Thursday, October 8, 2009

تركيب المتخيل

(محمد الماغوط في حزن في ضوء القمر)

http://www.husamwahab.com

عبدالقادر الغزالي


(المغرب)

للمتخيل الشعري وضعية استثنائية في كتابة وقراءة النص الإبداعي لاعتبارات عدة تتصدرها المكانة الجوهرية التي يحتلها "الخيال" بوصفه دالا أكبر في بناء الخطاب الشعري الحداثي. ومن ثم ندرك بجلاء، سر عناية الفلاسفة المسلمين بهذه الطاقة الخلاقة، مما جعلهم يرفعونها الى مرتبة المبدأ الأول الذي تتحقق بواسطته ماهية ما هو شعري، وبطاقة الهوية التي تثبت الانتماء الى هذا الجنس الفاتن المنافس للموجود والوجود، وذلك بخلقه أشكالformes - sens (1) تندغم فيها تجربة الكتابة بالتجربة اليومية.


ولعل ذلك هو السبب الذي جعل تعريف الشعر يقترن بالخيال الشاعر بين العرب القداس الذين أفادوا من الفلاسفة أمثال حازم القرطاجني الذي يبرز د. جابر عصفور مكانته النقدية البارزة ودوره الرائد، كما يتضح ذلك في الفقرة التالية "لقد أفاد حازم من الفلاسفة كل الإفادة وأستطاع أن يتجاوز خطي أقرانه وأسلافه من النقاد ويصل الى ما لم يصلوا إليه ويعالج مشاكل لها ثقلها وأهميتها في تاريخ النظرية الشعرية" (2).


ويحسن أن نشير الى أنه، رغم التحول الذي حصل في البيئة الثقافية القديمة، وذلك بتبني مبدأ الخيال، ووقف العملية الإبداعية على اشراقاته، وكشوفاته، فإن استمرار التصورات الأرسطية في تأطير ماهيته وتفاعلاته في النص، قد حد من حريته وقلص من أقاليمه وفتوحاته، وذلك بالاحتكام الى المنطق في قبول عوالمه وعيش فصولة أو طرح بنائه ووصله باللامعقول والمعمى والمبهم. وتفضي بنا هذه النقطة الى إحدى المنارات البيضاء في الثقافة العربية القديمة


أرسى قواعدها، وأعلى صرحها المتصوفة المسلمون الذين طرقوا الأبواب الموصدة وولجوا عالم الغيب والشهادة وغزوا اللحظة المبدئية، وذلك باتخاذ الخيال طاقة خلاقة بها تكتشف التحولات الدائمة في الوجود، وتتوارد المتجليات على القلب والخاطر. ولنتأمل تعريف ابن عربي: "...فالخيال لا موجود ولا معدوم ولا معلوم ولا مجهول ولا منفي ولا مثبت كما يدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه ويعلم قطعا أنه ما أدرك صـورته بوجـه" (3).


ووفق هذا التصور نتبين ماهية الخيال البنائية سواء في العملية الإبداعية أو في تعيين أشكال تلقى ما يعرضه من صور ومشاهد في النوم أو اليقظة، وما طبيعة وقدر المسافة التي يجب أن يتخذها الرائي عندما يبلغ مقام التجليات. ولذلك يردف ابن عربي: "ومن الناس من يدرك هذا المتخيل بعين الحس ومن الناس من يدركه بعين الخيال وأعني في حال اليقظة" (4)، ويحسن أن نشير الى ضرورة التنبه الى خصوصية الاشتغال النظري واستراتيجية البحث في الخيال والمتخيل عند المتصوفة وعند أبن عربي الذي خصه هنري كوربان Henri Corbin ودراسات قيمة وعن استراتيجية في مبحث الخيال. يقول: "ولا شك أن انشغال ابن عربي الأول كان هو عقد صلات رؤيوية بين المقدرة التخييلية من جهة، وبين الإلهام الإلهي من جهة ثانية.." (5).


فرضيات القراءة:


إن اعتبار النص الشعري في كليته والانفتاح على الكون التخييلي الذي يؤسسه يفرض علينا اختيارا منهجيا يتمثل في مراعاة سياق توارد الصور والرموز التي تشكل النسق النصي، لكي يتجنب التفسير الآلي وذلك بعكس الدلالة المتحققة للصورة في المستوى الانطروبولوجي أو النفسي على الطبيعة التنظيمية الخاصة التي تدرج بها (الصورة) في البناء الدائم التجدد، علما بأن ما يمكن أن يدرج في إطار "المعرفة الخلفية" سيكون بمثابة إضاءات تفتح أمامنا أفاق المصاحبة.


ومن هذه الزاوية، نقترح في هذه القراءة الاستفادة من شعرية المتخيل التي يدافع عنها جان بورغوص Jean Burgus إن أول قرنية تواجهنا هي فرضية التركيب أي التأليف الحر واللانهائي للأنساق التخييلية. ومن هذا المنطلق يتم التنبيه الى أن القراءة لا ينبغي أن تكتفي بملاحقة الراهن، بل يجب أن تخترقا الى الممكن والمحتمل: "ومن ثم فإن عزو المعنى الماورائي، الذي يحدد أيضا ماهية الشعري، هو الذي يمكن أن يسمح بشعرية المتخيل" (6).


ومن ثم فإن إبراز الحدود بين الوظيفة الأسطورية والكتابة الشعرية، هي أولى المسائل التي يتصدى لها وفق خاصيتي: التكرير والتوليد. إذ أن الأسطورة وهي تقدم إجابات عن تساؤلات مركزية تصاحب الإنسان تعيد إنتاج وصياغة الحالات والأوضاع الى مالا نهاية، بينما تصهر الكتابة العناصر المعطاة لخلق أنساق جديدة وارتياد عوالم مجهولة، ومن ثم: "يميل الخطاب الأسطوري الى تكرير أوضاع بدئية الى مالا نهاية... في حين تدشن الكتابة وضعية لم تعش ولم يعبر عنها من قبل كما تنفتح على احتمالات جديدة" (7).


وهذا المبدأ العام هو الذي ينبغي أن يوجه الانشغال بطرائق تجميع الصورة والكوكبات الرمزية Les cons te llations symboiques التي تنتظم في إطارها لتحديد شكل تركيب المتخيل في الكتابة المقروءة. ولقد اقترح جان بورغوص Jean Buegus ثلاثة أشكال هي:

  1. كتابة الثورة: التي يصفها بأنها "كتابة الفضاء الممتلئ في الحاضر" (8)، وتستند الى ملء الفضاء الذي يعني في وجه من وجوهه السيطرة على الزمن، وتوقيفه في لحظة مثبتة ولهذه الغاية يتم تشغيل علاقة التعارض.
  2. كتابة الرفض: التي تسعي الى أبعاد الزمن والالتجاء الى مكان حميمي، وفي هذا الشكل الكتابي تهيمن ترسيمات التقريب والتقليص والانثناء، كما: "تقتضي هذه الكتابة رؤية أكثر تجريدية وذاتية خالصة، إنها أساسا رؤية حسية للعالم والأشياء أي رؤية متزنة حسب تصور باشلار" (9).
  3. كتابة التمويه: التي توهم "بقبول السيرورة الكرونولوجية الحتمية" (10)، ومحاكاة الحياة اليومية، ثم لا تلبث أن تفجر تناقضاتها ولذلك: "كثيرا ما يشبه العالم المتخيل الذي تفتحه عالمنا المعتاد، ثم لا نلبث حتى نكتشف فجأة، بأن العبور من المتجول الى الزمني قد تحقق، وبأن الدرامي قد أخذ معناه" (11).

بهذه الفرضيات المركزة نقترح الاقتراب من الكون التخييلي الذي تؤسسه القصائد الشعرية المكونة للديوان الشعري، موضوع القراءة "حزن في ضوء القمر" للشاعر الغاضب محمد الماغوط.


البعد والأبعاد


يفجؤنا العنوان بصيغته التناقضية ذات الصفة الازدواجية إذ يتمظهر التعارض الأول في الشق الثاني: في ضوء القمر، شبه الجملة المزدوجة: جار + مجرور= مضاف + مضاف إليه. بما يحمله من قلب طبيعي للخاصية الزمنية: الليل والنهار، وملحقاتهما: نور - ضياء - (ظلام - عتمة) حيث أصبح الليل حاملا للنور، واتشح النهار بالسواد. الأمر الذي يفضي بنا الى التعارض الثاني المتمثل في الشق الأول: المركب الأسمى حزن، إذا ما اعتبرنا هذه العاطفة الشعورية تعتيم الذات لحظة انخطافية تبعث على الدهشة والمناجاة مما ينجم عنه رج للعلاقة بين المثير والاستجابة بلغة السلوكيين. ومن هنا يبرز تقابل بين حالة افتراضية، تكون اللحظة الطبيعية حافزها ومبررها لها ارتباط بعالم داخلي تؤثثه أحاسيس الرقة والسمو والصفاء والبهجة والفرح كما تنفتح على عالم خارجي تستحضره انخطافات العشق والمفاجأة وحالة سلبية واهنة تتقلص وتنكفئ فيها الذات، مما يفتح احتمالات الفقد والحرمان وينبئ بصلابة العوائق.


إن لترسيمة الفقد والغياب أهمية خاصة في بناء الأنساق التخييلية ومد الأطراف بماء الحياة، حولها تتكوكب ثيمات التشرد والضياع والشوق والحنين. ولعل أول مظهر للفقد يواجهنا، هو غياب المعشوقة التي تبعث الخصب وتغمر الكون بهجة وصفاء. وإذا كان البعد /الأبعاد حاصلا، والحب مستحكما مس العاشق بالوله والخبل، واستحالة اللقاء لا مراء فيها، فإن استدعاء التحولات لا مناص منه بها يهدم جدار البين وكفى مسافة الفصل. لذلك تسافر الذات في شكل "قصيدة غرام" حضور اقتضته الأجواء الرومانسية والدرامية التي يلقي العنوان بظلالها. غير أن هذا الانفتاح المرحلي، لا يلبث أن يستدعي تعارضا تجسده الجملة الاسمية المعطوفة، أو طعنة خنجر. ولعل جذوة الحرقة المتقدة في الفؤاد هي التي تفسر هذا التعارض، حرقة اقتضاها الاتحاد في البعد بواسطة اللقاء الرمزي تهيىء الكتابة مراسميه وطقوسه. وتفيد فيه من علاقة المحتوي والمحتوى ومن ترسيمة التنافذ والتداخل:


أيها الربيع المقبل من عينيها


أيها الكناري المسافر في ضوء القمر


خذني إليها (12)


من العين يقبل الربيع وفق تشخيص فصلي لا يفتأ أن يستدعي احتواء مناظر يتمثل في "الكناري المسافر". والعمليتان الاحتوائيتان تنسجان صيغتين تركيبيتين متناظرتين: (أيها الربيع.. خذني إليها) (أيها الكناري (...) خذني إليها) كما تتقوى الرابطة التنظيمية من خلال الصفتين المتقابلتين:


(أيها الربيع المقبل.. / أيها الكناري المسافر)


وفي الإقبال والسفر دلالة على التحول والحركة (الأبدية) وهنا يحضر الجسد الايروتيكي بجلاله وشبقيته ونقائه وطهره مما يتيح التسمية:


(حبيبتي ليلى... دمشق يا عربة السبايا..) عندئذ تفتح واجهة للصراع بين الذات والزمن. صراع يندحر فيه كل أمل في الانعتاق من السلطة القاهرة، فتتعالى أصوات البكاء والخيبة والانتكاس. وترفع رايات اليأس والعدمية لتلقي الذوات في فضاء مظلم أشبه بالهوة السحيقة التي لا قرار لها.


- عشرون عاما ونحن ندق أبوابك الصلدة (ص 16)


- ونحن نعدو كالخيول الوحشية على صفحات التاريخ (ص 17)


ويمكن أن نستنتج، في هذا المقام، بأن الترسيمة الموجهة لانتظام الصور هي: النقيضة التي واجهتنا صورة من صورها في عنوان القصيدة: حزن في ضوء القمر، المختار لتسمية الديوان الشعري، كما تواجهنا صيغ أخرى لقسماتها تتكوكب حول الجسد الأنثوي بفتنته وبشاعته،


وتبادله العلاقات التفاعلية وفق مبدأ التماهي مع البلاد - دمشق - الوطن. وفي هذا الكون التخييلي يتقابل عالمان متعارضان: عالم مضيء يقوم على أساس الامتداد وملء الفضاء تؤسسه تيمات البعث والخصب، التي يكون للعين في سلطانها مرتبة السيادة وطاقة الخلق، إنها عين الآلهة المخلصة والجذوة المتقدة التي ينبعث من إنسانها النور والضياء. كما يكون للغم والقدمين في شريعتها طاقة التهيج وإثارة الغرائز الجنسية بما أنهما مصدران للنشوة والانتشاء. أما العالم الثاني فيقوم على أساس التقليص والانحسار تتعالى فيه أصوات النواح والمرض، عالم مظلم تنسحب فيه الذوات وتنكفئ، ليلقي بها في ردهات الصمت والبكاء والخوف مكتفية من خلل الثقوب بالتفرج على المشهد الجنائزي الذي تعيش أطواره وفصوله، وتكتوي بنيرانه العاتية، ولننصت الى صوت الكتابة وذبذبته حين يلهج هذه المأساة مشددا على التعارض:

(1- أيها الربيع المقبل من عينها


2- في عينيك تنوح عاصفة من النجوم)


(1- ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين)


(2- ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر)

وفي هذه اللحظة، لا نملك إلا الاستسلام والانقياد سريا لغواية قصيدة تأسيسية في الشعر العربي المعاصر هي قصيدة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، غير أننا نترك لذة اللقاء والوصل مفتوحة.


ومن هذه الزاوية، ندرك أيضا سر المراوحة بين النظام الانثنائي:reqine de repli:

فأنا متشرد وجريح


- إنني شبح


- إنني مريض


- إنني ألمح أثار قلبي


- وأنا راقد في غرفتي


- فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية. *

وتتجمع في هذا النظام الكوكبات الرمزية les conslellations symboliques القائمة على أساس التناظر - التاريخ الرابض على الشفة.. الاجتثاث من الجذور.


- الحب القاتل - البطل المنهزم - الرايات المنكسة..


ويحسن أن نشير الى أن التناظر بين الصور المعتمة إحدى ضرورات هذا النسق التخييلي، به تحقق وحدة الكائن، وألم الكينونة.


ويقابل هذا النظام، نظام مناقض تمديدي توسيعي فيه يبعث البطل من الرماد كما تبعث العنقاء فيحيى جذوة الحياة مستعيرا من الطبيعة طاقة الخلق المتجدد.


- وأنا أسير كالرعد الأشقر في الزحام (ص19)


- أملا في السيطرة على الفضاء والزمن


- أنت لي


- هذا الحنين لي يا حقودة ! (ص 17)


فاتحا بؤرة إشعاع ينبعث منها أضوء ومراهنا عي زمن أبدي يمحى فيه الى من الكرونولجي، وتجد فيه الذات مكانا حميميا وملجأ رحيما من عنف المحسوس وجبروته.


وفي مجامل الطريق، ووحشة السفر تعي "الذات" خيبتها وخذلان العالم لها. كذلك تستعيد ذكريات الطفولة، وتستحضر أحلامها السعيدة، مستلقية في أحضان الأم التي جف عودها وتوارت فتنتها لذلك تمني بالخيبة مجددا لأن الاحتماء تم بالهباء.


مقامات الكتابة


إن مشهد العذاب والشهادة الذي تعيش فصوله كل ذات مبدعة أصيلة تصل في هذا المقام درجة قصوى، فيه تعي الذوات تفاهتها وخستها فترفع نداء مقاومة الزمن لإلغاء جبروته وقهره ومن ثم تعبر لحظة تأملية تتغيا ملء الفضاء: العيون - الطفلة السحابة - هذه العناصر التي تشترك في بعث الحياة والخصب. إذ تتعاضد الطاقة الرؤيوية والبراءة الطفولية لتجديد مواسم الخصب والبهجة. غير أن ثبات المشهد الوحشي ينبئ بأن الزمن مازال جاثما حاملا أعلام الفجيعة والانكسار والهزيمة:


- إن ملايين السنين الدموية


تقف ذليلة أمام الحانات (ص 23)


وفي هذا الكون المظلم تحتمي الذات بالحلم، به تجرب اختراق الانفلاق. وعندئذ يتحول الحزن من طاقة شعورية تدميرية توهن الذات وتشل حركتها، (بما أنه خلاصة لرعب الزمن واقتياده الكائن الى الجحيم)، الى مادة تطهيرية، بها يخاض الصراع ضد الزمن لترويضه والسيطرة عليه.


- فالتراب حزين، والألم يومض كالنسر (ص 24).


ومن ثم نشهد محاولات مستمرة للاختراق والنفاذ الى الباطن، واستسلاما لغواية الكتابة وآلامها، وخضوعا لطقوسها، ودهشة أمام تقريبها السحري بين الحاضر والغائب، الظاهر والخفي، الداخل والخارج، الصاعد والنازل، الكائن والممكن، الواقع والمحتمل..


غير أن انحسار الرؤيا وقتامة الأفق، لا تثبت سوى مشهد الاندحار والتقلب في ردهات الجحيم فيها يمحى بهاء الكتابة ويجف ماؤها فتتلاشى الذات وحيدة وهي تراقب احتراقها وتشهد مد ما يقوضها ويشتتها مجسدا في التشابه والتماثل. لذلك تدوي نبرات الضعف والعجز:


- ولكنني حزينا لأن قصائدي غدت متشابهة


- وذات لحن جريح لا يتبدل (ص 17)


ومع تنامي حاجة الذات الى الانفتاح على المختلف والمتعدد، تتضاعف حدة الغضب والنقمة على الطبيعة: (الحقول) والكينونة (البشرية) لأنها تنشد السمو والتحليق في الآفاق اللامحدودة.


وهنا تستحضر شكلا من أشكال التوجيه الخارجي المجسد في الحب القاتل والعشق المدمر الذي أفنى الجسد في الوطن.


- وطني.. أيها الحرس المعلق في فمي (ص 48)


على الرغم من القهر والحرمان. وما أبشع أن يموت البشير جوعا وتتوارى النبوءة سرابا. وذلك هو المال الذي انتهت إليه الذات ساحبة وراءها أذيال الهزيمة والاندحار لتعترف علانية بالعجز:


- لكنني لا أستطيع (ص 49)


- لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية


تضطلع في دفتري كفخذين عاريين (ص 49).


وفي هذه العتمة المدمرة، لا تملك الذات الانسحاب والهرب الى ملجأ حميمي، نشدانا لصفاء وسمو خالص تتعمد فيه بمياه الأبدية.


ويمكن أن نلاحظ في هذا النسق التخييلي، تقابل ترسيمتين منظمتين، ترسيمة الانثناء وترسيمة التوسيع والتمديد. لذلك نواجه انحسارا وانغلاقا تجسده تيمات الفقد والفراغ والألم والكآبة عبر استحضار نضالات المامي التي آلت إلى السقوط، وتعذر العبور بعد تحطم الجسور والحرمان من اللقاء نتيجة النفي والتشريد. وتلك هي علة الحرقة التي يذكيها الشوق والحنين الباعث على بسط سلطان الخيال وقدراته الإبداعية على التوسيع والتمديد، وهنا تحضر الرمزية الأنشوية كشكل من أشكال الانفتاح وتصعيد البشاعة الى ذروتها:


- ما من أمة في التاريخ


لها هذه العجيزة الضاحكة


والعيون المليئة بالأجراس (ص 62)


وفي هذا الأفق التخييلي تتقلص القارات: أوروبا، آسيا. لتتماهى مع العشيقة والأم، والساقطة. ومن ثم نلمح هذا التوق الى محو الواقع، وتصعيد الأوضاع الصدامية، والتأرجح بين العواطف المتناقضة، إذ تجتاح عواطف اللاجدوى والعبثية الذات، في الوقت الذي تبتهج فيه بنشوة الخلق وإعادة التشكيل.


فتوحات الهجرة والسفر


تتعالى من الأعماق أصوات تحث على الرحيل والسفر الذي لم تتحدد معالمه:


- سأرحل عنها بعيدا.. بعيدا (ص 33).


رحيل يخلص الذات من العناصر والأشياء، ويحصنها من الزمن ومهاويه وهبائه. وإذا كان قرار السفر لا راد له، فإن الغضب والنقمة التي تحملها الذات للعالم شديدة دفعتها الى حمل معول الهدم كي تتحرر من كل السلطات القاهرة بما فيها السلطة الأبوية باعتبارها علة "شر الكينونة".


وبما أن وحشة السفر، وغربة المسافر تقتضي الزاد والعدة، فإن كوكبة من الصور تنتظم حول عوالم الطفولة السعيدة. إن الهوة التي ألقيت الذات في مهاويها، ترسخ سيادة الظلمة والعتمة وهيمنة السكون. فالأشياء فيها حزينة، والزمن ذو وجه بشع لا يتبدل، والمدنية غارقة في المرض. إن المياه راكدة، والعفن والوحل يني الجوانب:


... حياتي، سواد وعبودية وانتظار (ص 35).


لذلك تحاول الذات جاهدة الاختراق والنفاذ الى كون مغاير يفزر المسافر مجامله، ويطأ أراضيه البكر.


ومما يرسخ التعارض والسلب، هو أن الملاذ الحميمي الذي تلوذ إليه الذات الغاضبة من عنف الزمن، قد أضحى مهددا، لأن المعشوقة (ليلى) قد هجرته بعد أن كانت تملؤه بؤر إشعاع ونور. ولهذا الفقد تتمزق الأوصال بين لحظتين: لحظة ماضية اكتوت الذات فيها بحرقة الهجر والفراق. ولحظة مستقبلية تحاصر الذات فيها هواجس الخوف والقلق.


- وأنا أرقب البهجة الحبيبة


تغادر أشعاري الى الأبد (ص 37)


عندئذ تنتصب القامة شامخة لتبسط همينتها على الكون وتوقف الزمن. غير أن القدر القاهر يفلق كل ثقب يتسلل منه بصيص صفاء، حيث ينفذ المصير المشؤوم المرعب الى الأعماق والدواخل، مكثفا هيستيريا القلق والخوف، فتوثق الأجساد في مهاوي سحيقة:


- قبورنا معتمة على الرابية (ص: 51)


لأن تجربة الموت، في هذا المقام، سلبية تفني الى الجحيم كما تتبين إيحاءاتها الرمزية الدالة للحصان الجهنمي:


- والموت المعلق في خاصرة الجواد


يلج صدري كنظرة الفتاة المراهقة


كأنين الهواء القارس (ص 52).


ويتسع مشهد الفقد، وفق تمديد متدرج من الإنسان الى الطبيعة: (فقد الأب - سعال الغابات - الأنين التائه بين الصخور - القطيع الميت)، وبما أن الذات تروع خوض غمار مغامرة انبعاثية جديدة، تحول تجربة الموت الى معبر الى حياة أنقى وأطهر، فإن مناجاة مصادر البعث والحياة في الطبيعة: الجبال - الأنهار، تغدو أشد إلحاحا. ويمكن أن نقول، بأن الكون الجديد الذي تفضي إليه تجربة الانفتاح من خلال الفناء، تحيل جسد الذات مصدر إشعاع وبوتقة نور، في موكبها توصل الأشياء والكائنات بما يناقضها ليسفر التركيب عن تطهير وتخليص من القوى الشريرة:


... أسير تحامين جريحتين


والفرح ينبض في مفاصلي


إني أسير على قلب أمة (ص 56).


لقد أصبح العالم المحسوس، بعنفه ورعبه ومشاهده البشعة: (الحياة الكريهة - نواح الأشجار -الجيوش الصفراء) دما يسري في الضلوع، هو مبعث الكآبة المتأصلة والإحساس الرهيب بفداحة الفقد وفي حضرة الغياب والتلاشي، تستسلم الذات لغواية السفر والرحيل لأنها اختارت المرافئ والسفينة، مسكنا وبيتا رمزيا، يكون الموت فيه معبرا لحياة أبدية ترتاد فيها غياهب المجهول، وأنوار الكشف والتجدد، من غير أن تنفصل عن الراهن بصخبه وفورانه. وقد يكون ذلك هو السبب الذي وجه حركة الأفعال: سأبكي... سأرنو... سأرتجف... مشهد مسرحي تحدد فيه حركة الممثل (المندحر) على الركع بدقة فائقة.


إغراء الجنس ولا نهاية التحولات


ترنو الذات الى الآخر: النساء، الطفل، رغبة واشتهاء، فتتوق الى احتضانه بحرارة احتماء من هول الفقد والوحشة، وألم الغربة وليس استحضار ذكريات الطفولة وأحلامها الباذخة، سوى شكلها من أشكال الانسحاب والاحتماء:


فأنا مازلت وحيدا وقاسيا


أنا غريب يا أمي


وفي نشوة العشق تتنامى التحولات، وتتمدد الذات لتشمل الكون، متماهية مع عناصر الطبيعة: الحصاة - تجويف من الوحل الأملس - وردة - صفصافة ومع العناصر الصادرة عن الإنسان:


أغنية طويلة...


ليعقد اللقاء بين الأرض والسماء:


أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة


(ص 26)


غير أن اللقاء لا يلبث أن يستعيد الصفاء الأرضي الذي يقابل الجحيم الراهن ليتشابك المتخيل والمعاش - إن هذا التفاعل هو الذي يوجه طبيعة تحول العناصر ويؤسس فضاءات الأكوان التخييلية التي تسبح في فلك الدمار والخراب، مما يعمق جروح الفقد، ويدفع الى استعادة تفاصيل المعاناة: الجوع - التشرد - الكآبة - الحزن..


ومن هذه الفجوة نخلص الى أن الشاعر يواجه الزمن بالزمن مصعدا الحرقة والمعاناة والبشاعة لكي يكتشف الجوهر الأسمى للإنسان باعتباره البؤرة التي تمد العالم المحيط والبعيد بأشعة النور والضياء، لأن السيرورة التخييلية تأخذ نقطة بدئها من الجسد الأنثوي في مظهره المزدوج: الإيروتيكي والأمومي حيث تختلط النشوة الجنسية والعاطفة الأمومية والتوق الطفولي. إن ملامح: البغي - ماري - الأم، تتحدد بالعلاقة مع بيع الجسد، واستباحة المفاتن، مآل بئيس يثير العواطف المتناقضة: الحب - الكره - الامتناع - الاشتهاء. ثم لا نلبث أن نواجه، وفي حركة التحولات تمديدا وتوسيعا للجسد ليشمل قارة وفق ترسيمة التكبير.


كنت أرى قارة من الصخرة


تشهق بالألم والحرير


والأذرع الهائجة في الشوارع (ص: 29).


ومن خلال التوسيع، تستعيد الذات تفاصيل المأساة السرمدية لأن الخوف والقلق من الزمن، لا عمر له، ومشاهد البشاعة قد تغير أقنعتها، لكنها تبقى هي هي. وما استحضار السيرة المشؤومة، وعرضها أمام الأنظار في مشاهد خليعة، وتغيير أوضاعها: أعلى - أسفل - أمام - خلف.. سوى أنموذج لجسد الزمن البشع. ومن بؤس الذات أنه لباس لها يكبح جماحها ويعوق حركتها. إن الوحول المتراكمة، توقد في الكيان شهب الغضب والنقمة، وتلطخ الكائن والأشياء بالدم، بقع قانية هي عبارة عن منافذ قاتمة تعرض العالم – المصغر، الذي هو الملجأ الحميمي من عنف المحسوس، للسقوط. وفي الوقت ذاته، ترسخ الوصل والفصل بين المحسوس والمتخيل، وبين الحادث والمحتمل:


في البساتين المرحلة.. كنت أنظم الشعر يا ليلى


(ص 49)


وإذا كان البرزخ الذي يصل الغائب بالحاضر قد محى والمعشوقة التي، يذوب من بينها العاشق قطرة قطرة متمادية في تمنعها، فلأن الانغماس في اليومي بصخبه وفورانه، هو شكل من أشكال تفجير السخط، وإزاحة الأقنعة التي تتوارى خلفها الكائنات والأشياء بخستها ولؤمها.


لقد غمرت الظلمة المكان - البيت الحميمي - وأطلقت قوى الشر من مواطنها، فألحقت الدمار والخراب، لذلك غدا قفرا هجرته العصافير، وساده الصمت الرهيب الأشبه بصمت القبور. وهنا تغدو الكتابة شهادة واستشهادا (بتعبير الناقد والشاعر الراحل عبدالله راجع)


أنا طائر من الريف


الكلمة عندي أوزة بيضاء


والأغنية بستان من الفستق الأخضر (ص 68).


ويحسن أن نشير الى أن للنهد والعين حضورا مكثفا، فهما البؤرتان اللتان تستقطبان العوالم اليهما: القارات - الوطن - المدينة - دمشق. والعضوان المضيئان في الجسد، اللذان يذكيان جذوة الاشتهاء والانتشاء، ويبعثان الأحاسيس والمشاعر المتناقضة: السعادة، الغضب –الفتور -الاشتهاء - الظلم - الأنصاف، اليهما يلوذ المشرد المحترق ليحتمي من البشاعة، وفيهما يستحضر الذكريات الهاربة: القرية - الحقول – السرير - ومنهما يتطلع الى السفر العلائي بعد أن بلغ السخط والغضب منتهاه. عندئذ يعاد بعث صورة الإنسان الكامل، الذي يسع الأرض والسماء، يتسامى الى حد التماهي بالنجوم، وينغرس في الأرض ليفجر الينابيع، ويصل الأسفل بالأعلى والأحط بالأسمى والمتعفن بالأنقى والأصفى:


نصفه نجوم


ونصفه الآخر بقايا وأشجار عارية


ذلك الشار المنكفيء على نفسه كخيط من الوحل


(ص: 40)


إنها قدرة سحرية على التماهي والتحول، ترتقي من خلالها الذات مدارج السمو والرفعة فتتحد بالعناصر: المطر - العيون - رائحة الغابات - هدير الأقدام العارية... غير أن لحظات الصفاء هاته لن تدوم لأن المأساة سرمدية، ونشوة الاكتشاف والمغامرة المتصلة:

المصدر: مجلة نزوى

No comments:

Post a Comment