Wednesday, August 5, 2009

هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع

هكذا يحشو الماغوط مسدسه بالدموع

ممدوح عدوان عن الشاعر الانفجاري


بمناسبة صدور مختارات شعرية للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط ضمن العدد الأخير من "كتاب الى جريدة" أقامت مؤسسة تشرين السورية حفل تكريم للشاعر بحضور وزير الإعلام عدنان عمران. "الأهرام العربي" تنشر نص الشهادة التي ألقاها الشاعر ممدوح عدوان بهذه المناسبة.


حين أردت أن أكتب هذه الكلمة لتقديم محمد الماغوط لم أحتج الى إعادة قراءته. اكتشفت أنه موجود في ضميري الذي أخاف منه، تسربت كلمات له كانت مروعة من وجداني فذكرتني بحقي الذي منحني إياه منذ طفولتي في الاعتراف بالخوف والذل والكبت.


يم يظهر محمد الماغوط صوتاً في المشهد الشعري العربي في الخمسينيات، بل انفجر فيه قنبلة فراغية، ومنذ أصواته الأولى كان شاعراً فاجراً ومنفجراً.


هذا الرجل الذي لم يهتم بوزن ولا قافية ولا آداب ولا شعائر سياسية، رأى نفسه مشرداً وجائعاً وخائفاً فعرف ببداهة الإنسان الأول أن العالم متآمر عليه، ولذلك فإن مؤامرة أخرى في هذه الدنيا الخادعة لم تكن تصلح لإلهائه عن مجابهة تلك المؤامرة الكونية.


ولأنه لا يخجل من دموعه ومن هزائمه ومن الاعتراف بإذلال العالم له، فقد علمنا أن الاعتراف بهذا الذل هو النصر الوحيد الذي بقي لأناس مثلنا في عالم مثل هذا العالم.


ولذلك لم أحس يوماً أنني أقرأ الماغوط، بل كنت أشعر دائماً أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح الذي لا يقيم اعتباراً لشيء. وكلما كنت أقرأ الماغوط كنت أحس أن هذا الرجل يتغلغل الى أعماق روحي ليجبرني على الاعتراف بالوضاعة التي أوصلني إليها هذا العالم الذي أعيش فيه.


هو ذا شخص وحيد في الدنيا يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع. وينتهي الى أن يأكل النساء بالملاعق، ولا يرى فرصة للعنان إلا أن يضع ملاءة على شارة مرور ليناديها: يا أمي، ويأمر الغيوم بالانصراف لأن أرصفة الوطن لم تعد لائقة حتى بالوحول.


وفيما نحن نرى التبجج بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب ضعفنا وأمام الانتصارات الإعلامية الخلبية، يعلمنا أن نعتز بهزائمنا، وأما المراحل الوهمية يعلمنا أننا في حاجة الى البكاء، وأمام الانتماءات الضيقة يعلمنا أننا نملك الحق في أن نطالب أوطاننا بأن تعيد لنا الأغاني والدروع وكل فاصلة في أناشيد حبنا لهذه الأوطان قبل أن تطردنا من جحيمها.


ذات يوم كتب صديقي الشاعر علي كنعان: "سيكفي جبهة التاريخ من أمجادنا أن هُزمنا"، وأقول اليوم باعتزاز: سيكفي "حماسة" العرب الشعرية المعاصرة أن تحتويى على تلك الهزائم الوجدانية التي اعترف بها محمد الماغوط والتي تبدأ من هزائم الجبهات الى عزائم الروح، ومن خسارة الأرض الى خسارة الكرامة، ومن الفجيعة بالحكام الى الفجيعة بالأهل، ومن الحاجة الى اللقمة الى الحاجة للدفء، ومن الحاجة اليتيمة للأم الى الحاجة الشيقة للمرأة التي نتفرز بين نهديها كالصئبان. لقد هجا محمد الماغوط وطنه وهو يمزق ملابسه كأية أرملة، أو أن ثاكلة مفجوعة وأعلن عن رغبته في خيانة وطنه. ولكنني كنت أفهم المجاز الذي يشويه غضبه على ناره الهادئة، ولم أصدق يوماً إلا وصفه للرجل المائل الذي يقصد به نفسه، والذي يتشرد متأبطاً كتبه ووطنه.


محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها.


إذا قرأ محمد الماغوط شعراً، أو إذا تورطتم باقتناء ديوان له، فانزلوا الى الملاجئ الأخلاقية التي تعودتموها، البسوا الكمامات الواقية من الصدق الجارح وتسلحوا بالمكيفات الإعلامية التي تعودتم على تهدئتها وتخديرها.


ولكنني أقول لكم إنها لن تنفعكم، ما من ملجأ يحميكم من هذا الاعتراف الشعري الجامع بأوبئتكم، طالما أنكم قد تورطتم بسماعه أو قراءته.


وأرجو أن أحذركم الى أنكم قد ترونه الآن رجلاً ضعيفاً يستند عكاز، هذا ليس رجلاً تقدم به العمر، بل هو رجل تقادمت فيه الهموم والأحزان والفجائع وتخمرت في أعماقه الدموع الحبيسة، وتعتقت في روحه الآهات التي لم يسمعها أحد.


وأحذركم أيضاً أن القنبلة التي يبدو غلافها صدئاً هي انفجاراته بالمقدار الذي كانت عليه دائماً.


وهو أيضاً تلك المرأة التي أهملناها قليلاً، ويكفي أن نفتح آذاننا وضمائرنا ليتساقط عنها الغبار ونرى أنفسنا فيها على حقيقتها.


لقد استطاع محمد الماغوط أن يحرجنا ويجرحنا بشعره لأنه ظل قادراً على الاحتفاظ بالطفل المقهور الذي كأنه، طفل لا يندهش من الجمال ويفرح به فقط، بل يشمئز من القبح ويبكي من الظلم.


لقد صرخ منذ البداية: ألا ترون كم هو العالم فظيع وعفن ونتن كم هو غير لائق بمعيشة البشر؟ كم يثير من القهر والغضب والبكاء؟


احتقان كهذا لا يعرف كيف يقلم أظافره ليليق بأجواء الشرف العربي، ولا كيف يلبس الياقة والقفاز ليصلح لصالونات الأناقة الثقافية، فانفلت في الأجواء الأدبية حافياً مشعثاً رثاً كما لو أنه ما يزال يلعب في وحل الحارة، ولم يهتم لملابسه المتسخة وقدميه الموحلتين، لم يهتم من نفور أبناء الصالونات أو الداعين أو استتباب الأمن في استعراضات الأناقة الفعلية والبروتوكوليا: ببساطة قال لهم: لم أجلب الوحل من بيت أبي، ولم أتسخ في حضن أمي، ولم يكن البكاء هوايتي، ولا الجوع رياضة أمارسها.


عالمكم وسخ وموحل ولعين وموحش، ولست معنياً بتنظيف نفسي أو حتى أسناني لكي أساعدكم على التهرب من مسؤولياتكم عن وسخ عالمكم.


معاناة اليتم والغربة والجوع والتشرد والكبت، وحب الوطن والنساء والحرية والتسكع والتدخين والشراء، والمجاهرة بالرأي في الكتابة وتعرية العالم الذي يحيط به كل صباح. . هذه هي حدود ملكوت محمد الماغوط وهي حدود عذاباته ذاتها.


لم يكتب من قارءته أو تأملاته بل كتب من زعيق بطنه الخاوية وارتجاف أعصابه الخائفة.


وهكذا راح يكتب دون أن يهتم بتسمية ما يكتبه، حتى أنه ذات يوم خاف من أن يكون الذين يسمون كتابته شعراً يقصدون السخرية منه والضحك عليه، فشتمهم في مجلة أدبية رائجة، ولكنه استمر ------ أظافره المتسخة على الحيطان ويكتب بهذه الأظافر، فيثير الصرير والغبار لترتجف منه العظام وترمد العيون.


وليصبح واحداً من أهم الشعراء العرب، شعر؟ فليكن، يقول الماغوط، ابحثوا أنتم إذاً عن قوانين لما أكتب ولا تطبقوا على قوانين كتابتكم.


إن صدور مجموعته الكاملة، أو صدور هذه المختارات في "كتاب في جريدة" حدث مهيب، وإرهاق سادي إذ من سيطيق أن يغامر بقراءة عذابات عمر الماغوط كلها دفعة واحدة؟ كم تستغرق منك قراءة المجموعة ؟ يوماً؟ شهراً؟ سنة؟ تصور أنك ستتحمل في مدة قصيرة كهذه عذابات رجل كان يتألم عن أمة كاملة وطوال جيل كامل، وقد ظلت روحه تئن تحت هذه العذابات طوال هذا العمر المرير. . حتى نخخت قلبه وجسده.


ونحن إذ نختار أن نقرأ شعره فإننا نجيء الى مخبر التحليل بأنفسنا، والشاعر المخبري المحلل سيقدم لنا تقريره ليقول لنا إننا مصابون بفقدان المناعة الأخلاقية والوجدانية والسياسية والوطنية، وإننا مصابون بالشلل الوطني وبسرطان الجبن والتخلي والتخاذل.


اقرأ دفعة واحدة إذا رغبت، ولكن احذر القرحة . . والرقابة فهذا من الشعر النادر الذي يحمل قارئه مسؤولية القراءة بمقدار ما حملها كاتبها حين كتب.


ولكن الماغوط، ولأنه مؤدب بآداب الشعر المتصعلك العظيم المقهور الرجيم المضمخ بالنزيف، سيوهمنا أنه لا يتكلم إلا عن نفسه وعن آلامه.


ولكن دققوا قليلاً، وستكتشفون أنه يحكي عنا جميعاً. . .

عن الأهرام العربي- الأحد 1 كانون الأول 2002

No comments:

Post a Comment