Tuesday, December 28, 2010

الماغوط الذي لا يمشي بين رصفين


مفيد نجم


لم تكن شعرية محمد الماغوط امتدادا لشعرية احد، وعلى الرغم من أنها أثرت في تجارب كثيرين أتوا بعده وحاولوا ان يقتفوا أثره، إلا انه ظل حالة شعرية خاصة تحمل علامات تفردها، وهويتها النابعة من خصوصية التجربة التي عاشها والرؤية التي رسمت فضاءه، والذات الشاعرة التي صاغت لغتها من عذاباتها وحزنها اليومي، وأحلامها المغتالة بين ملايين الجدران، وتحت سقف الحياة الواطئ.
من هنا فقد شكل صدور منتخبات من قصائده في كتاب في جريدة تحت عنوان «حطاب الأشجار العالية» مناسبة للاحتفال بشعرية الماغوط، فأصدرت مؤسسة تشرين كتاب «نسر الدموع» الذي تضمن قراءات في تجربة الشاعر قام بتحريرها خليل صويلح وبعد فترة وجيزة أصدرت دار البلد للنشر كتاباً آخر بعنوان «اغتصاب كان وأخواتها» وضم عدداً من الحوارات السابقة التي كان الماغوط قد أجراها، وقام بتحرير الحوارات
وتصنيفها خليل صويلح أيضا، مما يوفر للقارئ والباحث معاً فرصة التعرف على جوانب تجربة الماغوط المختلفة، والى آرائه ومواقفه التي يبدو ان الماغوط لم يفارقها ولم يتخل عنها في مسيرته الشعرية كما يلاحظ ذلك من خلال إجاباته التي يقدمها في حواراته المختلفة.
ينقسم الكتاب الأول الى قسمين اثنين يتضمن الأول أكثر من عشر مقالات نقدية لمجموعة من النقاد والشعراء العرب، في حين يشتمل القسم الثاني على مجموعة من الشهادات لأدباء وشعراء سوريين وعرب أيضا وتمثل الدراسة التي قدمتها الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح زوجة الشاعر والتي كانت قد كتبتها كمقدمة لأعمال الشاعر الكاملة التي صدرت في منتصف السبعينيات أهم دراسة مكثفة تصف خصوصية الماغوط كشاعر وإنسان وكتجربة قاسية عاشها ظل يناضل فيها من اجل وجود بديل أكثر كرامة وحرية وعدالة.
ولذلك ظل حليفاً للقضايا الخاسرة في واقع لا يحتمل أحلامه وطموحه المؤجل والمخذول.
لقد شكل تفرد الماغوط في ريادته لقصيدة النثر موضوعاً مهماً للنقاد الدكتور صلاح فضل الذي يدرس الرهان الشعري للنثر ممثلاً بتجربة الماغوط الشعرية التي يحلل عناصرها الهيكلية، في حين ان خيري منصور يركز على دراسة الصورة الشعرية التي هي وسيلة التعبير الأساسية في شعر الماغوط الذي يؤكد محمد جمال باروت في دراسته انه أعطى الاعتيادية أفقا شعرياً لم يكن لها من قبل.
ويذهب الشاعر سيف الرحبي في قراءته لتجربة الماغوط الى ان جدية مزاجه الشعري جعلته غير قابل للاندراج ضمن مشروع شعري جماعي، ويرى الناقد خلدون الشمعة ان الشاعر كان رومانتيكيا بمنظار واقعي، إما الشاعر الناقد حاتم الصكر فيركز على موضوع الاندفاع الفطري في مغامرته الشعرية والذي منحه تميزه.
الأديب زكريا تامر صديق الشاعر منذ البداية يصف الماغوط بعد تجربة أكثر من نصف قرن بأنه خبر في هذه التجربة ما على القمة وما في الهاوية، حيث تغدو الحياة مع فقدان الحرية هي الوجه الثاني للموت.
أو هي التي يشرّفها ما تجرع الشاعر من آلام الشعر كما يقول الشاعر نزيه أبو عفش، أو التي نكتشف معها قوة الصدمة وعمق الدلالات التي أحدثتها نصوص الماغوط وفق ما يقوله الشاعر قاسم حداد.
في الكتاب الثاني يتحدث خليل صويلح في مقدمته عن علاقته بالماغوط وكيفية حصوله على أرشيف الشاعر الذي قدمه له من اجل إعادة جمع ونشر هذه الحوارات في كتاب خاص، قام المحرر بفرزها وتجميعها وتصنيفها في سبعة أبواب تغطي مسيرة تجربة الماغوط منذ البدايات وحتى الوقت الراهن، وقد خصص الباب الأول الذي حمل عنوان «مسقط الرأس» الحوارات التي تتحدث عن ولادة الشاعر في الثلاثينيات من القرن الماضي في قرية تقع على حدود الصحراء تسمى السلمية التي كانت ذات يوم معقل القرامطة والمتنبي والتي أثرت كثيراً في تشكيل وعيه الأول وذاكرته الشعرية التي ظل مشدوداً إليها بروحه المقطوعة، وحنينه الحزين الموحش في مدن الوحل والبرد والغربة.
ويذكر الماغوط في حواراته ان أول صورة يتذكرها في طفولته هي صورة السماء الشاحبة والسحب والرمال وهو في الخامسة من عمره يتشبث بحضن أمه التي يصفها بأنها كانت شاعرية في طبعها وتحب الزهور والتي منحته الحس الساخر والصدق والسذاجة.
وتتحدث حوارات الجزء الثاني عن مرحلة دخوله سجن المزة العسكري في مرحلة الخمسينيات بسبب انتمائه للحزب السوري القومي وبحسه الساخر يتحدث الماغوط عن اسباب انتمائه الى هذا الحزب فيقول «وفي طريقي للانتساب الى أحدهما «البعث والقومي السوري» اتضح ان أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقره مدفأة ولأنني كنت متجمد الأطراف من البرد اخترت الثاني دون تردد» ص 37. ومما يذكر ان الماغوط دخل السجن في مرحلة مبكرة من عمره إذ كان عمره آنذاك 19 عاماً.
وبنفس اللغة الساخرة يتحدث الماغوط عن علاقته بمجلة شعر اللبنانية والحداثة في الشعر، لكنه يعترف ان المجلة كانت الخيمة التي آوته والمنبر الصغير الذي ساهم في إيصال صوته الى الآخرين بصدق ودون أي مكر سياسي، كما يقدم آراءه في عدد من شعراء مجلة شعر كأدونيس ويوسف الخال وانسي الحاج بالإضافة الى عدد من الشعراء العرب المعروفين كبدر شاكر السياب والبياتي والقباني وينضح صدق وجرأة الماغوط في تقديم آرائه فيهم بإيجاز وتحديد واضحين.
الفصل الرابع يتناول تجربة هروبه وتخفيه في احد البيوت الواطئة والصغيرة في حي قديم من أحياء دمشق المعروفة، هو حي عين كرش، حيث استوحى من هذه التجربة المريرة والقاسية كتابة عمله المسرحي العصفور الأحدب في عام 1963، والتي كتبها كما يقول في اقل من عشرة أيام، وقد كانت في الأصل مشروع قصيدة، لكنه فيما بعد حولها الى مسرحية.
ويتحدث الماغوط في هذه الحوارات عن علاقته بزوجته سنية صالح التي يؤكد أنها كانت بالنسبة اليه بمثابة ام وحب ومرض، وكان رأيها فيما يكتب هو الأساس، كما يتحدث عن المرأة التي يرى إنها المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها، وحول عزلته التي يعيشها منذ زمن يعلن الماغوط انه لا يحب ان يقابل أحدا فهو يحب الوحدة والصمت وهو إنسان سوداوي وليس له أصدقاء جدد والكتابة هي عالمه الذي يضيع عندما يحاول ان يخرجه منه.
ان شاعر التسكع والأرصفة والتبغ قد أدمن منذ ثلاثين سنة على الاستيقاظ فجراً والذهاب سيراً على القدمين الى مقهى شعبي يدعي «مقهى أبو شفيق» وهناك يقرأ الصحف ويكتب، حيث كتب هناك مسرحياته الأخيرة ضيعة تشرين وغربة وكأسك يا وطن وشقائق النعمان، وسيناريوهات أفلام الحدود والتقرير والمسافر،
وحتى بعض قصائده فنهر بردى الذي تلاشى هو مرآته التي كان يرى فيها نفسه، فهو يشبه الشاعر الصامت العجوز وخلال مسيره الذي يبلغ 5 كيلومترات يضع الماغوط في أذنيه سماعتي الوطن ولا يتكلم مع احد في الطريق، كما لا يجلس مع احد في المقهى الذي بقيت ذكراه في ذاكرة الكثيرين كما هو الحال بالنسبة لنهر بردى الذي كان يمنح المكان جمالية وإيقاعا خاصين.
وعن المدن التي عرفها دمشق وبيروت وباريس يتحدث الماغوط بصدق وشاعرية تفيض بالمودة والحب عن دمشق التي أحبها لأنها استطاعت ان تسكنه في حين كانت بيروت أكثر من ام احتضنته لكنه بعد ان تغيرت المدينة وفقدت معالمها التي ألفها وأحبها، ظل يحن الى وجهها القديم..
وفي الفصل الأخير صورة جانبية في خمسين مرآة هناك فلاشات سريعة وكثيرة حول آراء الماغوط المكثفة جداً في قضايا إنسانية وفي نفسه وفي الواقع والحياة والصدق والمدرسة والحب، وكما تميز شعر الماغوط بـ «كوميدياه السوداء» كذلك تميزت إجاباته التي لا تخلو من سخرية لاذعة وجريئة فالماغوط يذهب في أقواله الى الموضوع مباشرة ومن دون مقدمات ولذلك تكون آراؤه حرة وجريئة وصادقة، كما هو شعره الذي كان بيتاً بلا سقف كما يصفه في إجاباته.




الأحد 25 شوال 1423هـ
29 ديسمبر 2002
العدد 151

No comments:

Post a Comment