أولاً: هذا الملف
بداية، نسأل: محمد الماغوط الآن.. لماذا؟
هل ثمة مناسبة تقضي بنشر "ملف" خاص بهذا الشاعر تحديداً؟
وهل نستطيع الادعاء برابط ما بين الماغوط، أعماله الشعرية والمسرحية ومقالاته النثرية، وبين ما يجري في عالمنا اليوم، في زمن العولمة، زمن أمريكا وتابعيها، ونحن نقرأ ما يقال عن كون الماغوط ينأى بنفسه عن القضايا الكبرى، ويركز الضوء على التفاصيل والقضايا الصغيرة؟ فهل هو حقاً كذلك؟ أليس هو القائل "سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت/ مع دمشق القديمة كملامحي"!
وهل القضايا الخاسرة سوى قضايانا الكبرى؟
لعل الماغوط من أكثر من أثاروا القضايا الكبرى في تاريخ كتابتنا الشعرية المعاصرة، حتى لو قال هو غير ذلك. فحين يكتب شاعر، في الستينات، عن العدالة الناقصة "العدالة التي تشمل الجميع وتستثني فرداً واحداً ولو في مجاهل الأسكيمو، هي عدالة رأسها الظلم وذيلها الإرهاب. والرخاء الذي يرفرف على موائد العالم ويتجاهل مائدة واحدة في أحقر الأحياء، هو رخاء مشوه".
وحين يطالب ب "الكل أو لا شيء، طالما أن الشمس تشرق على الجميع، طالما أن السنبلة الأولى لم تكن ملكاً لأحد"، حين يكتب مثل هذا، فهو يجعلنا نتساءل، ونحن نقرأ روايته "الأرجوحة" (كتبها عام 1963، ولم تصدر طبعتها الأولى إلا عام1974)، عن أي إرهاب كان يتحدث الماغوط في ذلك الوقت؟
وهل كان- آنذاك- ثمة "إرهاب" ناجم عن نقص العدالة، كما يحدث الآن، أم أنه كان حينذاك يرى إلى المستقبل الذي هو "الآن" حقاً؟
أهي نبوءة الشاعر الرائي، أم ربما كانت القضية مرتبطة بجوهر الصراع في العالم، فهو صراع بين عالمين، صراع تلخصه عبارة في قصيدة، أحياناً، كما في قوله "نزرع في الهجير ويأكلون في الظل"، أو محاورة في مسرحية، أو مشهد في رواية. وهنا يكفي أن نعود إلى قصيدته "الظل والهجير"، ففيها صراع بين "هم ونحن.."، حيث يخاطب الشاعر حبيبته:
حبيبتي
هم يسافرون ونحن ننتظر
هم يملكون المشانق
ونحن نملك الأعناق
هم يملكون اللآلئ
ونحن نملك النمش والتواليل
نزرع في الهجير ويأكلون في الظل
(من مجموعة "الفرح ليس مهنتي").
كان رائياً كبيراً، لأنه كان شاعراً صادقاً وحقيقياً وشرساً، وهذا ما نفهمه من شهادة الشاعر نزار قباني، حين قال له "أنت، يا محمد، أصدقنا..أصدق شعراء جيلنا. حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنفس البريء، البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينات. كان حزنك وتشاؤمك أصيلين.. وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعاً".
أما شراسته، شراسة لغته وكلماته، فيصفها الشهيد غسان كنفاني بأنها "كلمات مسلحة بالمخالب والأضراس. ومع ذلك، فإنها قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومدهش، وأحياناً مفاجئ. كأن يتحول صليل السلاسل إلى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة".
فالماغوط، الناثر، لم يترك قضية، كبرى كانت أم صغرى، إلا وراح يُجري جرداً لها في واحد من مقالاته التي درج على نشرها في مجلة الوسط بين 1998و2001، ثم جمعها في كتابه "سياف الزهور" (افتتح الكتاب بقصيدته التي تحمل العنوان نفسه، والموجهة إلى رفيقة دربه سنية صالح). نأخذ من مقال "اغتصاب كان وأخواتها"، مطلعها على سبيل المثال "فجأة، ودون سابق إنذار، ركنوا جانباً قضية فلسطين، وتعثر المفاوضات على المسارات كلها، واستمرار قصف الجنوب، وحصار العراق، واحتمال تقسيمه إلى حارات وأزقة، والحلف التركي- الإسرائيلي، ولوكربي، والمذابح في الجزائر، والوضع المتفجر في البلقان والقرن الأفريقي، وقضية أوجلان.."، فهل ثمة، في الكون، قضايا أكبر من هذه؟
وهو حين يسخر من السياسة، يحن إلى "الدفاتر المدرسية القديمة.. خاصة تلك التي على غلافها الأخير صورة جدول الضرب، وعلى الغلاف الأول صورة الكشاف أو الطالب المجد بكتابه المرفوع في الهواء، وخطواته الثابتة الواثقة وقد كتب تحتها: إلى الأمام.. لا إلى: مدريد.. وأوسلو وواشنطن وتل أبيب!!". كما أنه لا يجد أغرب من العرب، يلخص حالنا في أن "بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعمالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع، ونحن مشغولون بغرق تيتانيك". (سياف الزهور، دار المدى، أواخر عام 2001).
ومن هنا، ولأن القضايا التي يثيرها الماغوط، في شعره وفي نثره ومسرحه، كما في حياته وشخصه وسلوكه، كثيرة وتستحق إعادة النظر، خصوصاً الآن، في ضوء ما يجري في فلسطين، فقد حرصنا على أن يأتي هذا الملف، الذي اقترحه موسى برهومة، ليطرح تلك القضايا. وكانت محاولة الحوار مع الشاعر، تلك المحاولة التي تصدى لها هو ورفضها، كما تصدى للكثير غيرها، بشراسة وبسالة، فكان اللقاء الحميم معه أغنى من أي حوار.
ثانياً: قصة لقاء
مع أن اللقاء الذي جمعني بالماغوط، قبل شهرين، لم يكن الأول بيننا، إذ سبقه لقاء قبل أعوام في مقعد الشاعر/ ركنه الذي كان مستقراً يومياً له في مقهى فندق الشام، مع ذلك، شعرت وأنا أتهيأ للقائه هذه المرة، كما يشعر تلميذ مقبل على اختبار نهاية العام، أو كما يحس جندي ذاهب إلى معركة فاصلة. وهذه سمة من سمات علاقاتي بالآخرين جميعاً، فما بالك بلقاء الماغوط الذي أعرف، من لقائي الشخصي الأول به، كما من لقاءاتي المبكرة مع مسرحه وشعره، أنه لا يمكن أن يكون لقاء عادياً، وأن يمر هكذا دون مقدمات وحسابات.
أنا، حتى الآن، قلت لنفسي، لست صديقه الذي يزوره، في أي وقت، بموعد أو بلا موعد، بلا غايات ولا أهداف. كان ثمة غاية لم أحاول إخفاءها عنه في الهاتف، لأنني أعلم مدى حساسيته، فمجرد أن تنطق بأي كلمة، تكون نبتت في رأسه أشجار من التساؤلات حول؛ من تكون وما تريد؟ لذا كان لا بد من الصراحة منذ البداية. كان لا بد من الوضوح، علامة أولى لعلاقة لا أدري أين تقودنا! فأنا لا أحب العلاقات التي تقوم لهدف وتنتهي، وأسعى الآن لبدء علاقة مع شاعر شكل لي هاجساً إبداعياً في فترة من الزمن، وما يزال يشكل لي محفزاً على الكتابة حتى الآن.
في الطريق، كنت أفكر فيما سيكون عليه اللقاء؟ طافت في رأسي كتابات الماغوط وأشعاره، مسرحياته ومقالاته في مجلة "الوسط". تذكرت روايته "الأرجوحة"، و"البطل" فهد التنبل، الأديب المغمور "كالجذور في الربيع"، والمناضل المرعوب من العالم، ومن أجل العالم.. وصديقته المناضلة "غيمة". عادت بي الذاكرة إلى "ضيعة تشرين" و"غربة". ثم مسرحياته التي قرأناها في كتب" العصفور الأحدب، والمهرج. والكثير الكثير من قصائد خارجة على قوانين الكتابة والشعر السائد. ما الذي أريده من هذا الشاعر؟ ما الذي يريده العالم منه؟ لم لا نتركه في حاله وشؤونه؟ لكنني فكرت: هل تَرَكَنا الماغوط وترك العالم لشؤونه، حتى نتركه؟
ألم يكن هو الذي أثار الزوابع والأنهار والزلازل؟ لذا فإن "من أشعل النيران يطفيها"!
أخيراً، هانحن، خليل صويلح وأنا، نطرق الباب، وأتوقع أن يطل الماغوط بقامته الفارعة، وعيني الصقر الشاسعتين. لكن توقعي يذهب سدى، فسرعان ما انفتح الباب عن شاب طويل وسيم، قادنا في ممر قصير، خلتُ أنه لن ينتهي. فأخذت أتأمل جدران الممر المحتشدة بالصور، صور شخصيات وأمكنة، صور الماغوط وغيفارا، مكتبة تغطي جداراً في الممر، وفجأة ظهر الماغوط الذي أعرفه، لكنه الماغوط الذي لا أعرفه أيضاً. بدا وكأنه فوجئ بغزو من كائنات وهمية.. هل أنحني وأقبله، فيما هو جالس، متكئ في سريره؟ لقد بدا لي أضخم مما توقعت. كان وزنه قد تزايد فعلاً عن آخر لقاء، وعن آخر صورة له.
صورته الجديدة بدت لوهلة صورة صقر متعب، يحط على صخرة في صحراء مترامية، ولا يدري إن كان عليه أن يعاود التحليق، أم أن الأمر غير جدير بالمحاولة؟ وحين جلسنا، أخذت أتأمل الوجه والعينين، وأطوف ببصري في أرجاء الغرفة. غرفة ليست "بملايين الجدران"، لكن جدرانها من لوحات فنية ووجوه مألوفة وأخرى غريبة. لوحات وبورتريهات تمثل الماغوط، رسمها أصدقاء له في مراحل مختلفة. صور لابنتيه شام وسلافة (لم ألحظ وجود صورة لسنية صالح، فهل كانت هنا ولم أرها؟). فجأة وجدت نفسي غارقاً في تأمل المكان، وفي سؤال كبير حول الحياة التي عاشها هذا النسر المتشرد في القمم والأعالي والزنازين والأزقة والوحل؟ سؤال النظرة الساخرة إلى العالم والأشياء، نظرة مخذول خاب ظنه في كل شيء، وفي كل إنسان، كما خاب ظنه في الأحزاب من قبل.
ثالثاً - تساؤلات وذكريات
كنت قد فكرت، مجرد تفكير، في أسئلة كثيرة أطلب منه الوقوف عندها، لكنني رأيت اليأس جالساً على الطاولة بيني وبين الشاعر، فطويت أسئلتي ورحت أصغي إلى صمته الصارخ، وذكرياته الجارحة التي قرأتها هنا وهناك. كان يدخن بشراهة، كما لو أنها آخر سيجارة، فيما السيجارة التالية تشتعل بجمرة السابقة، لتنعقد حلقات دخان أزرق مثل كلمات الشاعر. فيما يتحدث عن أصدقاء ذهبوا، ويتوقف لحظة ليرفع سماعة الهاتف ويرد على حفيدته بعذوبة ورقَّةٍ. كان دافئاً في حديثه وحانياً في أسئلته. ذلك الدفء والحنان اللذين تتوقعهما من شاعر متسكع كالماغوط. من الصعب، طبعاً، توقع الشاعر والداً، فما بالك به جداً لأحفاد وحفيدات؟ لكنه حين يغدو كذلك، يتصرف كشاعر حقيقي. شاعر وأب وجد.
وتظل الأسئلة تحوم بيننا، أسئلة الحزن والتشاؤم القاتم الشديد الحضور في نصوص الشاعر، وأسئلة الفرح الغائب بقوة عن هذه النصوص. كيف يكون التشاؤم أصيلاً وحقيقياً، ويكون التفاؤل أعمى أيها الشاعر؟ هل هي فلسفة مترفة هذه التي لا ترى في الحياة سوى الدم والدموع؟ أم أنها الفلسفة الوحيدة الصادقة والحقيقية والعميقة؟
هل كان شعر الماغوط قاتماً إلى حد الاختناق فقط، كما يرى البعض، أم حد الاختناق الذي يدفع للبحث عن نوافذ. وإلا فكيف يمكن أن يكون "مع الأغصان الجرداء حتى تزهر"؟ وكيف يكون مسكوناً بالثورة والرفض؟
هل مأساة الماغوط، كما تقول زوجته الراحلة سنية صالح (1935- 1985)، أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط؟ وهل كان الحال سيكون أفضل لو أنه ولد في مكان آخر، أم أن القدر هو القدر؟ هل كان الماغوط يحلم بتغيير العالم بالشعر، بسلاح الشعر فقط؟ وكيف تكون الكلمة الحالمة طريقاً إلى الحرية، والكلمة في الواقع طريقاً إلى السجن؟
كيف لمن احترق بنيران الماضي، وما يزال يحترق بجحيم الحاضر، أن يلجأ إلى نيران المستقبل، أليس كمن يستجير من الرمضاء بالنار الكبرى؟
كيف انتقلت، أيها النسر الجريح، من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض المتمرد؟
وكيف تصنع من جراحك حقولاً من الخصب والتفجر؟
وهل ما يزال العالم خانقاً كالسجن، أو واهياً كالورق؟
وبماذا تعتصم، حيث لا قصيدة تعصمك؟
كيف نجت موهبتك من حضانة التراث وزجره التربوي، فنجت عفويتك من التحجر والجمود؟
واسمك الصغير كتابوت طفل، المغدور والراقد على حرفه الأول كالغزالة، كيف يتوهج؟
وفيم كان خوفك من البشر، وارتيابك الدائم والكثيف بهم؟
****
قرأت معظم ما كتب الشاعر، وكل ما استطعت جمعه من حوارات معه، لأسأله عن ثمانٍ وستين (68) سنة يحملها على كتفيه، هو المولود عام 1934، والذي يقول "أحمل السجن على ظهري، تماماً مثل ماكيت مجسم". هي ثمانية وستون عاماً من التسكع في الشعر والحياة، من "سلمية"، قريته التي أنجبته كما أنجبت معه علي الجندي وسواه كثيرين. سلمية
"الدمعة التي ذرفها الرومان
على أول أسير فك قيوده بأسنانه
ومات حنيناً إليها
سلمية.. الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
وهي تلهو بأقراطها الفاطمية..
يحدها من الشمال الرعب
ومن الجنوب الحزن
ومن الشرق الغبار
ومن الغرب الأطلال والغربان..
لا تعرف الجوع أبداً/ لأن أطفالها بعدد غيومها..
حزينة أبداً
لأن طيورها بلا مأوى..
والنجوم أصابع مفتوحة لالتقاطها".
فهل هو "قرموطي" آخر، أم آخر القرامطة؟
سلمية هذه، البلدة القرمطية، المشاكسة، التي يتذكرها "فهد التنبل" بطل رواية "الأرجوحة"، ويتذكر نفسه فيها حين كان طفلاً، فيرى ذلك الطفل وهو يتصدى للإقطاعي، فيبدأ وعي الصراع الطبقي من الأرض، لا من الكتب. تقول والدة فهد عنه إنه "يخجل من النسيم، وإذا رأى فراشة تموت بكى طوال الليل. إنه الوحيد في قريتنا الذي لا تخافه عصافير الدوري، بل تغط على رأسه وكتفيه، وتمتص لعابه من بين شفتيه".
ورغم هذه الرقة، فهو الوحيد الذي يتصدى للإقطاعي "كان عمره تسع سنوات حين قذف جواد الأمير بحجر، وكان يقصد جمجمة الأمير، لأنه (الأمير) قذف له أجرته من فوق صهوة الجواد. كان بالطبع سيأخذها لو أعطاه إياها يداً بيد، ولكن أن يقذفها له والسوط في يده، فهذا ما لم يحتمله ولدي الصغير.. ولم يهرب. بل مكث واقفاً يلهث بأنفه الصغير أمام الأمير وسوطه وجواده، وكان قميصه الرقيق يخرج نتفاً على طرف السوط. لقد ضربه حتى أدماه.." (أعمال محمد الماغوط، الأرجوحة، ص 456). ومع ذلك فتهمته حين سجن أنه يتعاون مع الإقطاعيين. ومن حياة السجن وتفاصيله، ستتولد لديه ثنائية "القفص/ العصفور". ووعي أكبر وأوسع بالصراعات.
هذا الوعي الذي سيشقي حياته، ويقوده إلى الشعر بموهبته الفذة والبريئة. وهو الذي سيخرجه من سلمية إلى سجن المزة في دمشق، بين 1955و1956، حيث يتعرف إلى وأدونيس، الذي سيقدمه فيما بعد إلى شعراء مجلة "شعر"، حين كان الماغوط في بيروت لاجئاً سياسياً (يسخر فيقول إنه كان لاجئاً اقتصادياً.. فاللقاءات التي كانت تتم في بيت يوسف الخال، كان يحضرها الماغوط مستمعاً، يسمع أسماء شعراء (غربيين) لا يعرفهم، وعندما يحضر الطعام يأكل. فقد كان الخال وزوجته يعدان الطعام لأسبوع كامل، على الطريقة الأميركية).
ورغم هذه السخرية، فقد كانت بيروت محطة أساسية في ترسيخ صوت الماغوط. فقد كانت- أولاً- الملجأ من المضايقات والمطاردات التي سببها العسكر على أثر الوحدة المصرية السورية، وثانياً لأنها كانت مركزاً ثقافياً، ومركزاً للثقافة العربية بحق، في مقاهيها ومكتباتها ودور النشر الكبرى فيها. والأهم من ذلك، نسبة إلى الماغوط، هم الأصدقاء: أنسي الحاج، سعيد عقل، عصام محفوظ، رفيق شرف، سمير صايغ، شوقي أبي شقرا..الخ. وحتى الآن، ما يزال الحنين إلى بيروت يلح على طائر السلمية، فهو الذي لم يعد يسافر، رفض دعوة إلى كندا، لأنه كان مدعواً إلى النبطية.
سنية صالح ودمشق: عشق أبدي
وحين عاد الماغوط إلى دمشق، كان قد غدا اسماً كبيراً، حيث صدرت مجموعته الأولى "حزن في ضوء القمر" (دار مجلة شعر، 1959)، وعن الدار نفسها صدرت، بعد عام واحد مجموعته الثانية "غرفة بملايين الجدران" (1960). ثم مرت عشر سنوات حتى أصدر المجموعة الثالثة "الفرح ليس مهنتي" (اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1970). وفي دمشق بدأت حياة جديدة تتفتح أمام الشاعر الغاضب الرافض الخارجي، وتركز نشاطه في المسرح، وتوقف عن كتابة الشعر كلياً، ولم يكتبه إلا بعد رحيل سنية صالح بسنوات، فقد كتب فيها أجمل قصائده، والتي ستنشر في مطلع كتاب النصوص النثرية المتنوعة "سياف الزهور" (دار المدى، أواخر 2001).
لقد بدأ الماغوط من "سلمية"، لكنه سرعان ما دخل علاقة عشق مع الشام/ دمشق، وهاهو يحن إلى قريته "سلَميّة" ولا يستطيع أن يعود إليها، لأنها تسكنه. يقول (بطل) قصيدة "المسافر"، يخاطب والده:
أرسل لي قرميدة حمراء من سطوحنا
وخصلة من شعر أمي
مع أقراط أختي الصغيرة
وأرسل لي نقوداً يا أبي لأشتري محبرة
وفتاة ألهث في حضنها كالطفل
(مجموعة "حزن في ضوء القمر").
ومع ذلك لم ينجُ من شعور الغربة والنفي. هذا الشعور الذي سيكبر معه حتى يلتقي رفيقته سنية صالح، الصديقة أولاً، والزوجة لاحقاً، التي احتضنت أحزانه وآلامه، وضمدت جراح روحه قبل طعنات جسده. سنية التي كتبت عن الماغوط في مقدمة أعماله الكاملة (الطبعة الأولى، وهي المقدمة التي تضمها الطبعة الجديدة الصادرة في دار المدى 1998)، أنها خرجت تبحث عنه في أثر أحد الانقلابات، "وكان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمرّ منه"، فعملت على إخفائه عن الأنظار في "غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن.. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة".
وشعرياً، ترى سنية أن الماغوط "من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل.. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر..". وقريباً من هذا، ما قالته الشاعرة والناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، في معرض حديثها عن الحداثة الشعرية العربية وفرسانها، فقد رأت أن الماغوط "كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها. هذا الرجل لم أستطع أن أحل إشكاليته في قدرته على امتصاص الحداثة فهو ليس حداثياً، بمعنى الحياة الخارجية, وهو لا يتقن لغة أجنبية، وعندما كتب هذا الشعر لم يكن يعرف الشعر الغربي".
وسنية التي- برحيلها- أعادت الشاعر إلى كتابة الشعر، بعد انقطاع استمر من عام 1974حتى 1989، حين كتب "سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح". في هذا النص عاد الماغوط بلغته الوحشية، وأسئلته الوجودية، ولكن بإيقاعات أشد شراسة. يقول:
يا رب..
في ليلة القدر هذه،
وأمام قباب الجوامع والكنائس،
اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية..
أساعد الينابيع في جريانها
والحمائم المشردة في بناء أبراجها
وأضلل العقارب والأفاعي
عن أرجل العمال والفلاحين الحفاة
ولكن.. أبق لي على هذه المرأة الحطام
ونحن أطفالها القُصَّر الفقراء
فسنية صالح لم تكن زوجة وصديقة وأماً للأطفال فقط. كانت تعني الكثير للشاعر الطفل النزق الذي يحتاج من ترعاه. لذا فهي له "يتيمة الدهر وكل الدهور"، وهو من دونها يشعر أن "كل صحبتي تفرقت"، فيعاتبها "من أين ورثتِ/ هاتين الرئتين الواهيتين كرئتي عصفور؟ وهذا النمش المتجمع على ذرى الكتفين/ كما تتجمع العصافير الخائفة في أعالي الشجار؟".
وعن هذه القصيدة يقول كمال أبو ديب، إن لغة النص وصوره "مدهشة، مثيرة، تنبثق. صور عجيبة شرسة، تخمِّش وتخرمش وتذبح. كل علاقاتها تقريباً مما لم نألفه في تصور أو لغة شعرية قبلها.. لنحصِ الاستعارات والتشبيهات في شعر الماغوط، ستكون النتيجة رائعة: إن التشبيه، لا الاستعارة، هو الصيغة المثلى لتجسيد صوره الشرسة المخترقة.." (مجلة ثقافات، البحرين، ع 1، شتاء 2002).
كان بسيطاً وعفوياً وبدائياً هذا الشاعر، لذا كان عشقه لكل شيء عشقاً مدمراً وجارفاً، ولذلك كان غريباً ذلك العشق الذي جمع الماغوط بدمشق، جعله يسميها "عربة السبايا الوردية"، حيناً، ويهجوها هجاء مقذعاً حيناً، ويعود ويعلن عشقه لها في نهاية المطاف. والعشق نفسه كان تجاه نهرها بردى، فهو قد نال نصيبه من عشق الشاعر ومن لعناته التي كانت تعبر عن غضب شديد من الحال التي آل إليها "نهر صغير من الطبقة المتوسطة". طبقة كان الشاعر يرى فيها عدو الطلبة والعمال والكادحين. طبقة جعل النهر يعكس رؤيته لها، فجعل النهر كأنه هو الطبقة نفسها، وراح يهجوه بحزن ومرارة:
نهر صغير من الطبقة المتوسطة
أتى على كل شيء في حقبة واحدة
أروع مطر في التاريخ
أجمل سحب الشرق العالية
بددها على الغرغرة وغسل الموتى..
(من مجموعة "الفرح ليس مهنتي").
هنا يحضر النهر، وتحضر دمشق كلها، لا بوصفهما "مكاناً"، بل بشراً وعلاقات لا يُقرّها الشاعر، فهي علاقات يرى فيها تشوهات المجتمع، والاستغلال والقهر الطبقيين.
لذا فدمشق ستظهر هنا في صورة كائن بشري، امرأة ربما، تسأل عن الشاعر في مكتبه، وليس بالضرورة أن يكون الشاعر نفسه، بل أي "بطل" للقصيدة، فيسأل "من تكون هذه العجوز الجامدة عند المنعطف، والبعوض يحوم فوق رأسها، كأنه مصباح أو مستنقع؟"، وحين يخبرونه أنها دمشق، يسألهم أن يطردوها، فهو لا يعرف أماً أو شقيقة بهذا الاسم! وتستمر السخرية "أهي خزانة أم مطرقة أم مرآة؟". يقولون له "إنها مدينتك" فيجيب "لا مدينة لي سوى جيوبي"، يحاولون بإلحاح "إنها وطنك"، لكنه يصدها "لا وطن لي سوى هذه البقع والخربشات على الخرائط". ففي تلك المرحلة، بدا وكأنما يرد ثأراً بينه وبين دمشق، المدينة/ الحكم، التي سجنته وطردته وشردته، فهو لا ينسى حوارهما:
* قلت لها: عطشان يا دمشق
- قالت: اشرب دموعك
* قلت لها: جوعان يا دمشق
- قالت: كل حذائي
إنها دمشق المناسف والأهراءات، والبيضة المسلوقة والرغيف المطوي "بعناية" في حقيبة المدرسة، الخيول الجامحة والسفن التي تسد وجه الأفق، دمشق المحدودبة أمام الصنبور. هذه التناقضات التي شوهت وجه المدينة القديمة وروحها وملامحها، لم تستطع تشويه ملامح الشاعر وروحه و.. لغته. فقد حفظ الدرس، وكافح ليحافظ على هويته الحقيقية، هوية الريفي البسيط والواضح كحد السكين. فعاد إلى مدينته واعياً همومها، غير قادر على خذلانها رغم كل شيء، فبعد أن يقول كل ما قال، ويبلغ حد الأمر بأن يضربوها بالسياط، ويطردوها من الأبواب، لتظل وحيدة كالريح.. يبصر نور عشقه لها وراء الغلالة السميكة من الحقد الطبقي، ويدرك الفارق بين المدينة وحكامها، فيعلن أنه لا يستطيع رؤية ما سيحل بها، فيصرخ بهم:
ولكن..
اسملوا عينيّ قبل أن تفعلوا ذلك
إنني أحبها يا رجال
ولن أخونها
وهنا نتنبه إلى عنوان كتابه "سأخون وطني"، وهو عنوان شديد النفور والقسوة، شديدة الإيلام والسخرية في آن. عنوان صادم لوهلة. لكن الذي يقرأ جوهر ما فيه، سيجد أن الوطن الذي سيخونه الشاعر هو "وطن الذل والقهر والعبودية، فالوطن الذي يستحق الخيانة عند الماغوط، هو دائماً وطن الظلم والإرهاب والاضطهاد"، كما يقول رياض الريس. أما المتمرد الآخر زكريا تامر، فيقدم للكتاب بقوله إن الماغوط نجح في أن يجمع على أرض واحدة "بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، ليقدم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه وجنده وشرطته وأجهزة إعلامه، مكثفاً ذلك البلاء الكثير من الوجوه في بلاء واحد، هو فقدان الحرية".
ليست المسألة خيانة بالمفهوم السطحي والدارج، إذن. فما من شاعر، حتى نزار قباني، كتب عاشقاً دمشق، كما فعل الماغوط. لكن سورية الخمسينات التي كتبها هذا الشاعر العاشق، لم تكن تتيح مجالاً لعشق خالٍ من الهموم الوطنية والصراعات الطبقية، على المستوى الرؤيوي/ الإبداعي لا الأيديولوجي. وإذا جاز أن نتناول، على سبيل المثال، رواية "الأرجوحة" بوصفها تنطوي على مقاطع من سيرة الماغوط، فسنجد في هذه السيرة الكثير من القضايا، والكثير من الأسئلة التي كانت تمثل هاجس المثقف والسياسي الرافض والمتمرد.. خصوصاً لجهة تركيزها على مفردة الحرية، ونقيضها القمع.
إن عبارة "يداي لا تصلحان للقيود"، ليست مجرد صورة شعرية في نص، إنها صرخة الروح في براري القمع والقهر والاستبداد. وليس صحيحاً أن حريته هو كانت كل غايته، فالحرية لديه هي حرية البشر جميعاً، وتحديداً هي حرية الشعوب قبل حرية الأفراد، وإن كانت المسألتان لا تنفصلان. لكن هذا لا يعني أنه ضد حرية الفرد. على العكس. ففي حوار يجري بين "غيمة" وبين أصدقاء فهد التنبل، يقول أحدهم مبرراً اعتقال فهد بالثورة التي لا بد من التضحية من أجلها "اسمعي أيتها الآنسة.. هناك ثورة حدثت في الوطن، ونحن منها ولها".
فمن هو الفرد أمام قضية ثورة؟ كلنا فداء الثورة. فالسخرية تبلغ مداها هنا "إنها جائعة.. وهي لن تنمو ما لم نجد لقمة هنا ولقمة هناك". فأية ثورة هذه التي تتغذى على الشعب؟ "لتتغذَّ بنفسها إذا كانت جائعة إلى هذا الحد.." تقول صديقة فهد بسخرية مريرة. سخرية من الثورة التي تقود الناس إلى السجون. ومن يعرف حياة الماغوط، يعرف أنه سجن بلا مبررات سوى أنه انتمى- بالصدفة- إلى حزب كان قريباً من بيته، وكان لدى الحزب مدفأة، في الوقت الذي كانت غالبية بيوت الناس بلا مدافئ!
ثمة إشكالية هامة أيضاً تتصل بالحرية، وينبغي التنبه لها في تجربة هذا الشاعر، وهي كما تبدو على السطح إشكالية الضجر، الذي يعتبر واحدة من آليات القمع التي تشيعها الأنظمة، في زمن يقول عنه الماغوط إنه "عصر ضد الموهبة". فالضجر هنا، وفي حياة الماغوط ونتاجه الإبداعي، تعبير عن رغبة في مزيد من التحرر والطيران، وليس استسلاماً للخنوع كما نجده لدى كثير من مثقفينا ومثقفي العالم الثالث عموماً.
وغالباً ما ارتبط الضجر عند الماغوط بالمقاومة والثورة والحرية، حتى لو جاء أحياناً متجاوراً مع الاستعمار، فهو نقيضه. وهنا تتبدى واحدة من آليات السخرية التي نجدها بكثرة في إبداعات الماغوط. كما يمكن أن ترتبط بغياب الشعر، أو بشهوة التجديد:
صاخب أنا أيها الرجل الحريري
أسير بلا نجوم ولا زوارق
وحيد وذو عينين بليدتين
ولكنني حزين لأن قصائدي غدت متشابهة
وذات لحن جريح لا يتبدل
أريد أن أرفرف، أن أتسامى..
*****
كنت أود أن أكتب شيئاً
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو الوراء.."
إنه شاعر الربابة والشوارع والأزقة، شاعر الهوامش والمهمشين، المتفرد في الشعر العربي المعاصر. والشاعر الذي ظل نفوراً، لم تستطع جماعة أو حزب أن تسجنه في إطارها. فهو لم يلبث طويلاً مع جماعة مجلة شعر، ثم وجد نفسه "خارجين السرب". ولو عدنا لروايته "الأرجوحة"، فسنلتقي بمثقف هامشي، يمقت الأجواء الثقافية والمثقفين. فهو على النقيض منهم يجنح إلى البساطة والوضوح، ويصرخ في صاحبه في السجن "لماذا لا تعلن الأمور مباشرة.. تنحَّ عن صهوة اللياقة الاجتماعية والمؤازرة اللامجدية، حتى يخترع الجائع طعامه والمريض دواءه".
******
وماذا بعد؟
هل وفينا الشاعر شيئاً من حقه؟ وهل يمكن لقراءة مستعجلة، مهما كانت، أن تكون أكثر من احتفاء بشاعر لا تكفي كل الكلمات للاحتفاء به؟
هي محاولة لإضافة ورقة إلى كتاب الاحتفاء بالماغوط، ولا شيء أكثر، حتى تتاح فرصة أخرى لكتابة أكثر عمقاً. فهل تأتي تلك اللحظة التي نقرأ الماغوط فيها كواحد ممن هدموا الكثير من الجدران والأبنية والسجون، ليقيم حديقة صغيرة بحجم ظله وروحه؟
*******