Tuesday, December 28, 2010

قصيدة النَّثر من الماغوط إلى القصيدة الشّفوية

محمد علاء الدين عبد المولى



يمكننا بكثيرٍ من الثِّقة والاطمئنان، أن نزعم أن كتابات محمد الماغوط شكَّلت وما زالت، تحدّياً لكثير من (شعراء) قصيدة النثر. والمفارقة أنَّ الماغوط الذي كان يكتب ما يكتبُهُ على أنه (خواطر) لا (قصائد)، (ونحن من المفترض أن نكون على إطلاع على كيفية إطلاق صفة الشعر على كتاباته)، قد حقَّق فرادةً في قضايا "قصيدة النثر" دون أن يدري أو يقصد إلى ذلك في البداية، فرادة ما زالت نصوص كتّاب النثر عاجزةً عن مطاولتها. ويقول محمد جمال باروت بصدد خصوصيّة الماغوط في كتاب (الشعر يكتب اسمه ـ اتحاد الكتاب ـ 1981)، ما يلي: ((لقد استطاع الماغوط بقدرة إبداعية نادرة أن يترجم هذه المشاعر ـ يقصد باروت المشاعر اليوميّة ـ وهذه الحياة فنّيّاً وأن ينقلها من حقل الكلام اليوميّ المتكرر والمستهلك، إلى حقل الكلام الشعري الخصوصي والمتفرّد في مساحة غنائية، مظلّلة بخلفيّة رومنتيكية (نهلستيّة). لقد حقق الماغوط التّوافق الخلاّق مابين التّقنية والتّجربة الداخلية (المضمون). فالتّقنية تستمدّ ملامحها من حقل الكلام اليوميّ، وهذا ما يفسر الألفة والدّفء في جملة الماغوط الشعرية)) (1).‏
ونضيف على هذا، أن الماغوط لم يكن يعلم أنه يحقّق هذا التوافق بين التقنيّة والتجربة الداخلية، ولم يكن دارياً بكل هذه التّقنية. وهنا تكمن أهميته في هذه اللحظة العفويّة الوحشيّة النَّابعة أساساً من طبيعة تعامله مع الحياة والكتابة، وهي طبيعةٌ مليئةٌ بالفطرة، لهذا لا نتَّفق مع باروت الذي يكتشف في الماغوط ((إنتاجاً فنيَّاً لمشاعر المثقفين البرجوازيين الصّغار في الحياة المدينية المعاصرة)) (2).‏
إذ لا يمكننا دائماً إلصاق مصطلحاتنا نحن بتجارب بريئة، ونحملها فوق طاقتها من أجل أن تستقيم معنا الأطروحة النَّقدية.‏
ومع إدراكنا لأهمية قراءة أي تجربة إبداعية في علاقاتها بسياقها الاجتماعيّ والفكريّ، نرى أنَّ هناك مبالغةً من صناعتنا نحن، تتعلّق بهذه التَّجربة أو تلك.... وقد تصل المبالغة أحياناً درجة يصبحُ معها النَّصُ معزولاً عن سياقه تماماً، ومحمَّلاً بسياق النَّاقد وحده.( ولاسيَّما إذا استحضرنا من الذاكرة الطَّريقة التي انتسب بها الماغوط إلى تيّار سياسيٍّ دون سواه....).‏
وقد يكون من حقّ أجيال كتّاب (النَّثر) بعد الماغوط، أن يبالغوا في كونه رائداً من رواد أسلوبهم، وأباً إبداعيّاً ارتسمت خطاهم على إيقاع تجربتهِ، وذلك من أجل أن يخلقوا مرتكزاً واقعيّاً يلقون عليه أحمالهم، ويتلمّسوا من خلاله مشروعيّة ما لتجاربهم، فذلك يروق للأبناء عندما يبجّلون الآباء. هذا من ناحيةٍ، ولكن من ناحية أخرى، مارس هؤلاء خيانةً لرائدهم، وقاموا بما يشبه (الاحتيال) على مقامه. ولا أجد أنَّ ما قاموا به، يدخل في علاقة الأبناء بأبيهم الرمزيّ، ورغبتهم بـ((قتل الأب)) لإبراز شخصياتهم بمعزلٍ عن وجوده، أقول إن خروجهم على الماغوط في عمقه لم يكن قتلاً رمزيّاً للأب، بل كان نيَّةً حقّقوها، في كتابة نصوصٍ هابطةٍ ورديئةٍ وتصل درجة واقعيّتها حدَّ الابتذال، ولاسيِّما في مرحلة منتصف السبعينات وصولاً إلى الثمانينات. وأرادوا تبرير نصوصهم بأنها خروج على هيمنة الماغوط واختلاف عنه. وأعتقد أن هؤلاء في أعماقهم لا يقيمون وزناً للماغوط، لكنهم جعلوه (شمَّاعةً) يسوّقون مواهبهم المتدنّية بتعليقها على هذه الشَّماعة. ونحن نعتقد بأن الماغوط ـ على عفويِّته وبراءة طينته الداخلية وطبيعيِّة كتابته ـ لا يريد أن يحدث ما حدث باسم الانتماء إليه، وهو ليس مع الإساءة للشعر استناداً إلى ريادته، ولكن كم من الظواهر الشَّبيهة بالماغوط في حياتنا اليوميَّة على أي صعيد نختاره؟ ألا نتعمَّد دائماً اختراع متاريس سياسية ودينيَّة وإبداعية نحتمي بها وننّظمُ علاقاتنا مع الحياة بناءً على وجود هذه المتاريس؟ في حين أنها بريئة ممّا نصنع في حقّها.‏
علينا إعادة قراءة الماغوط لا بأهدافٍ سيكولوجيّة تخصُّ حاجتنا للاحتماء بأبٍ شرعيٍّ ننقلبُ عليه، أو باختراع هذه الأبوّة لنبرّر الخروج عليها، فنكون بذلك خرجنا على أبوّة مصطنعة هي نفسها لا تدري بأنها ارتفعت إلى مصافّ الآباء. علينا أن نضع أهمية الماغوط في موضعها الطبيعي دون أوهام وادّعاءات. دون أن نرى فيه ما ليس فيه، ودون إسقاط عضلاتنا التَّحليلية، وموسوعة مصطلحاتنا البنيويّة على كتابته، فنكون كمن يكيّف النَّصَّ وفق هذه العضلات والمصطلحات، في الوقت الذي علينا فيه تقريب آليّات نقدنا من النَّصَّ ونختار من أدواتنا ما يساعد في إعطاء الحجم الطبيعي للمبدع.‏
وربّما كان مفيداً هنا الاستعانة بمثالٍ واقعيٍّ على مدى مبالغة النَّقد في تعامله مع لغة الماغوط وتحميلها فوق طاقتها. يقول (يوسف حامد جابر) في كتابه (قضايا الإبداع في قصيدة النثر).‏
تعليقاً، أو تحليلاً، للنصّ التالي للماغوط:‏

(فأنا أسهر كثيراً يا أبي‏
أنا لا أنام‏
حياتي سواد وعبوديّة وانتظار‏
فأعطني طفولتي‏
وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز‏
وصندلي المعلّق في عريشة العنب‏
لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري)
(يتحدَّد البناء اللّغوي في هذا النصّ من كون مفرداته الأساسية منتزعةً من عالمين متغايرين: عالم الطفولة، ويشكّل حركة ارتداد نحو الماضي. حيث الحياة تسير بتلقائية "الحرّ" الذي لا حواجز أمام حريته. وحركة الارتداد هذه، الغاية منها استحضار العالم الذي تشكلت فيه وقامت على أساسه).(3).‏
ثم يبحث الناقد (عن هذه النكهة في البنية العامّة المكوّنة للنصّ، محاولين أيضاً، الإمساك بالدلالات المرافقة لها، والتي لا تخرج عن طبيعة كونها ألصق بحركيّة الواقع اليوميّ).‏
ثم يذهب في تحليل هذه البنية اللغوية المكوّنة للنص بأن يجد في جملة (فأنا أسهر كثيراً يا أبي)، (ثلاثة ضمائر تعود جميعها للشاعر الذي وضعها في سياق خبريّ)، يريد أن ينقل إلينا، عن طريقه، حالةً ما يعيشها، هي حالة "السهر" والسهر فعل يومي يمارسه الناس بمختلف فئاتهم ويحمل طابعاً اجتماعياً.... الخ) (4).‏
ويخرج النَّاقد من تحليله للبنية اللغوية هنا بأنه لا يعرف السَّببَ الحقيقي للسهر. ومن أجل أن يعرف ويقف على حقيقة السهر ينتقل ليحلّل الجملة الثانية (أنا لا أنام) فيكتب عنها ثمانية أسطر، يتخلّلها تساؤلٌ حول السَّبب الخفيّ القابع وراء عدم النوم، هل (بسبب مرض يمنعني من النوم، مضايقات، طبيعة العمل في الليل.... الخ).(5). ثم يخرج كذلك دون أن يكتشف لغز هذا السهر. إلى أن يصل بعد صفحة كاملة من تحليلاته لخمس كلمات، إلى الكنز المفقود، وهو سبب عدم النّوم، وهذا السَّهر.... فحين يقرأ للشاعر ((حياتي سواد وعبودية وانتظار)).. يكتشف أن وراء السهر ((قضية هامة تتعلّق بمسألة حرية الإنسان وما يتفرّع عنها)). ويقول عن كلمة (انتظار)، ((ربما كانت كلمة "انتظار" أشمل من حيث انفتاحها على حالات تعمل على تأكيد وضع الشاعر العام، بما يتفرع عنها من آمال مرتجاة وقلق، من اضطراب ووهن ويأس...)) (6)
أتساءل: هل بربّكم يحتاج هذا المقطع العاديّ وإن كان شفَّافاً ومثيراً للألم، كلَّ هذا الاستنفار العالي لأجهزة النقد ومصطلحاته؟ ألا يثير السُّخرية أن ينشغل الناقد هو ومنظومته النقدية وبنيته اللغوية، بما يراه قضيةً هامةً تقف وراء عدم نوم المؤلف في النصّ؟ ثم ما هذه السذاجة والاستخفاف بعقولنا، وهو يصنع احتمالاً لسبب عدم نومه وسهره، هل السبب هو المرض، أم المضايقات، أم طبيعة العمل في الليل (يعني هل تعرَّض مؤلف النّصّ لإزعاج (7)جاره، أو تشاجر مع جابي المياه، أو ربما كان يعمل حارساً ليليّاً).... هل يحتاج النص إلى كل هذا؟.. ثم ما هذا الغموض الإبداعي لكلمة لا أنام؟... يعني لماذا لا ينام المبدع؟ ولماذا يصاب بالأرق ويضطّر للسّهر؟ هل في هذا أسباب علينا أن نحشد طاقاتنا النقدية والبنيويّة لمعرفتها؟ وفجأة يعرف الناقد سبب السهر: إنه السواد والعبوديّة والانتظار... حقَّاً إن المؤلف يأرق لهذا السَّبب، وهو يقوله لنا بعد خمس كلمات، فلماذا لا نتعامل مع النَّصّ كبنية لغويّةٍ مكتملة، تتمّ فيها قراءة مستويات النَّصّ جميعها برؤيا شاملة، حتى نحقّق التّواصل الكليّ مع لغة النصّ؟.. وما الذي يعنيه المبدع عندما يستخدم في نصّ كهذا كلمة الانتظار؟...‏
هل سينتظرُ قطّة الجيران آخر الليل ليتسلّى معها؟ هل ينتظر بائع الحليب؟.. لو كان الماغوط استخدم كلمات ذات أبعاد متنوّعة معقّدة، أو تحمل تاريخاً ميثولوجيّاً أو دينيّاً، أو أدخل الكلمات في علاقات سوريالية غامضة، لكان الأمر على درجة من الخطورة بحيث تستحقّ هذه الكلمات التحليل والتَّركيب، معتمدين على معرفة نادرة بدلالة المفردات وإيحاءاتها المحتملة. ولكنْ ليس الأمرُ على هذا النّحو دائماً من الغنى الدَّلالي، وليست كلماتنا في النّصوص قادرة دائماً على أن تكون مشحونة، بما لا ينتهي من المعاني، أو معنى المعنى.... ولاسيما أن الماغوط هنا يتعامل مع مفرداته ببساطة متناهيةٍ وشفافية الطِّفل الطبيعي.... فلماذا لا نقبل من الماغوط أن يكون هكذا، ونستدرج نصوصه دائماً إلى مخابرنا (أو مخابزنا) البنيويّة؟ وكأن الماغوط لا يكون مهمّاً إلاَّ إذا عقّدنا نصوصه، وهي على درجةٍ راقيةٍ من التّدفّق والحيويّة، يبدو أن أبناء الماغوط (المزعومين) ليسوا أهلاً لاكتشاف هذا التّدفّق والحيويّة، والتّمتّع بلغتِهِ الحارّة الدَّافئة، وليسوا قادرين على التّعامل مع نصوصه إلاَّ وهم معقّدون مأزومون.‏
إن المثل النَّقدي السّابق واحدٌ من عديد الأمثلة، التي تهيمن على حساسية كتّاب (النثر) وهم يدّعون خروجهم من معطف (أو قبّعة) الماغوط.‏
أمّا الماغوط، فله رأيه في آراء النقّاد... وهو رأي طريفٌ، وصادق حقّاً. فقد سئل عن رأيه فيما يقوله النقّاد عن فرادة صوته وتميّز صوره.... فقال: ((أنا شخصيّاً أعجز عن تفسير أو تبرير ما يقوله النقاد، لا أستطيع أن أنِّظرَ للشعر، فأنا أكتبُ الشعر... وهذه مشكلة مزمنة)). ((أشعر أنَّ عالمي الخفيّ هو الارتباك والتّرّدد والرّيبة، هذه الحيطة أو الخجل أو الارتباك... ارتباك الشاعر المسحوق غير المعترف به في البدايات جعلتني أتّخذُ نمطاً معيّناً أو سلوكاً وحشيّاً من العالم))... ولنتذكر ما قلناه آنفاً عن ((العفويّة والوحشيّة)) لدى الماغوط... يتابع: ((ما يقوله النقّاد عن الفرادة والتّفرّد، فهذا لا أستطيع أن أؤيّده، أو أرفضه، ولكنني أعتقد أنني ـ ولا أزال ـ لستُ أكثرهم موهبةً أو شاعريّةً ـ كما يقول الكثيرون ـ ولكن ربّما كنتُ أكثرهم صدقاً، أو شجاعة في قول ما أقول... طوال حياتي أكتب لنفسي، لا أكتبُ لجمهور أو لقارئ أو لجريدة أو لناقد أو لشهرة حتى الآن))..‏
إن الماغوط يصرّ على نصاعته ووحشيَّته وبراءته، ويريد الآخرون الاحتيال عليه لاستثماره وتوظيفه في مشاريعهم الخائبة. فهل امتلك هؤلاء نظرتَهُ الصّافية للحياة، وعلاقتَهُ العارية الخالية من أي زيف وادّعاء؟... هل استطاعت نصوصهم أن تتعلَّم منه ـ وهو رائدهم وأبوهم كما يزعمون ـ كيف يتحوّل الواقع عنده إلى شيء مثيرٍ للدّهشة بموهبته العميقة على الْتقاط عناصر الحياة المتناقضة، وكيف يأخذ هذا الواقعُ المعروف والباعث على السّأم، إلى واقعٍ معجونٍ بنيران الإنسان وأعصابه وقلقه وتوتّره؟...‏
إن البعض وبنيّة محبّته للماغوط، مارس على كتابته تشريحاً تحكمُهُ المغالاة. وهي محبّةٌ ضربتْ حجاباً بين هؤلاء وبين الماغوط. وإذا كان هذا مسوِّغاً على المستوى الشّعبيّ الجماهيريّ، فإنه مرفوض على المستوى الشعري والنّقديّ. لقد قتلوه بحبّهم، وقيّدوا تجربتَهُ بنرجسيّتهم، حين لم يكن هو يأبه لكل ذلك.‏
وقد نُتَّهمُ بعكس ذلك، ولكن نقول: لنا حبُّنا للماغوط كذلك، ولكننا لا نتخيّل (ماغوطاً) في أذهاننا نُسقط عليه مشاعرنا، بل نتناول شخصيته الواقعيّة بإنتاجها الأدبي المثير، دون كثيرٍ من الأوهام. لأن المبالغة في علاقتنا بأي موضوع تنقلب عماءً ولا نعود نبصر جماليات الموضوع لأننا رضينا أن نتعامل لا معه، بل مع الإضافات التي ألصقناها نحن عليه. وهذا وضعٌ مرضيّ باختصار.‏
أمَّا الماغوط والقصيدة ((الشَّفويَّة). فهذا شأنٌ آخر من شؤون (قصيدة النثر)، ونقّادها. فما هي هذه (الشفوية)؟‏
سأعتمد هنا على محدّدات هذه القصيدة كما وردت في كتاب (الشعر يكتب اسمه) لمحمد جمال باروت المذكور آنفاً. فهذه القصيدة هي اتجاه جديد في الشعر السوري (في فرع قصيدة النثر في السبعينيات).‏
وهي قصيدة ((تطرح تساؤلات الإنسان في المدينة العربية المعاصرة، حيث تلتقط توتّر الحياة اليوميّة، وشرائحها، وصيرورتها ولحظاتها الإنسانية المستمرّة.....)).(8). وهي القصيدة التي وطَّد حضورها الشاعر الفرنسي (جاك بريفير). وهي مبنيَّةٌ ((على شحن الكلمة اليومية العادية، بطاقةٍ شعريّة، وبكلمة أدقّ بتوتّر شعريّ. لذلك عندما تفتقدُ هذه الطَّاقة، أو التّوتّر فإنَّ القصيدة تتحوّل من كلام شعري إلى كلام نثري. ومن هنا كثر وقوع بعض نماذج هذه القصيدة في وظائف النثر الثلاث (الإخبار، الوصف، التقرير).)).(9).‏
وتحديد باروت للقصيدة الشّفويّة يتمّ في سياق مقارنته تجارب أجيال (قصيدة النثر) من الماغوط إلى نزيه أبو عفش ومنذر المصري وعادل محمود، فهؤلاء جميعاً كرّسوا اتجاه القصيدة الشفويّة المحدّدة أعلاه....‏
دون سابق تنظيرٍ ولا فلسفةٍ للمفاهيم، نطرح هذه التّساؤلات على القصيدة الشّفوية: هل طرحُ تساؤلات الإنسان في المدينة العربيّة، هو شأن خاصّ تمتاز به قصيدة النثر الشفوية؟ ماذا كانت تفعل قصائد كلّ من (السيَّاب ـ وحجازي وعبد الصّبور ـ ونزار قباني ـ وخليل حاوي.... وغيرهم).‏
إذاً؟ لقد شكلت المدينة للشعر الحديث فضاءً جديداً، أكان الشاعر ريفيَّ المنشأ أو مدنيّاً. وذلك عندما اتّسعت رؤى الشاعر وانفتحت إمكاناتُ شعره على العصر الحديث، بما فيه من إملاءات جديدةٍ، ومفاهيم وتصوّرات كان من الطبيعي أن تؤثّر في إحساس الشاعر وعلاقته مع الحياة. فالمعاصرة والحداثة ليسا مفهومين نظريَّين بمعزلٍ عن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ممّا يعني ضرورة اصطدام الإنسان بفضاء المدينة التي تبدأ الحداثة منها. فكيف يمكن للشاعر القادم من الرّيف أن يتوازن داخليّاً وثقافيّاً أمام تجربة جديدة تقتضي منه ما يشبه الانقلاب في المفاهيم والذّائقة والمرجعيّات... كذلك تعرّض المدنيُّ الخارج من مدينةٍ صغيرةٍ ((لا تعرفُ الذَّرّة، طيّبة حرّة))، كما يعبّر عبد الباسط الصوفي، الشاعر الذي انتحر في الثلاثين من عمره، دافعاً ضريبة وعيهِ الممزّق بالمدينة والغربة التي تطحن الروح.... أقول تعرّض هذا المدنيّ الخارج من هذه المدينة إلى مفهوم جديدة للمدينة تؤطّره الصّناعة والمؤسَّسة والفراغ... كل ذلك كان حقلاً خصباً للشعر الحديث قبل ولادة سيدتنا (القصيدة الشفويّة) على أيدي شعراء النثر.‏

مع أن (السياب وحاوي وقباني وبعدهم مصطفى خضر وغيرهم)، لم يكونوا (شفويّين). وهم عبّروا عن أزمة الإنسان المعاصر في توتّره، والتقطوا ((توتّر الحياة اليوميّة، وشرائحها)). وعلاقة كلٍّ من هؤلاء بالمدينة تحتاج إلى دراسة مستقلّة مستفيضةٍ، ولكن شعرهم هو دليلُنا على ما نزعمه من أنهم كانوا نتاج الصراع النفسي والفكري والوجودي والحياتيّ مع المدينة بمظاهرها، وانحلالها، وعلاقاتها وفراغها وقيمها الاستهلاكيّة... ومنهم من كان متحدّراً من أصول فقيرة، أو شرائح بورجوازية صغيرة، أو ثريّة...‏
ما الامتياز في هذا الموضوع إذاً، الذي تدّعيه (القصيدة الشفوية)؟... إلاّ إذا رغب الناقد باروت بأن يسحب كل هؤلاء إلى مصطلحه ليشملهم برعايته، وما أظنه فاعلاً، ففي ذلك إطاحة النظرية من أساسها....‏
والطّريف في الأمر، أن باروت يربط (الشفوية) بمرجعيتها الفرنسيَّة، (جاك بريفير)، وهكذا فعل الشعراء الذين أتينا على ذكرهم آنفاً، حيث تفيدنا الدراسات النقدية حول الحداثة الأولى وما قبلها، بأن الشعراء كانوا يتأثرون بثقافتهم الأوروبيّة، إنكليزية وفرنسية، وهم يعبّرون عن قلقهم وأزمتهم في المدينة. وتطالعنا هنا ترجمات الوجوديّين مثلاً، وترجمات (إليوت) المعروف بتمثّله العميق لأزمة الإنسان الحديث في المدينة، وقد أثّرت أفكاره كما يقال في عديد من شعرائنا (ولنا تحفّظاتٌ على تأثير إليوت، ليس هنا مكان البحث فيها)....‏
بقي إذاً من امتيازات (الشفوية) أنها قصيدة قائمة على شحن الكلمة اليومية العاديّة بطاقةٍ شعرية، بتوتّر شعريّ....‏
هل لنا أن نتفحَّصَ مفهوم الكلمة اليومية العاديّة؟.. هل يعني هذا قيام كلمات غير يوميّة وغير عادية تقابل أو تناقضُ تلك اليومية والعادية؟... تنبئنا نصوص الشّعر بصورة عامّة أن جميع الشعراء يستخدمون جميع المفردات، سواء أكان الماغوط أم علي الجندي أم سواهما. ولنستعرض على سبيل المثال مفردات من الماغوط يمكن أن يستخدمها سواه، وهي كما سوف يتبيّن ليست مفردات يومية، ومع ذلك فهي مشحونة بطاقة شعرية، وتوتّر شعري... يقول الماغوط في مواضع مختلفة من أعماله الكاملة (اسمع وجيب لحمك العاري/ عشرون عاماً ونحن ندقّ أبوابك الصّلدة).(10).‏

(لي ضفيرة في مؤخّرة الرأس/ وأقراط لامعةٌ في أذنيَّ/ أعدو وراء القوافل/ وأسرج الجياد في الليالي الممطرة).(11).‏
(هذه شهوتي/ سأبعثرها بقدميّ/ وأتصرّف بفيضها/ كما يتصرّف المنتصر بأسلابه وأسراه).(12)....‏
نحن نؤكد هنا على مفردات (وجيب ـ الصّلدة ـ أقراط ـ أعدو ـ القوافل ـ أسرج ـ فيضها ـ أسلابه....). ألا يمكن أن يستخدم المفردات نفسها ـ شاعر مثل (الجواهريّ)؟ بل لو كان المجال هو للنّكاية لأتينا بأبيات له في كل بيتٍ مفردة من هذه المفردات. لكن هذه المفردات دخلت في نسيجٍ خاصّ، استُعملت استعمالاً خاصّاً بالماغوط، كما أن الجواهري استعملها استعماله الخاصّ به، ولدى الماغوط شحنت هذه المفردات (غير اليومية) بطاقةٍ شعرية، كما قد يشحن الجواهري مفرداته بطاقة شعرية.‏
(وأنا أتعمّد المقابلة مع الجواهري لأبيّن أنّ المفردات لا تصنع امتيازاً للقصيدة الشفوية)... وقد ترد المفردات ذاتها لدى الماغوط في سياق آخر، لا طاقة شعرية فيه، ولا توتّر شعريّ. إن للشِّعر كله وظيفتَهُ التي عليه أداؤها ليُسمّى شعراً، وهي أن يُعيد ترتيب اللّغة ترتيباً غير معروف مسبقاً، ولا خاضعاً للمنطق، وعلى الشعر أن ينظّف اللّغة من الاعتياديّة، أو المباشرة، سواء استخدم لفظة (فيضها)، أو (رصيف). و ما قد نراه في (القصيدة الشفويّة) من لغةٍ يوميّةٍ من مثل:

 ((هنا أسكن/ ما رأيك لو ترى/ ما ألصقتُهُ البارحة على زجاج نافذتي/ وستقدّم عمَّتي لنا/ كوبين كبيرين من اللّيمونادة المثلجة/ أهلاً وسهلاً/ أهلاً وسهلاً)) (13).‏ 

فهذا لا يدخل في باب المفردات اليوميّة مطلقاً، لأننا أمام كلام يصل في إسفافه درجة ممتازة، ليس لأنه استخدم مفردات يوميّة، فلو دقّقنا جيّداً لرأينا أنه باستثناء (اللّيمونادة) فليس هناك مفردات خاصّة باليوميّة، ولكن لأن العلاقات بين هذه المفردات هي علاقات شاحبة لا ذوق فيها. وبهذا تتحطّم شعرية هذه الشفويّة... ومن المؤكد أن الماغوط لا يقبل لشفاهه أن تنطق بمثل هذا الكلام... لكن أبناؤه يمتلكون جرأة غير عاديّة على إطلاق العنان لمواهبهم المعدومة، دون رادع...‏

وفي سياق الشّفويّة المزعومة، يتَّفق (محمد جمال باروت) و(يوسف حامد جابر) على الاستشهاد، كلّ في كتابه، بعادل محمود مثالاً على شفوية القصيدة النثرية. ويقتطع كلٌّ منهما مقطعاً من القصيدة نفسها (متاعب فوتوغرافيّ). وكأن مجموعة عادل محمود ضاقت بالأمثلة حتى ينحصر (يوسف حامد جابر) بالمثال نفسه، أي القصيدة نفسها، ونحن نلومه هو لصدور كتابه (قضايا الإبداع في قصيدة النثر) عام 1991، بعد أن كان (باروت) أصدر كتابه (الشعر يكتب اسمه) عام 1981، وقد تكون (القصيدة) عظيمةً إلى هذا الحدّ، ولكن ما الذي يبرّر أن ينسخ (يوسف جابر) رأي (باروت) بالقصيدة فيقول: ((إنَّ متاعب هذا الفنّان الذي ارتقى بفنِّهِ، فكانت لوحاته الجميلة المتوزِّعة في معارض هذا العالم، يتلقّفها المشاهد ويسعى إليها، إحدى ثمار هذا التعب، هي نفسها متاعب العامل والفلاح عندما يضيع عملهما في لجّة الحياة. وهي نفسها متاعب الإنسان، كل إنسان، يريد أن يرتقي بإنسانيته إلى الأفضل)) (14). ألا يشبه هذا كلام باروت عن النصّ نفسه: ((إن متاعب هؤلاء الناس، الذين التقطتهم عدسة (الفوتوغرافي) هي نفسها متاعب الفوتوغرافيّ. إن عادل محمود ينجح في تطوير الخاصّ إلى العامّ، وتكثيف العامّ في الخاصّ))، من (الشعر يكتب اسمه)؟ هل أصبح نقدُ القصيدة الشفوية، شفويَّاً هو الآخر، تتوارثه الألسنة؟ إن مثل هذا التّطابق بين آراء الكتابين ليس الوحيد هنا، بل هو مبثوثٌ بذكاءٍ في عدد من المرّات، بين ثنايا كتاب يوسف حامد جابر... ولكن ليس هذا من شأن هذا النقاش هنا، مكتفين بالمثال السّابق.‏
مرة أخرى، ما امتيازات القصيدة الشفويّة، رأينا أنها تشترك مع القصيدة غير الشفويّة، في مناطق عديدة، وعندما تختلف عن (قصيدة الرؤيا) فهي تختلف عنها في درجة الشعريّة من حيث الموقف الأبرز، لا في استخدام كلمات فقط. يبقى المهمّ إذاً، إمّا تحقُّقُ الشعرية أو غيابها... وعندما احتمت (قصيدة النثر) بالشفوية، سَمَحَتْ لنفسها أن تخسر كلمة (قصيدة) محافظةً على (النثر)، والرديء منه، لأنها أثبتت فشلها في إنجاز مهامّ الشعرية، فقامت بإلحاق السّبب بأنها شفوية وتستخدم المفردات اليومية.‏
وإذا أوغلنا في كتابة الماغوط، اكتشفنا أنها كتابة تحقّق الشعرية، لأسبابٍ لا تعود إلى الشّفويّة، بل تعود للموهبة والقدرة الفنية على صناعة نسيجٍ أدبيّ يمتع ويدهش ويمتلك أعماق القارئ. ولا تعني بساطة كتابات الماغوط تطابقاً مع الواقع، فلا واقع الماغوط بسيطٌ، ولا كتابتهُ بسيطة، بل إن نظرة الأبناء الخارجين على جمال الماغوط، هي وحدها النظرة البسيطة إلى حدّ التَّسطيح...‏





الأسبوع الأدبي –سوريا

1 comment: