Thursday, October 8, 2009

تامر و الماغوط: صهيل تحت سقف الحياة

شهادة

تنفتح تجربة كل من الشاعر محمد الماغوط، والقاص زكريا تامر على فضاء واحد، تتداخل فيه الأصوات، والضمائر وقيم الوعي الفكري والجمالي، واللغة، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم حتى يبدو الحديث عن تجربة أحدهما استدعاء لتجربة الآخر، مما يجعل كلاً منهما ضمير الآخر وفضاءه، ومرآة وجهه، وان كان الماغوط ينتمي الى حقل الشعر وزكريا الى حقل القصة،
فقد أدخل الماغوط السرد الى بنية القصيدة النثرية، التي انشغلت بأحزان الذات الجريحة المحاصرة والمحرومة التي تنوء بقسوة ضياعها وخوفها وأوجاعها، في حين جاء زكريا الى القصة من أبواب الشعر العريضة محققا تحولاً كبيراً في لغة القصة، وأساليبها الفنية والتعبيرية، والرؤية الى الواقع والإنسان في مرحلة كان الاتجاه الواقعي الصارم يفرض سلطته على الإنتاج الأدبي.
وبذلك شكل الاثنان ثنائية إبداعية جديدة، تمردت على أشكال الكتابة المستقرة، وفتحت أمام الإبداع الأصيل فضاءات واسعة كما أدخلت الى الأدب روحاً جديدة، سنجد آثارها الكبيرة، بعد سنوات عديدة، حاضرة في إبداع الجيل الجديد بامتياز.
تتقاطع التجربتان أولاً في فضاء الحرية، والتمرد على سلطة المنجز الأدبي السائد، والمرجعيات الخارجية التي تحكم حركته، فقد قابل تمرد زكريا على الاتجاه الواقعي، تمرد الماغوط على قصيدتي لتفعيلة والكلاسيكية، عبر انحيازه الى قصيدة النثر، بكثافتها الحسية وعفويتها، وبذلك تتأس التجربتان على عنصري الافتراق عن السائد، والتأسيس لاتجاهات إبداعية جديدة، تعكس حساسية أدبية مختلفة.
لقد جاء هذا التأسيس لقيم الإبداع والتجديد انطلاقاً من الإخلاص للتجربة، وللوعي الجديد، الفكري والفني الذي عبرت عنه بصدق، يرفض تزييف الواقع واغتيال الذات الإنسانية المأزومة، لصالح مقولات تصادر حرية الإبداع وتحوله الى أداة لخدمة رؤيتها وأهدافها، وبذلك أكدت التجربتان حق الذات في التعبير عن هواجسها وخوفها، وضياعها وحرمانها، باعتبار هذه الذات هي منطق وغاية أي مشروع إنساني فكري وإبداعي، وباعتبار انه لا يمكن اغتيال الحرية باسم التبشير بحرية مزعومة،
وهذا ما جعل ضمير المتكلم هو المهمين على خطاب الماغوط الشعري، وكذلك على نتاج زكريا القصصي الأول بالإضافة الى وطأة الشعور بالغربة والمرارة والهزيمة في واقع لا يمنح أبناءه سوى الخوف والخيبة والحزن والصراخ بملء القلب الوحيد والعاري.
إن هذا التحول في مضمونه ودلالاته الفكرية والإبداعية عبَّر عن وعي حقيقي بالحرية كضرورة وشرط وجود وكقيمة أساسية في الحياة مما جعل تجربتهما تمثلان إدانة لواقع لا يهبهما سوى الاختناق والخيبات والبؤس والأسى، الأمر الذي جعل تمردها يمثل الرفض للخضوع لاشتراطات الواقع، وسلطته التي تجعلهما يعيشان في «غرف بملايين الجدران» محاصرين باخفاقاتهما وحرمانهما، وغربتهما الطويلة، وبقوانين الأدب العرفية.
تحت سقف الحياة الواطئ
عاش الأديبان تجربة قاسية، وكانا أشبه بحصانين يصهلان بعذاب موجع تحت سقف الحياة الواطئ، أو في الغرف التي سقفها اوطئ كما يعبر بطل إحدى قصص مجموعة تامر الأولى عن ذلك، وكما يتقاطع معه عنوان ديوان الماغوط الثاني «غرفة بملايين الجدران» وإذا كان تامر يستخدم في أغلب قصص «صهيل الجواد الأبيض» ضمير المتكلم في السرد، فإن الماغوط هو الآخر يستخدم الضمير نفسه في خطابه الشعري، ولذلك فإن شخصيات هذه القصص تندغم في شخصية واحدة،
وان تعددت أشكال تجليها ووقائع تجربتها التي، تظل تعبر عن مناخ واحد، وحالات متماثلة على مستوى تجربتها الاجتماعية والنفسية والوجدانية، وعجزها عن اختراق المكان الخارجي، وإقامة علاقة تواصل حميمة معه ومع الآخرين، الأمر الذي يجعل هذه الشخصيات، تنكفىء في عزلتها على عالمها الداخلي، وأحلامها وكوابيسها التي تحاصرها.
ويشترك الماغوط مع هذه الشخصيات في تعبيره الموجع عن شعوره بالغربة والعزلة والحرمان والضياع، مما يجعل المعجم الشعري عنده يتداخل مع المعجم الأدبي في قصص تامر نظراً لتشابه التجربة وتقاطع الرؤية، واللغة الشعرية في الخطابين.
ان هذا الشعور بالإخفاق والرعب والحرمان والجوع العاطفي والجسدي هو الذي يجعل أبطال تامر المتحدين في صوت واحد، يتقاطعون مع صوت الماغوط في تعبيرهم عن النقمة والسخط والرغبة في الانتقام والثأر من المدينة التي لا تستجيب لحاجاتهم وأحلامهم ورغباتهم، وتغدو الطبيعة، أو الريف هي العالم الأكثر جمالاً وصفاء بالنسبة لهم.
وهكذا فإن بطل قصة «الرجل الزنجي» من مجموعة صهيل الجواد الأبيض يعبر عن هذه النقمة، والعدائية السافرة تجاه المدينة التي (لا تعطي أولادها سوى الجوع والتشرد والكآبة، أنا عدو المدينة المجهول) ص 11.
ويصف الماغوط هذه العلاقة بالصورة نفسها فيقول:

كنا ثلاثة

نخترق المدينة كالسرطان..
نبحث عن جريمة وامرأة تحت نور النجوم. ص 58

ان هذه الرؤية الرومانسية الى الريف، التي يقابلها موقف الإدانة والسخط على المدينة، يقابله في قصص وقصائد الماغوط وتامر تعلق كبير بالمدينة، وارتباط عميق بها، إذ تكتفي شخصيات تامر بالفوضى والتسكع في شوارع المدينة، وعلى أرصفتها، والعزلة والبطالة، وهو ما نجده في قصائد الماغوط الذي يجعل من ذلك قوة تعينه على الرفض، وتحديد خياراته في الحياة:

ما من قوة في العالم

ترغمني على محبة ما لا أحب.

وكراهية ما لا أكره

مادام هناك تبغ وثقاب وشوارع. ص 234.

ويعلن بطل قصة تامر الأولى في مجموعة صهيل الجواد الأبيض «أنا رجل فقير بلا عمل، لا أضحك، لا أبكي، أحب الخمر والغناء والأزقة الضيقة وأحب الشعر والخبز الأبيض والنهود الفتية والمطر» ص 10.
ويقول الماغوط في قصيدة من ديوانه «حزن في ضوء القمر» معبراً عن نفس التجربة والرغبات.

أنا فقير وظمآن

أنا إنسان تبغ وشوارع...

فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى وحرية التلصص من شقوق الأبواب ص 45.

ان قصص تامر تستعير من الشعر لغته ومجازه واستعارته وصوره وهذه الكثافة الوجدانية، والعلاقة الدرامية المتوترة مع العالم، والرؤية الحزينة إليه، في حين تستعير قصائد الماغوط سردية القصص ودرامية المشهد للتعبير عن قسوة الحياة، والذات الجريحة في عالم لا يأبه لأحزانها ومقرها وأوجاعها،
ولذلك ترمز المرأة في كلتا التجربتين الى بشاعة وبؤس العلاقات الإنسانية التي تحكم مجتمع المدينة وعلاقاته الاجتماعية القائمة على بشاعة الاستغلال والظلم ويكاد اسم المرأة ـ البغي الذي يرثي الماغوط حالها، ويسميها «ماري» التي تبيع جسدها من اجل ان تأكل، يصبح نفس الاسم في قصة لتامر «قالت المرأة: «اسمي ماريا.. أترقص»؟» ص 30، بل تتوحد الحالة والمصير فـ «لحم حبيبتي الأبيض كان في الليل يؤكل على مناضد من حديد بارد» ص 10.
وإذا كان الماغوط يستنجد في رسالة شعرية عاجلة بأبيه لكي يأتيه بقطعة قرميد من سقف بيته، وبذكريات طفولته لكي يستعيد الشعور بالألفة والجمال والبساطة في غربة المدينة الغريبة، أو يتوقف الى السفر والرحيل إلى أرصفة المدن الغربية حيث الحرية والتسكع والأمان، فإن أبطال مجموعة تامر الأولى يعبرون عن الحنين نفسه والرغبة، والبحث عن الخلاص، إما من خلال الهرب من المدينة الى الطبيعة لاستعادة تلك العلاقة الحميمية الامومية، وتهديم المعامل وتحويل المدينة الى قرية خضراء ممتدة الى ما لانهاية، أو من خلال الرغبة في السفر، والتنقل الدائم بين المدن البعيدة «البحر وحلم الرحيل والسفر، آه لا شيء في العالم أجمل من البحر والسفر والتنقل الدائم» ص 35.
ان الماغوط الذي يرتطم بقاع المدينة، هو الوجه الآخر لبطل قصة «القبو» عندما تامر، والذي يشعر أن «العالم يجثم فوقي، إني سأظل حتى النهاية في قعر المدينة» ص 29، ولذلك يواجهان هذا العالم بالغضب والتمرد والإدانة تارة، وبالإعلان عن العجز والهزيمة والضياع تارة أخرى.
خارج التأطير.. داخل الحياة انحاز تامر والماغوط الى الإبداع، والإخلاص إلى التجربة والذات في تعبيرها عن نفسها، وتوقها الكبير الى الحرية والخير والجمال في عالم ملوث وحياة غير عادلة، وقد شكلت تجربتا الأديبين فاصلتين مع السياق الإبداعي الذي كانت تحكمه سلطة الإيديولوجية ورؤيتها الخارجية التي تجعل الأدب أداة للتعبير عنها، لهذا ظلت هاتان التجربتان خارج أي تصنيف مدرسي، فالإبداع الأصيل المؤسس لذاته يكسر حدود التأطير، ويرسم الفضاء الخاص به، والمعبر عن هويته الجديدة.
ان الإبداع الحقيقي هو الإبداع الذي يكسر إيقاع السياق الأدبي ويحقق انعطافه مبكرة فيه، وهذا ما جعل النقد الواقعي يستقبل هاتين التجربتين بالاتهام، والإدانة، لأنهما خرجتا على جوقة المنشدين وشكلتا صوتي نشاز فيها لكن ما ان سيمر عقد من الزمن تنضج فيه التجربة، وتتسع آفاق الرؤية حتى تغدو تجربتا تامر والماغوط المحرضتين على التجديد والإبداع بالنسبة لتجارب الجيل الجديد.
من هنا فإن قراءة هاتين التجربتين لا تتحقق، بمعزل عن دراسة القيمة الإبداعية والجمالية التي اشتركتا فيها على مستوى الوعي الفكري والجمالي، والتي منحتهما خصوصية التجربة والوعي والصدق مع الذات في تمثلها لشرطها الاجتماعي والإنساني، والتعبير عن مضمون هذه التجربة بكل القسوة والمرارة والشعور بالخذلان والرعب.
لقد ظل زكريا تامر وفياً لشعرية السرد واللغة حتى مجموعته المعروفة «النمور في اليوم العاشر» لكنه فيما بعد انعطف أكثر نحو بناء عالمه الحكائي، وتوظيف الشخصية والمكان والصراع في القصة للتعبير عن الفكرة التي يريد، مما أدى الى تراجع كبير للغة الشعرية، وان لم نقل الى غيابها تقريباً في أعماله الثلاث الأخيرة في حين ان محمد الماغوط، تحول الى المسرح فترة من الزمن ولم يكتب سوى قصائد قليلة، مقابل كتابته الساخرة في المجلات العربية، وهو ما أدى الى خسارة شاعر هام الماغوط.
بقي ان نشير في النهاية، الى تلك الروح الساخرة، والاشتغال على عنصر المفارقة في التجربتين، إذ شكلت هذه السمة ملمحاً واضحاً عندهما، ويمكن اعتبارها اقرب الى «الكوميديا السوداء» والتهكم اللاذع، الذي يعبر عن رغبة في فضح الواقع وتعريته، وإدانة قيمه، وبذلك كانت التجربتان تذهبان في اتجاه واحد نحو فضاء الحرية والإبداع بصوت عار تكتمل فيه أغنية الحياة الجريحة، وعذابات الروح الوحيدة في مواجهة دنس الحياة وسارقي فرحها.

المصدر: البيان الثقافي
الأحد10 محرم 1423هـ
24مارس 2002 -العدد 115


No comments:

Post a Comment