Saturday, July 4, 2009

كسر التفائل الرومانسي بيأس كاسر ...

قاسم حداد
(البحرين)

1

في ذروة مكتشفات شعراء مجلة (شعر) لمقترحات الحداثة الشعرية الأوربية، وفي غمرة انهماك شعراء العربية المحدثين في مشروعهم التموزي المتألق في تفاؤله، وبمعزل عن ورشة الشعر العربي المفعم بمكتسبات هواء العالم الثقافي (فكراً ورؤية ومبتكرات)، طلع علينا محمد الماغوط، من الركن القصي للمشهد، مجترحاً حزنه ولمسته الجارحة للعتمة المسكوت عنها في سياق مشروع الحلم العربي الناهض، ليفجر ضوءه الأسود في (غرفة بملايين الجدران) معلناً علينا حزناً صادقاً جريئاً يمسّ الشغاف (الفرح ليس مهنتي).

2

الآن، أريد أن أرى في تلك اللحظة المفصلية منعطفاً رؤيوياً، ليس على صعيد التعبير الشعري، منفلتاً عن تخوم التفعيلة وأقفالها، ولكن، خصوصاً، على صعيد الرؤية الشعرية النقيضة لمشروع التفاؤل العام الذي يكاد يطوي مجمل المتن الشعري العربي في تلك اللحظة، من كان مع تلك الأحلام (أيديولوجيا) ومن كان بعيداً عنها (سياسياً)، فقد كان الجيل العربي كله منهمكاً في ورشة ذلك الحلم، معتبراً مجرد الغفلة عن ذلك الحلم وتأكيده هو بمثابة النظر والفعل القاصر عن (المستقبل). هكذا كان المشهد الذي صار التفاؤل الفظ عنوانه الأول و الرئيسي و الغالب.
وهنا نستطيع أن نكتشف قوة الصدمة وعمق الدلالات الإبداعية التي أحدثتها نصوص محمد الماغوط في تلك اللحظة. و أريد أن أقترح، هنا، بأن هذه الخاصية المتميزة في جرأة الرؤية الحزينة الجارحة والأبعد من التشاؤمية، هي العنصر الجوهري الذي منح تجربة الماغوط أهميته الكونية في سياق حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، وأظن أن خروجه عن التفعيلة لم يكن هو (فقط) ما ميز شعريته عن جيله (قبله قليلاً، وبعده قليلاً). خصوصاً إذا لاحظنا أن ثمة تجارب رافقت السياب أو ربما سبقته قليلاً في كتابة القصيدة الحرة، لكن دون أن تخرج عن سكة التفاؤل التي تطلبها مشروع نهضة الحلم العربي في تلك اللحظة.

3

غير أن حزن الماغوط لم يكن حزن الرومانسيين المتثائبين على جسر التنهدات. لقد كان يضع أحداقه في الدم الفائر فيطفر حتى صدغيه. وهذا ما جعل كتابته تفتح أرضاً غير التي فتحتها مجلة (الآداب) أو التي ذهبت إليها مجلة (شعر)، كان محمد الماغوط كائناً وحشياً (طافراً) من غابة تغرس جذورها على أجسادنا وأرواحنا، دون أن يعبأ أو يكترث بالكلام عن البدائل، بمعنى أنه لا يطرح خطابات أحلام، كما كان يفعل شعر الآخرين، الأمر الذي لفت نظر الشعراء العرب محاولين أن يجدوا في عالمه نافذة على أفق مغاير.
وكنت عندما أجلس إلى كتاب (غرفة بملايين الجدران) أشعر برهبة غامضة لفرط المسافة التي كان يتوجب عليّ أن اقطعها بعد (أنشودة المطر)، أو (أوراق في الريح) أو أباريق مهشمة) أو (أحلام الفارس القديم) لكي اصل إلى الأرض التي يحرثها نص الماغوط بعظام أطراف الكائن البشري.
فإذن، كانت المسالة لا تتصل بالشكل دائماً، وأخشى أنها لم تتوقف عليه أبداً. لأن الروح الجديدة عند الماغوط هي ما ميزته بقوة، ومرة واحدة، عن رفاقه. وهنا تكمن أهمية التجربة الشعرية.

4

لكن، بعد ذلك كله، وبعد حوالي جيلين من الشعراء العرب، هل يمكننا الزعم بأن الأجيال الجديدة، وهي تطرح علينا الصوت عن الحداثة و التجديد في الكتابة الشعرية، منافحة عن حقها في التجديد، محتجة بمن سبقها من الشعراء، ومن بينهم محمد الماغوط خصوصاً، أقول هل نستطيع القول ، بدون قلق، أن الأجيال الجديدة قد قرأت حقاً تجربة الماغوط الشعرية بالشكل الذي يتوجب على الشاعر أن يكتشف تجربة شاعر آخر؟
أطرح هذا السؤال، ليس ترفاً، ولكن لأن قلقاً ينتابني وأنا أرقب العديد من الكتابات الشعرية الشابة وأعيد تأملها باحثاً عن ملامح تشي بأن ثمة وعياً لمجمل الإنجاز الشعري العربي الحديث، وأعني الإنجاز بالمعنى التقني و الفيزيائي المباشر، بحيث يمكننا أن نشعر بأن الشاعر الراهن، فيما يعمل على تجاوز النص السابق، قد أحسن القراءة و الدرس قبل وبعد الكتابة.
هذا السؤال من بين أسئلة أخرى لابد لنا، لكي نحسن التعاطي مع راهن ومستقبل كتابتنا الشعرية العربية، أن نتوقف عنده برحابة الصدر وجمال الأحلام. @

********


No comments:

Post a Comment