محمد الماغوط مع التسكع والحزن والخوف
جهاد فاضل
(لبنان)
(لبنان)
ولد محمد الماغوط سنة 1934في مدينة تقع في شمال سوريا اسمها السلمية. وما يتذكره منها هو الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح. وقد هُدمت السلمية، كما يقول، منذ مدة وهي معقل القرامطة والمتنبي. "وقد يكون إحساسي المبكر بالظلم البشري اكتسبته من نشأتي في هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين. وأعتقد أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية وليس في ألمانيا ليخترع نظريته في الصراع الطبقي!!".
ومن أطرف ما يذكره عن أهلها أنهم اقتتلوا عام 1900بسبب دجاجة، وان حصيلة المعركة كانت يومها مئات الجثث.
أما أول صورة يتذكرها في طفولته بالسلمية، فصورة سماء شاحبة وسحب ورمال، "وحين كنت في السابعة من عمري، أطلقتني أمي لأول مرة خارج باحة البيت لأرعى الخراف فيما تبقى من المروج النامية مصادفة بين المخافر. وعند الأصيل عادت الخراف ولكن الراعي لم يعد!!"..
بداياته الأدبية كانت في السجن، وفي الحزب. "معظم الأشياء التي أحبها أو اشتهيها وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق". والمعروف أنه انتمى في شبابه إلى الحزب السوري القومي: "حصل الأمر دون قناعة تُذكر، وربما كان الفقر سبباً في ذلك. فبالنسبة لفتى يافع وفقير مثلي، كنت بحاجة إلى انتماء ما. وكان هناك حزبان يتنافسان في السلمية هما حزب البعث والحزب السوري القومي. وفي طريقي للانتساب إلى أحدهما، اتضح لي أن أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة.
ولأني كنت متجمد الأطراف من البرد، اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقره مدفأة، وصراحة إلى اليوم لم أقرأ صفحتين من مبادئه. ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى لم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلفوني بها بجمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت أعمل في بساتينها.
جمعت التبرعات والاشتراكات واشتريت بها "بنطلوناً" وذلك وجه الضيف".
ولكن الماغوط سُجن بسبب هذا الحزب مرتين. "صحيح إنني لم أسجن طويلاً، ولكني حين سُجنت في المرة الأولى، رأيت الواقع على إيقاع نعل حذاء الشرطي الذي كان يضرب على صدري. أحسست بشيء ما بداخلي ينكسر. ليس الضلوع، بل شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني وأقام معي صداقة لازالت قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري. الآن حين يرنّ جرس الباب، أشعر بالرعب. وحين يرن الهاتف، أتوجس خوفاً".
ويشبه نفسه بالسجين الذي ظل يحفر نفقاً في زنزانته لمدة عشرين عاماً، ثم اكتشف أن النفق الذي حفره، يقوده إلى زنزانة أخرى..
على أن هناك أموراً أخرى ترعبه ككاتب منها الورقة البيضاء، فكأنها إزاءها "أمام سيبيريا من الجليد"..
ومن أطرف ما يرسمه صور لمجلة شعر التي لجأ إليها في شبابه الأدبي، وكذلك لأدونيس والخال والآخرين.
"في لقاءات مجلة شعر التي كانت تتم أغلب الأحيان في بيت يوسف الخال، كنت أسمع الأحاديث عن شعراء وأسماء لا أعرفها مثل عزرا باوند واليوت وسوزان برنار. أنا لا أجيد لغة غير العربية، كنت أصمت خلال الحوارات والنقاشات، وعندما يحضر الطعام آكل.. وفي إحدى المرات قلت: لم نُبق أنا وفؤاد رفقة على شيء في البراد سوى الماركة...
ولم تكن تعنيه في شيء هواجس التجاوز والتخطي. "وكانت مشكلة جماعة مجلة شعر، استغراقهم بتحطيم السفينة، دون أن يفكروا بالغرق المؤكد. قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغميا عليه. بينما قل له وعلى مسافة كيلومتر: جاك برينير، ينتصب ويقفز عدة أمتار من الأرض وكأنه شرب حليب السباع.
ويقول انه لا يجيد التنظير مثل أدونيس، وان جماعة شعر كانوا يكتبون في المطلق، بينما هو حاول أن يسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام. "لكنني بقيت طارئاً مثل ضيف على طرف المائدة، وافترقنا لأنني شاعر أزقة لا شاعر قصور".
ويتحدث في هذه الحوارات عن قصيدة النثر التي يُعتبر أحد بُناتها أو مؤسسيها. عنده أن الشعر نوع من الحيوان البري، وان الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه. "أنا رفضت تدجين الشعر، تركته كما هو حراً، ولذلك يخافه البعض. واعتقد أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية. ثم ان قصيدة النثر مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها. كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي. ليس لديّ خلق لأبحث عن قافية وبيت!!"..
ويجيب عن سؤال حول نظرة جماعة "شعر" إليه: "البعض منهم قال إن محمد الماغوط ظاهرة عرضية سرعان ما ستزول، قالوا أيضاً انه بدوي فلاح، سيغني بضعة مواويل وينتهي أمره. أتذكر أن واحداً منهم قال العكس، ولم أعرف من هو إلى اليوم، لأني كنت جالساً في غرفة أخرى"..
ما يعني الماغوط أن يكتب بصدق في عصر الكذب السابق واللاحق. "واكتب بشجاعة في عصر الذعر السابق واللاحق. ومعركتي ليست وراء مكتب، أو في حلقة نقاد، أو وراء ميكرفون.. معركتي في الحياة. ولا أظن أن كثيراً من أساطين التجاوز والتخطي قد عبروها أو عرفوا شيئاً عنها منذ أن تخلوا عنها. وليس معنى هذا إنني شجاع بالمعنى الشعبي. فكثيراً من القصائد أو الزوايا الصحفية أرسلها إلى النشر من هنا، وأنام تحت السرير وقلبي يدق حتى يلامس بلاط الغرفة، ريثما تُنشر وأعرف ردود فعلها".
ويدلي برأيه في شخصيات أدبية كثيرة:
- مشكلة أدونيس أنه معلم في الشرق، وتلميذ في الغرب. ثم لماذا كل هذا التنظير للقصيدة، وماذا يعني القارئ إن وضعت كلمة أو حرفاً على يسار حرف، أو نقطة على خصر نقطة، إذا كانت السجون والمستشفيات والأرصفة تغص بروادها. أنا لا أحب القصيدة الفكرية، ولا أفهم شعر أدونيس.
- كانت طموحات يوسف الخال أكبر من طاقته، وهو كإنسان أهم من شعره بكثير.
- شعر نزار قباني المنفعل بالأحداث لا يختلف عن أي تصريح رسمي لأي مسؤول حكومي في العالم العربي. وهو في شعره الثوري كأنه ياسر عرفات أو المطران كبوجي. وهو في جلساته الخاصة كأنه بائع على بركات الله في جونية أو الأشرفية.
شاعر كبير بقضايا صغيرة.. واعتقد أن مأساته تتمثل في أنه لا يحب ولا يكره لذلك تبث الأزمات معظم أشعاره. مرة قال لي: أنت أصدقنا!
- محمود درويش شاعر موهوب جداً، لكنه غير صادق!
- كان السياب بسيطاً وصادقاً مثلي. كان يبيع الصدق ولا يشتري إلا الأكاذيب.
- البياتي بنى كل أمجاده الأدبية والسياسية على أساس أن جميع أجهزة الأمن في العالم تطارده، في حين أنه لم يدخل مخفراً في حياته، ولم يعترض طريقه ولو شرطي مرور.
ويصف الماغوط نفسه بأنه رجل ظلمات، رجل ظل. "في حياتي لم أجلس في منتصف الصف، في السينما أو في المسرح، أو على طاولة وسط المقهى. دائماً أنتقي ركناً منعزلاً عن كل شيء وأحدّق في الرصيف لأتأمل الأقدام الحافية، وسيارات الشبح في شارع واحد، كأن أشباح الليل والكوابيس لا تكفينا".
وفي كل حلم حلمه، وجد نفسه حافياً، ويصف نفسه بأنه بدوي يغني في أوركسترا الصحراء. في حين يصفه خليل صويلح، محرر حواراته، بأنه إمبراطور العزلة وأمير التسكع..
جريدة الرياض
03 April 2003.
03 April 2003.
No comments:
Post a Comment