة التي قرأتها آنذاك من كتابته، يصيب بالدوار، كتابته مستفزة وغامضة، حد إثارة السؤال وتعميق السجال فيه، إنها أيضا، كتابة جميلة حتى الألم، مبهرة، تأخذك منذ لحظتها الأولى الى تقليدها، لكنها صعبة الانقياد، جودتها عالية، ونبرتها الإنسانية حقيقية، فبطلها شاعر يعترف فيما بعد أنه كتب وسيظل يكتب، وغير معني بتسمية أو تصنيف ما كتبه كثيرا، المهم أنه كتب وما زال قادرا على الكتابة.

***

توقفت كثيرا عند ما أصابني بسبب مسرحياته التي أثارت جدلا واسعا حين بدأت تعرض في البلدان العربية في السبعينيات والثمانينيات ، وتساءلت عن سر هذه الشعبية العريضة لما يقدمه هذا المسرح ، الذي استحق وعن جدارة أن يكون جماهيريا ، محملا بنبرة صاغها نقاد متعبون من البحث عن مصطلح لائق به واستعاروا تسمية المسرح الملتزم ، ليشيروا إليه دون التباس ، ولأنه يحمل هوية ماغوطية سحرية ، ولم تكن هذه الهوية ، ليلة عرض أحدى مسرحياته في قاعة العرض تترك مقعدا فارغا ، ولم نكن نلمح إيماءة منه في مسرحية لم يكتبها ، حتى نقول : محمد الماغوط هنا أو هناك ، واستطاعت مسرحياته القلية التي عرضتها تلفزيوناتنا العربية بمناسبة وبدونها ، أن تقدم نوعا جديدا من المسرح ، له مفرداته ومضامينه الجادة والجذابة ، لكن هذه المسرحيات التي كنا نشاهدها ، كانت بعيدة عما ضمنه الماغوط بين دفتي كتب ووضعها في مجموعة أعماله الكاملة ، لتقدم لنا مسرحا آخر مختلفا ، يقرأ بطريقة أكثر سبرا لفهم الماغوط عن المسرح ، غير أن الروح الفائضة بالسخرية والتهكم والنقد التي رافقت مسرحياته التي عرضت على خشبة المسرح وشارك فيها دريد لحام ، ظلت تطارد مسرحه المكتوب والأكثر قربا من الجدة ، فحين قرأت مسرحيته " العصفور الأحدب " مثلا ، أصابني بوجع في ظهري لبعض الوقت وجعلني أمتلئ بالضحك المر لوقت طويل .


ان كتابته المؤثرة والعميقة تقرأ الذات، وتتمكن منها بسهولة، حتى وهو يقدم نصا غير شعبي، أو نصا مثقفا جادا ومتزمتا لقوانين اللعبة المسرحية، ويمتلك تلك الصيغ المحمومة بالتناسق والتناغم الهارموني، لكن مسرحياته الشعبية التي كان التلفزيون يعرضها بعد تسجيلها في عروضها على المسرح، كانت تثير رغبتي لمشاهدتها و كانت مع مسرحياته " المثقفة " تجعلني حائرا متسائلا: لماذا يكتب الماغوط نصوصا جارحة كهذه ؟ من أين يبتكر هذه الأحداث ؟ وشخوصه الذين يفرون من جلودنا، لماذا يستلهم من أجسادنا ليعيد صياغتهم بأرواحهم المتمردة والمدمرة بسبب العسف والطغيان والقمع ؟ كيف تمكن من رصد حيوات هذا العالم المريب والقاهر والأسود، بهذه الروح السلسة والبسيطة والبعيدة عن السوداوية المخربة ؟ ما الذي يريدنا أن نفعله من وراء إثارة حاستي التساؤل والتمرد فينا ؟ نعم.سرح هذا الذي يبتكر نظامه من إعادة تشخيص الواقع دون رتوش كثيرة ؟


نعم .. محمد الماغوط معلم كبير في كتابة الحرية والألم والحياة والواقع، سجل اسمه بريشة هذه الحيوات، وهكذا بدأت أتعرفه شاعرا ممتنا للحرية أكثر المساحات توقا لبحثه الإبداعي وانطلاقا في ذاته المتمردة والضاجة بالغناء لها، فهذا الطائر المجروح في الوطن العربي والذي يحمل اسم الحرية، ما هو إلا ابن حلمنا المصاب بالسجون والطغاة، ولأجله يخبط الماغوط أجنحته باتجاهه في حرقته العالية، حرقة كسر القيود التي عرفت لاحقا أنها نهشت الماغوط.

***

علي أن أعترف أن قصيدة النثر التي شغلني الماغوط بها الى جانب عدد من شعرائها العظام، لم تكن تحمل في هوائها غير جهة طلقة وحيدة حين انعتقت في سماء الشعر العربي في الخمسينيات، هي جهة الحرية والتحرر، فما أنتجته تلك الحقبة، وما تلاها من نتاج في هذا الفضاء الفسيح الذي أطلقنا عليه فرحين ومرتبكين اسم قصيدة نثر، كان بفعل توهج الرغبة العربية في اتجاه الحرية، حيث كانت الاستعمارات آنذاك تأكل أيامها الأخيرة، وكانت الحاجة تلح لكي تبني إنسانا عربيا يدرك معنى أن يكون مستقلا، بعدما نسي في حمأة الاحتلالات لأوطانه كينونته ككائن له حقوقه.


الحرية إذن هي التي دلت على قصيدة النثر، في انشغالاتها العظيمة، وفي ترجمتها لهموم الذات ا لعربية، الذات التي تستشعر كمية هواء كبيرة في رئتيها، وعليها ان تتعامل معها برحابة وطلاقة، الحرية التي كانت قصائد ومسرحيات الماغوط تتنفسها بحرية جميلة، حرية، تكون الكتابة فيها تعبيرا خالصا عن الإنسان في تحولاته وتبدلانه وحاجاته.


مجرد قصائد متناثرة في مجلة شعر التي كانت ضمن مجلدات لما صدر من أعدادها، عرفتني بمحمد الماغوط.


لقد حيرتني هذه الكتابة / القصائد، وأمام هذا النوع الجديد منها، حتى في شكله الهندسي، وأمام هذه الانقلابة المريبة التي صارت تذهب بي الى هؤلاء الذين يكتبون بطلاقة لا قيود فيها، محملين بعيون الناس في شوارعنا وهمومهم وآلامهم وغموضهم وانتكاساتهم ( كنت آمل أن أقول أيضا: وانتصاراتهم، لكن.. ) استطعت أن أشعر بالارتباك والحيرة والدهشة في آن واحد. انه عالم جديد.. عالم أوسع مما تخيلت، ومغامروه ليسوا خارج منطقة الحلم الذي أتطلع إليه: التغيير.


أصابتني هذه الكتابة الماغوطية بمسها ، الى جانب كتابات شعرية لـ : فؤاد رفقة وسعدي يوسف ونزار قباني وأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وخليل حاوي والسياب ، وكل كتيبة مجلة شعر التي دفعتني الى أن أقرأها منذ المجلد الأول وحتى الأخير ، وحضتني على القراءة في مداراتها الجديدة والغريبة على ذائقتي التي تعرف الشعر في صورته السائدة آنذاك ، كان هذا الشعر الجديد مبعد عن السياق العام للشعر العربي الذي أعرف شكله وأوزانه ومواضيعه المنشغلة بالهجاء والمدح والوصف والحماسة والغزل والمباهاة وغيرها من التصانيف التي كان يضعها مؤرخو هذه الأنواع ، وعلى ما كنت أظن ، اعتقدت أنني صاحب هذا الاكتشاف الخارق والوحيد لهذا المجال الحيوي من الكتابة التي أسمح لنفسي أن أسميها كتابة حرة ، واعتقدت كذلك أن الماغوط أحد أسراري الخاصة ، الذي ما إن ذكرت اسمه أمام بعض الأصدقاء ، حتى تحسسوا ما يحملونه من كتب ، لكنني لم أهتم لذلك ، ذهبت الى كل تلك الكتيبة ، وبدأت أنحرف عن الكتابة السائدة بفضلها ، وبدأت أعي أن الماغوط واحد من قلة يستطيع تطويع الكتابة الى أن تصبح في متناول الجميع ، ودون أن تظهر على وجهها تلك الثقوب المميتة .


لقد كان محمد الماغوط.. شاعرا نوعيا ، منذ أطلق قصائده الأولى في مجلة شعر وغيرها من الدوريات ، لم يكن عاديا ، ولم يكن منمطا ، أو خاضعا لسيرة " شعر" التي شكلت ما يشبه النهج الكتابي الجديد عندما أصدرتها جماعتها ، لكن كل من كتب فوق صفحاتها كان يحمل حنجرته الخاصة ، يصرخ أو يغني بأوتاره الصوتية هو ، لا بأوتار غيره ، وقد راحت كتابات الماغوط لصناعة مثل هذا التوهج ، الذي شدني ببساطته وغموضه وغنائيته الرفيعة وجموحه وتوقه الحميم للتحرر من فضاء العادي ، والمضي في تمجيد الحياة واحترام المهمل ، ونبش المسكوت عنه وإماطة اللثام عن التفاصيل ، وقراءة اليومي بطريقة تثير الحب واستخدام المفردات الممنوعة دون خوف أو تربص ، وتأنيق النص كما لو أنه زهرة الجمال الفريدة .


ومثل أي مفاجأة حارة، قرأت الماغوط، ليخلف فيّ انقلابا نوعيا في التوجه الى الكتابة الحرة، كتابة العالم والحياة، بكامل بهائهما وغضبهما ونزقهما وتفجرهما وترددهما، وللحق كان شركاؤه في التأثير علي كثر في هذا المدى المؤرق، لكن أثره العذب جعلني أمتن لمنجزه في الكتابة، وأنحاز الى مغامرته التي لم تتوقف حتى وهو يمارس بعض كتابة المقالات في مجلات متناثرة مؤخرا، من باب استعادة الصوت لا أكثر ولا أقل، لكنها استعادة ملتبسة.

****

لقد تسنى لي أن أقرأ بكثافة مبالغ فيها أحيانا، أو ـ ربما مضرة ومسببة للتزمت ـ ما توافر في مكتبة أمانة عمان الكبرى وسط العاصمة، من كتب ونصوص الشعر العربي القديم بفترته الواقعة ما قبل الإسلام وما بعدها، وفي دهشة الاكتشافات الكثيرة التي ارتكبتني حين اقتربت من طرفة وأبو نواس وامرئ القيس والأعشى والنابغة الذبياني ولبيد والأخطل والفرزدق وجرير والمتنبي وأبو تمام وحسان بن ثابت والبحتري وعروة بن الورد وعنترة، وغيرهم ممن هجمت عليهم واحدا واحدا، كي أربي قريحتي على الأصالة، وجدتني ألتفت الى مساحة أخرى، أريد من خلالها أن أتعرف على الكتابة، ليس بمفهومها الذي عودتني عليه قراءاتي تلك، بل بما هو جديد ومغاير، ولكن أين سأجد ذلك، أين سأمسك بنصوص تربكني كالتي قرأتها للماغوط وأنسي الحاج والسياب ؟ أين ؟ وترددت في أسئلة مرتابة تبحث عما هو مختلف: هل شعرنا العربي كامن فيما قرأته من النصوص العربية القديمة والمنشغلة بالفخامة الأسلوبية، الذاهبة في تقاليد القصيدة الكلاسيكية الى أقصى عنايتها بالإيقاع والوزن والمعنى والتركيب والصورة ؟ أين المختلف من هذا الشعر المتفارق والجديد مع الشكل الهندسي والروح للقصيدة العمودية ؟ لم يكن هذا هجاء للكلاسيكي بقدر ما هو بحث مضن عما يمكنني من ممارسة ما قام به الكلاسيكيون أو القول. بعض مراحل توقدهم من بحث وخروج إلى مناطق جديدة في تصوراتهم عن الشعر والكتابة والقول.


لم أكن بعد قد وعيت أن مثل هذه الأسئلة ستقودني الى معركة عنيفة: التمسك بالشكل الذي عرفته للقصيدة والشعر العربيين أم التحلل منه، والبحث في مناطق أخرى تساعدني على قراءة تشبع حواسي المدربة على فخامة القصيدة الكلاسيكية، وآنذاك كنت قد بدأت أعنى بقراءة الكلاسيكيين العرب الجدد أمثال عمر أبو ريشة والجواهري وأحمد صافي النجفي والزهاوي وإبراهيم ناجي والياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي وإبراهيم طوقان وأبو سلمى وغيرهم، لكن تلك القراءات ما دفعت بي الى الاسترخاء في هدأتها، فالنفس أمارة بالخروج الى مناطق لم أعرفها من قبل، والنفس مشدودة الى المغاير، الذي كنت أقرأ بعضه لماماً في هذه الصحيفة أو ذاك الكتاب، والمغاير هو تلك النصوص كان تعرفي عليها، محروسا بخوف شديد من أن تتسرب إلى، بحكم التقاليد التربوية في مدارسنا، لذا اقتصرت قراءتي لها على التعرف على هذا النوع الكتابي الذي حاولت أن أرغم نفسي على عدم الاقتراب منه كثيرا، وبقليل من الجرأة تقدمت الى أرفف المجموعات الشعرية العربية الحديثة، قرأت نزار قباني في غزلياته الفاتنة، وهجائياته، قرأت السياب في أساطيره وانشغالاته التموزية، قرأت خليل حاوي الخارج على أعراف القصيدة العربية السلسة، قرأت بعضا من محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو، قرأت لكتاب قصيدة التفعيلة الذين مر بعضهم علي في مجلة شعر سابقا، لكن محمد الماغوط لم يحضر في مجموعاته الشعرية بعد، وكنت بحق أتشوق لكتاباته الشعرية والنثرية، وأتحين الفرصة لأجد شيئا منها، لكن ذلك لم يحدث إلا في وقت متأخر، فمع نهاية الثمانينيات، بدأت أحصل على كتب هذا الشاعر الذي حين قرأته أول مرة، فاجأني باستخدامه لبعض المفردات الضالة في الكتابة العربية، فأعاد لها رونقها، ووضعها في سياقات ارتاحت الكلمات لها، فبدت وكأنها جديدة، ابنة اللحظة الراهنة.


وبعدها تسنى لي قراءة ما صدر من أعماله الشعرية والمسرحية والمقالات، وعرفت أن صورة محمد الماغوط لا يمكن أن تكتمل بقراءة شعره ونثره وحدهما، وستظل ناقصة الى حين أن أراه، لكن محاولاتي لرؤيته باءت بالفشل، فحين زرت دمشق ليوم واحد، بحثت عنه في مقهى الهافانا كما قالوا لي، لكنه في ذلك اليوم الذي نسيت تاريخه من عام 1993لم يكن حاضرا، ثم غادرت الى اللاذقية، لأقيم فيها بعض الوقت، لكن الماغوط ظل ماثلا، ابحث عنه في مكتبات اللاذقية، وهناك وجدت بعض أعماله التي رافقتني أثناء زيارتي القصيرة والوحيدة لسوريا، فقرأتها مرة أخرى.


وحين صدر له رواية " الأرجوحة " وكتاب " سأخون وطني " عن دار رياض نجيب الريس، بعد غياب طويل نسبيا عن النشر والكتابة، كان محمد الماغوط هو هو، لم تتغير نبرته الفذة في اقتفاء أثر الحرية والمعادن النبيلة في الحياة وفي الكتابة، كان صوته رغم سني عمره المرهقة، ورغم المرض الذي أخذه الى أحد مستشفيات باريس قبل أعوام، عاليا ونقيا، لا تشوبه ارتجافة الوهن ولا سنوات الكهولة، كنت أتلمس فيه ذلك الشاب الذي قرأته قبل سنوات بعيدة، والذي أدهشتني حكايته حين كتب مسرحيته العصفور الأحدب في قبو، وكان متخفيا عن الأنظار لأنه مطارد ومطلوب لأسباب سياسية.


على يديه تعرفت طويلا على الهواء الطلق للكتابة المفعمة بالحنكة والجرأة والبعيدة عن المباشرة الفجة، وعلى يديه تمكنت من تذوق فاكهة جديدة من شعرنا العربي، فهو واحد ممن شكلوا وعي أجيال من المثقفين والشعراء والكتاب العرب، وما زالت رائحة صوته تتردد في كثير من الوالهين بالكتابة، ولن اغفل أثرا له في كتاباتي إذا ما دققت فيها قليلا.

ملف جريدة (الرأي) الأردنية

**********

No comments:

Post a Comment